مسلسل «أمّة الصحراء»: دراما صوتية من قصص العرب
يبدو أن الدراما الرمضانية المصرية قد خاصمت الأعمال التاريخية منذ سنوات، فلم يعد حضورها كما كان في السابق، بل وبدا أن التوجه العام كله الآن يتمحور حول الأعمال الاجتماعية، والكوميدية، والإثارة والأكشن، ولكن لاشك أن للأعمال التاريخية بريقها وثراءها، لاسيما إذا كان الإعداد لها وتقديمها جيدًا، حتى وإن بقيت متابعتها على الشاشات التلفزيونية أقل (شهد هذا العام حضور مسلسلين تاريخيين أولهما عن «ابن حنبل»، والآخر باسم «قناديل العشاق»)
ولاشك أيضًا أن الرهان يكون قويًا حينما يكون العمل «إذاعيًا» ليس معروضًا على قنوات التلفزيون التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ويبدو أن لهذا النوع من الأعمال جمهوره الخاص الذي يحب أن يسمع ويتابع عملاً دراميًا أدبيًا يرتقي بذوقه ووجدانه، بعيدًا عن عالم الإثارة والضوضاء وفوضى الإعلانات التي غزت كل الشاشات.
ربما جاء من هنا المشروع الطموح لإنتاج مسلسل إذاعي بالكامل على الإنترنت الذي أنتجه وأذاعه موقع «رواة» على «ساوند كلاود» تحت اسم «أمّة الصحراء» واعتمد على حلقات منفصلة تحكي كل واحدةٍ منها حكاية من قصص العرب جاء ذلك من خلال فريق عمل من أصواتٍ شابّة ومعدين ومصححين لغويين خرجوا بالعمل على نحوٍ جيدٍ إلى حدٍ كبير.
جاء المسلسل في 16 حلقة، تطوف بين «قصص العرب»، ولعل أول ما سيلاحظه المتابع للمسلسل أن صانعيه لم يتقيدوا بفترة زمنية بعينها، ولا بإطار فكري أو منهجي محدد، بل جاءت القصص والحكايات من كل صوب وعلى كل طريق، جامعين بين القصص الطريفة والدرامية والعادية، بين تلك التي تحتوي على قيمة أو حكمة، وبين الحكايات التاريخية العابرة.
من ذلك مثلاً حكاية «كيدهن عظيم» التي بدأت بها حلقات المسلسل، وكانت خير بداية، تلك القصة التي تُروى عن «هند بنت النعمان» التي كانت زوجة الحجاج فطلقها فردت عليه تكيده؛ «الحمد لله الذي أبدل درهمي بدينار» ولمّا طلبها «عبد الملك بن مروان» وتزوجها قالت له «هذا اللؤلؤ الثمين زينة الملوك ولكن قدّر له أن يثقبه الغجر» في إِشارة لكونها تزوجت قبله.
تعكس هذه القصص والحكايات جوانب من حياة العرب في الجاهلية والإسلام، وتوضح عددًا من أخلاقهم وطباعهم، ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في تلك الحكايات بشكلٍ عام هو حضور المرأة القوي عند العرب، حيث سمعناها تحث الناس على القتال (كما في حكاية شعر يهزم سيف كسرى)، كما وجدناها تفاضل بين أمان قومها والحرب والجوع (في حكاية عروة الصعاليك) وغيرها من الحكايات الطريفة والمؤثرة.
لعل تلك القصص التاريخية كانت بحاجة إلى أن يُذكر في كل حلقة المصدر التاريخي الذي رجع إليه المؤلف فيها، فهذا التوثيق مهم خاصة إذا وجد تضارب أو تعارض في بعض القصص والحكايات (مثل حكاية «سبق السيف العذل» وحكاية «سجاح» التي وردت في المصادر التاريخية، ولم يذكر أنها تراجعت عن ادعاءها النبوة) لاسيما والعمل مطروح على الإنترنت أمام المستمع الشغوف بمثل تلك القصص الذي ربما يسارع للحث عن تلك الحكايات ومثيلاتها في محركات البحث القريبة من أصابعه.
كما جاءت القصص التي لا يتعدد الرواة والمواقف فيها أكثر تماسكًا وتوفيقًا من غيرها، فحكاية مثل «عطر أمير المؤمنين» تتداخل فيها الحكاية الأساسية التي تروي موقف الخليفة مع الرجل الذي جاءه يشكو من السرقة، والحيلة التي وضعها لكشف السارق، وبين الحروب التي كان يخوضها في نفس الوقت، وغير ذلك من الحكايات التي تتداخل فيها الأصوات وتتعدد مما يجعل التركيز معها أقل.
أجاد المخرج والمؤلف في اختيار عدد من القصص العربية وانتقلوا بسلاسة بين القصص الجاهلية والإسلامية في عهد الرسول وحتى الدولة العباسية، ولم تكن القصص والحكايات حكرًا على فترة بعينها، ولعل هذا ما يمنح لمثل تلك الحكايات قيمة أخرى، حيث جاء ذلك التنوع لصالح العمل بشكلٍ عام، إذ لا يجبر المستمع على متابعة الاستماع للقصص بترتيب معيّن، بل يمكنه الاستماع لما شاء.
كان المخرج موفقًا كذلك في استدعاء معلقة «عمرو بن كلثوم» الشهيرة التي تعبّر عن الفخر والعزة لكي تكون تتر المقدمة والخلفية الموسيقية للحكايات، تلك المعلقة التي تقول كلماتها:
كما كانت الموسيقى التصويرية في العمل جزءًا مهمًا ومعبرًا بشدة عن أجواء الحكايات، لاسيما ما جاء منهم في أصوات المعارك وصلال السيوف، كما جاءت خلفيات الأصوات معبّرة أحيانًا عن الضجيج في المجالس، والحركة والركض والضرب وغيرها من أصواتٍ لازمة لبيان الموقف، وجاء الإخراج الصوتي موفقًا كذلك في عرض القصة ومواضع السكوت والوصل والوقف، حيث أصبحت «طريقة الكلام» هي الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الكلمات، إلا أن الأمر لم يسلم من بعض «الهنات» الصوتية في الأداء، حيث جاء مؤدي صوت «اليهودي» مثلاً بصوتٍ «أخنف» كما اعتادت الدراما المصرية تقديمه في أعمالها.
يبقى في النهاية أنها تجربة جديدة وموفقة لتقديم عمل إذاعي يستقي موضوعه من التاريخ، يضيف إلى الدراما الرمضانية نكهة عربيةً خاصة.