مسلسل «نسل الأغراب»: فن الاستمتاع بالرداءة
في موسم درامي متخم بالأعمال لاقى مسلسل «نسل الأغراب»، لمخرجه محمد سامي، هجومًا وسخرية شديدين. شبَّه رواد مواقع التواصل الاجتماعي ملصقات المسلسل الدعائية والتي تحمل وجهي نجمي العمل أحمد السقا وأمير كرارة بملصقات فيلم «كونج ضد جودزيلا»، وحشان أسطوريان خالدان يتواجهان في قتال حتمي، بأفواه مفتوحة وأسنان مرعبة.
كانت تلك لمحة بسيطة من حجم المغالاة التي يتبناها العمل، فبعد عرضه تبينت ملامح أكثر ضخامة من الإنتاج الهائل والقصور الفارهة والأضواء الذهبية المتلألئة وحتى طبيعة الأزياء. تقع الأحداث في قرية صعيدية متخيلة، وتتمحور حبكته حول خلاف عابر للأجيال بين ابنين لعائلة واحدة تسمى «الغريب». يخرج عساف الغريب (أحمد السقا) من السجن بعد انقضاء عقوبة مدتها 20 عامًا فيجد غفران الغريب (أمير كرارة) قد تزوج من امرأته جليلة (مي عمر) وسيطر على القرية وتبنى ابنه. قصة انتقام بسيطة وتقليدية في ظاهرها، لكن جماليتها المتطرفة جعلتها عرضة للاستهزاء والمشاهدة الساخرة.
يتبنى العمل ذوقًا رديئًا غير واعٍ لذاته، بل يعتبر نفسه ملحمة معاصرة يتخللها أداءات تمثيلية منغمسة في إفراطها تهدف لإثارة الإعجاب والرهبة في قلوب المتلقين، لكنها على العكس تمامًا تثير الضحك والسخرية في البداية، ثم تجمع حولها متابعين دؤوبين ينتظرون بشغف ما يعون رداءته تمامًا، فقط ليستمتعوا به بشكل ساخر. يحدث ذلك في خضم موسم مليء بالأعمال الرديئة فنيًّا، فكان من الممكن أن يلقى نفس المصير، فلماذا لم يُنبَذ «نسل الأغراب» تمامًا بعد حلقة أو اثنتين مثل الكثير من نظرائه، يمكن تفسير ذلك بعدة أسباب، أحدها هو الإفراط في تلك الرداءة وتبني أسلوب خيالي وضخم يمكن وصفه بـ«الكامب».
لماذا نستمتع بالرداءة
بزغ في ستينيات القرن الماضي أسلوب، أو بشكل أدق طريقة لاختبار العمل الفني تسمى «الكامب Camp»، تميزها رداءة تثير الاهتمام بشكل كافٍ لتصبح ممتعة. ارتبط ذلك الأسلوب بالثقافات البديلة، واتسم بالإفراط الشكلي الشديد في الأزياء والديكور والمكياج.
ارتبط أيضًا بالطبيعة التنكرية العابرة للنوع من رجل لامرأة والعكس، وما يصاحب ذلك من مبالغة في إبراز الخصائص الشكلية والحركية لكل جنس. الكامب يصف ما هو متصنع ورديء المستوى. هو أسلوب ضد الواقعية والطبيعة ويجعله تطرفه ممتعًا ومسليًا، فيصبح الفاصل بين الاستمتاع بالفن جيد الصنع والرديء هشًّا، لكن اختيار استهلاك ذلك النوع من الفن هو فعل واعٍ مدرك تمامًا ما هو الذوق السيئ، لكنه يتجاهل ذلك للانغماس في تجربة مشاهدة ساخرة.
في عام 1964 كتبت سوزان سونتاج مقالًا بعنوان «ملحوظات على الكامب»، تسرد فيه عدة نقاط تميز تلك الظاهرة وصعوبة تحديدها ووصفها، لكن ما ركزت عليه في نقاط متتابعة هو كيف أن تلك المغالاة عادة ما يكون هدفها الرئيسي جدية صارمة، نية حقيقية في صنع عمل يخاطب مشاعر صادقة بعيدًا عن السخرية، في بناء عالم ضخم ومؤثر وملحمي، لكن عندما تفشل الجدية تبقى تلك المحاولة سببًا كافيًا لمتابعة العمل أو رؤيته بعين جديدة بسبب غرابته الشديدة، غرابة تتسم بسمات معينة بعيدة عن الطبيعية أو التلقائية، مغمورة في التصنع وربما الابتذال، لكنها فارهة ولامعة، مثل عقد ذهبي يكاد يكون حجمه أكبر من السيدة التي ترتديه، أو شخصية تكشف عن أسنانها الفضية في وجه عدسة كاميرا قريبة قاصدة التخويف فتحصل في المقابل على الضحك والسخرية.
يصنع نسل الأغراب عالمًا من الشخصيات والعلاقات المتشابكة بطابع بصري مبهرج، ضخم وسحري، ليس ساحرًا لكنه يبدو من عالم آخر، عالمًا يشبه ذوق من يملكون الكثير من المال دون ذائقة مناسبة لانتقاء الأثاث والملابس، قصور فارهة مذهبة، وإضاءات تأخذ أشكالًا حيوانية ملتفة، ودرج لولبي هائل مثل مداخل بيوت مصاصي الدماء. عالمًا دون اعتدال، كل عنصر فيه خارج عن المألوف، عالمًا تتواجد فيه سيارات الدفع الرباعي الضخمة بجوار الخيول المزينة، وتبدو كل شخصية فيه وكأنها نسخة كاريكاتيرية من مفهوم مجرد عن كيف يبدو الصعيدي الشرس أو المرأة الصعيدية الفاتنة التي تعشق المجوهرات الضخمة.
يظهر الجميع في زي تنكري لشخصيات كارتونية وكأنه أداء داخل أداء بشكل واعٍ لتصنعه، لكنه في حقيقة الأمر خيار بريء وساذج هدفه الرئيسي إفراط جدي وصنع شخصيات مهيبة على غرار أشرار عالميين مثل «بيل الجزار» في فيلم «عصابات نيويورك» أو حتى «الجوكر».
يُصوَّر بطلا العمل بشكل أقرب لنماذج حيوانية كرتونية، لا يملكان ردود أفعال تلقائية أو طبيعية، يتلفظان بتركبيات جمل غرائبية تثير السخرية عوضًا عن تنفيذ هدفها الأصلي، وهو أن تصبح اقتباسات أيقونية. يصور «نسل الأغراب» شخصيات أكبر من العالم الذي تعيش فيه، تملك سيطرة واسعة على كل شيء، وسمات شكلية مميزة ومفرطة، أعين مكحلة بثقل وأسنان صناعية لامعة.
يملك غفران أسدًا ضاريًا كحيوان أليف، تتشابه ملامحهما وردود أفعالهما، الهجوم المفاجئ والضراوة والأعين الثاقبة، بينما شخصية عساف هي أقرب لقرش كارتوني يستمتع برائحة الدماء ويكشف عن أسنانه الفضية دون مبرر وبشكل من المفترض أن يزرع الخوف في نفوس من أمامه. لا يتوقف الإفراط عند البصريات، لكنه يمتد لما نسمعه كذلك، يصاحب كل مشهد موسيقى مسرحية أوركسترالية ضخمة، تشبه في لحنها باليه «بحيرة البجع» لتشايكوفسكي، تصاحب تلك الملحمة الراقصة أكثر المشاهد عادية، دقات طبول ضخمة بمجرد ظهور شخصية على الشاشة، وآلات نفخ زاعقة في خلفية أصغر الأحداث.
أين يتوقف الهوس بالضخامة
قدم العديد من صناع الدراما هذا العام أعمالًا متوسطة أو رديئة، لكن وحده نسل الأغراب الذي غالى في محاولته في الجدية. طموحه كان هائلًا فيما يتعلق بشكل العمل وطبيعته الضخمة. يصعب أن يقدر له الصمود واعتباره قطعة فنية يستمتع بها المشاهد بسبب رداءتها في المستقبل، لكنه أصبح كذلك وقت عرضه، حدث ذلك له عن طريق المصادفة، عن طريق الطموح والثقة الكبيرة التي امتلكها صانعوه في جدية محتوى عملهم.
لا يوجد الكثير من الغموض بين أفكار صناع الأعمال في الوقت الحالي وبين منتجهم النهائي. يروج محمد سامي لنفسه باعتباره مخرجًا ملحميًّا يصنع دراما ضخمة وشخصيات معقدة ومتشابكة تملك كاريزما كبيرة، يأخذ نفسه بجدية، ويأخذ ممثلو الأدوار شخصياتهم بنفس الجدية، لا مجال للسخرية هنا أو الوعي الذاتي بالمغالاة. في العام الماضي استخدم الميلودراما كأداة غير مقصودة على الأرجح في صنع عمل تابعه الجميع بسبب تميز شخصياته وأداء ممثليه، ذلك العام استدعى أسلوبية الكامب بالمصادفة كذلك لميله للإفراط بشكل عام.
على مدى مشواره كمخرج تباهى سامي بأن له أسلوبية خاصة، بداية من استخدامه الزوايا المائلة مرورًا بكتابة شخصيات ذات طابع ضخم وعارم، يسعى للإضافة في كل عمل، ليس الإضافة الفنية أو محاولة النضج على المستوى البصري أو الكتابي، لكن الإضافة بمعنى الزيادة، أن يصبح كل شيء أكبر وأكثر في الحجم والتأثير العاطفي.
أدى هوس الضخامة ذلك في ذروته إلى مسلسل «نسل الأغراب». تملك أعماله جمهورًا صادقًا بالطبع، لكنها تملك في المقابل الكثير من الساخرين. نشر سامي على انستجرام صورة لتصميم أحد المنتجات الغذائية يحمل اسم نسل الأغراب، يشكر فيها جمهوره الذي يتفاعل مع أعماله حتى من قبل عرضها، ويذكر عدد المشاهدات للبرومو الدعائي والذي تجاوز أي عمل آخر، ويختم بالتعبير عن شكره لفريق عمله ومجهودهم الجبار الذي أعانه على صنع «أحسن عمل بالنسبة له»، فإذا كانت الجودة مرتبطة بحجم مواقع التصوير ومبالغات التمثيل فذلك هو العمل الأفضل بالتأكيد.