مسبار باركر الفضائي: رحلة البشرية لملامسة الشمس
ما الذي يرعبنا اختفاؤه من كوننا؟
من رواية في ممر الفئران، د. أحمد خالد توفيق
ما الذي يجعل نظامنا الشمسي قائمًا، أو الكواكب تسير في مداراتها في الفضاء بانتظام ودون تخبّط، أو النباتات تزهر في تربة الأرض، وينعم الناس في هذا الكوكب -إلى حدٍ ما- بصحة جيدة؟
إنها الشمس، نجمنا الأعظم الذي تدق قلوبنا بمشاعر رهبة مختلطة بالخوف والقلق إذا حُجب ضوؤها خلال النهار في كسوف كليّ. سيناريوهات كثيرة نعرفها إن غابت، أسهلها فقدان درجة الحرارة، تجمّد الأرض وموت من عليها جميعًا. نعم إنها قدس الأقداس، ونجم العوالم الحيّة، سر الحياة على الأرض، تمنحنا الحياة كاملة، لكنها مقدّسة في مركزها في المجرة، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، ولهذا، لطالما أراد الجميع معرفة أي شيء عنها. إنه فضول البشرية كما تعلمون.
أبحاث متعددة حاولت تفسير وقراءة الصور الواردة منها، وعملت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا والمؤسسات البحثية طويلًا من أجل إرسال أي وسيلة تتحمل لهيبها، وطاقتها المهولة إلى جوّها وغلافها! كانت هذه المهمة مستحيلة طوال عقود مضت، فإذا اقتربنا من الشمس، فسنجد منطقة الإكليل – corona التي تحيط بها، تتراقص فيها الرياح الشمسية المليئة بالبلازما بدرجات حرارة تصل إلى أكثر من 1666649 درجة مئوية!
من سيقترب من هذه المنطقة يجب أن يكون محصنًا جيدًا وبشكل غير مسبوق ضد الانصهار. لذلك أعدّت ناسا العدة، وها هي تستعد لإطلاق أول مسبار فضائي نحو الشمس في الحادي عشر من الشهر الجاري (غدًا)، في سابقة تاريخية للبشرية لم يعرف لها مثيل. مرحبًا بكم على متن الرحلة الأولى نحو الشمس!
الفدائي الأول نحو الشمس
على متن صاروخ فضائي عملاق، سيُحمل المسبار «Parker Solar Probe» إلى الشمس. هو أول مسبار يطلق في مهمة كهذه. سمّي المسبار تيمنًا بعالم الفيزياء الفلكي المعاصر «يوجين باركر»، مواليد 10 يونيو/حزيران 1927، في ميشيغان. أحب مجال التخصص -الفيزياء الفلكية- خلال المرحلة الثانوية، فحصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء من جامعة الولاية، ودرجة الدكتوراه من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عام 1951. قام بالتدريس في جامعة يوتا، وشغل مناصب متعددة في هيئة التدريس في جامعة شيكاغو ومعهد فيرمي منذ العام 1955.
اقترح باركر في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين عددًا من المفاهيم والفرضيات حول كيف تبعث النجوم طاقة خارجية، وفي ذلك شمسنا. كانت هذه المفاهيم تصف درجات الحرارة الخارجة من الشمس، ووجود تيارات أسرع بكثير من الجسيمات المشحونة، أصبحت تعرف بما نطلق عليها الآن مصطلح «الرياح الشمسية – solar winds».
كما وصف نظامًا معقدًا كاملًا من وجود البلازما، المجالات المغناطيسية والجسيمية النشطة التي تشكل هذه الظاهرة. وضع باركر أيضًا تفسيرًا لمنطقة الإكليل الشمسي -التي ذكرناها في الأعلى- شديد الحرارة. تقترح نظريته أن الانفجارات الشمسية منتظمة لكن صغيرة تسمى «nanoflares»، حيث تسبب كمية وافرة منها إنتاج درجات حرارة هائلة.
كيف سيصل المسبار للشمس؟
ينطلق الصاروخ حاملًا المسبار بسرعة تصل إلى 40233.6 كم/ساعة إلى مداره، ثم يبدأ المسبار رحلته بالدوران حول الشمس.
خلال عملية التحليق والدوران حول الشمس سيصنع المسبار 24 مدارًا حولها، باستخدام جاذبية كوكب الزهرة من أجل عمل سبع معاينات للجاذبية. يبدأ المسبار بالاقتراب تدريجيًا حتى يصبح على بعد 6.2 مليون كم من الشمس، وبهذا يكون اللقاء الأول بينهما قد تم بعد مرور 3 أشهر من انطلاقه. الجدير بالذكر أن المسافة بين الأرض والشمس تقدّر بـ 149.6 مليون كم. لك أن تتخيل الظروف التي سيقبع فيها المسبار هناك. ستطول مدة بقائه إلى 7 أعوام لدراسة نجمنا الأعظم، وجمع كل المعلومات المطلوبة.
هيا لنبدأ العمل
سيواجه المسبار حرارة وإشعاعًا قاسيًا ليقوم بمهمته في تزويد البشرية بملاحظات جديدة عن نجمهم لأول مرة. فعندما يقترب من منطقة الإكليل، سيقوم بالقياس والتصوير من أجل توفير معلومات عن شمسنا، وبهذا سيحدث ثورة في فهمنا لها ولمنطقة الإكليل الخارجية، وتوسيع معرفتنا بأصل وتطور الرياح الشمسية.
سيقوم بمهام مثل تتبع حركة الطاقة والحرارة عبر الغلاف الجوي للشمس، واستكشاف الظروف المتغيرة في النظام الشمسي،كما سيساهم في تطوير قدرتنا على التنبؤ بالتغيرات في بيئة الفضاء الأرضية، والتي تؤثر بدورها على الحياة والتكنولوجيا على الأرض.
وحتى يقوم المسبار بأداء وظيفته بشكلٍ جيد،تمت حمايته بدرعٍ واقٍ مصنوع من الكربون، تصل سماكته إلى 11.4 سم، حيث يستطيع تحمل درجة حرارة تصل إلى 1377 درجة مئوية. يصل ارتفاع المسبار إلى نحو 3 أمتار، وبشكل منشور سداسي يصل قطره إلى 2.3 متر.
1. مستكشف إلكترونات الرياح الشمسية «SWEAP»، الذي سيحدد الجسيمات الأكثر وفرة في الرياح، ويقيس خصائص الإلكترونات والبروتونات وأيونات الهيليوم.
2. جهاز تصوير ذو المجال الواسع لـ «WISPR»، هو تلسكوب يعمل على تصوير منطقة الإكليل بصورة ثلاثية الأبعاد، وتصوير الغلاف الداخلي للشمس – Heliosphere، حتى يمكن العلماء من «رؤية» تفاصيل الرياح الشمسية. سيعمل أيضًا على توفير صور ثلاثية الأبعاد لما سيتعرض له المسبار خلال رحلته.
3. مستكشف الحقول الكهرومغناطيسية «FIELDS»، والذي سيوفر قياسات مباشرة للموجات الصّدمية التي تمر عبر البلازما الجوية في الغلاف الجوي.
4. مركز بحث علمي متكامل للشمس. يتكون من جهازين يعملان على تنقيح وجرد العناصر في الغلاف الجوي للشمس باستخدام مطياف الكتلة، لدراسة الجسيمات المشحونة بالقرب من المسبار.
العملاق «دلتا فور هيفي»
الصاروخ دلتا فور هيفي
الصاروخ الذي سيحمل المسبار إلى الشمس. شكله العام يذكّرك بشيء ما! نعم، هو يشبه الصاروخ العملاق «فالكون هيفي» التابع لشركة «spacex»، لكنه مختلف عنه بالتأكيد. يعد الصاروخ «دلتا هيفي» أحد أقوى أنظمة الإطلاق في العالم التابعة لناسا. استخدم في أعمال مختلفة بعيدًا عن المهام الفضائية، مثل إطلاق الأقمار الصناعية العسكرية، وإطلاق مركبة الفضاء «أوريون» نحو كوكب المريخ بنجاح في الخامس من ديسمبر/ كانون الثاني عام 2014.
عودة بالزمن لمشاهدة عملية الإطلاق:
كانت المركبة الفضائية تسير بسرعة قصوى، لم تسبقها مركبة فضائية منذ رحلة الفضاء المأهولة أبولو 17 ديسمبر/ كانون الأول 1972. ارتفعت المركبة بواسطة الصاروخ إلى نحو 5793 كم فوق سطح الأرض، أي أعلى من موقع محطة الفضاء الدولية بأربع عشرة مرة.
كان الإطلاق الأول لصاروخ «دلتا فور هيفي» من محطة «كيب كانافيرال» الجوية بالقرب من أورلاندو، فلوريدا في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2004. فشلت هذه العملية، وتسبب خلل في منطقة الدعم الأساسية في عدم وصول القمر الصناعي الذي كان على متنه إلى مداره الصحيح. ولم يصل اثنان آخران «3CS-1 و 3CS-2» إلى مدارهما أيضًا.
تم تطوير عائلة دلتا من الصواريخ من قبل «ماكدونيل دوغلاس»، ثم «ائتلاف الإطلاق المتحد – United Launch Alliance». الصاروخ «دلتا فور هيفي» هو النسخة الأثقل ضمن العائلة مقارنة بالصواريخ الصغيرة الأخرى، مثل الصاروخ «دلتا فور ميديوم».
يبلغ طول الصاروخ هيفي نحو 72 مترًا، ويحمل وزنًا إلى مدار النقل المستقر حول الأرض يصل إلى 13810 كلغ، ووزنًا إلى مدار الأرض المنخفض يصل إلى 28370 كلغ. يتكون من جزأين أساسيين، الدعم الأساسي واثنين من معززات الإطلاق. الجزء الأساسي «Common Booster Core» يصل ارتفاعه إلى 40 مترًا، بقطر 5.1 متر، ووزن إجمالي يصل إلى 226,400 كم. الجزء الثاني «Delta Cryogenic Second Stage» يصل إلى 13.7 متر، وقطر 5.1 متر أيضًا، ووزن إجمالي يصل 30,700 كم.
مؤخرًا، تجاوز الصاروخ «Falcon Heavy» التابع لشركة SpaceX مجموعة «Delta IV Heavy»، باعتباره أقوى صاروخ إطلاق من حيث الكتلة، بعد رحلة اختبار ناجحة في فبراير/شباط 2018.
اقرأ أيضًا: صاروخ Falcon Heavy: خطوة SpaceX العملاقة نحو المريخ
تويتات لطيفة من عوالم أخرى. يوضح إيلون ماسك الرئيس التنفيذي والمؤسس لـ spacex أن عملية إطلاق الصاروخ «فالكون هيفي» كلفت 150 مليون دولار فقط، في حين أن عملية إطلاق الصاروخ «دلتا فور هيفي» ستكلف 400 مليون دولار.
هنا يرد عليه «توري برونو – Tory Bruno» الرئيس التنفيذي لائتلاف الإطلاق المتّحد بتويتة لطيفة، يهنئه على مدى نجاح صاروخه العملاق، ويخبره أن عملية إطلاق الصاروخ «دلتا هيفي» ستكلف بالفعل ما يقرب من 400 مليون دولار. تحديدًا 350 مليون دولار!
لماذا ندرس الشمس والرياح الشمسية؟
الشمس هي أقرب النجوم لنا، ومن خلال دراستها، يمكننا التعرف أكثر على النجوم في الفضاء. وبما أن الشمس هي مصدر الضوء والحرارة للحياة على الأرض، فكلما عرفنا عنها أكثر، استطعنا فهم كيف تطورت الحياة على كوكبنا.
أهم ما فيها أيضًا أنها مصدر الرياح الشمسية التي تشغل حيزًا كبيرًا من النظام الشمسي، وتسيطر بشكلٍ واسع على بيئة الفضاء، كما تدفع بالغازات المتأينة من الشمس إلى الغلاف الأرضي بسرعات تزيد عن 500 كم/الثانية. تحدث الرياح الشمسية ظاهرة «الأورورا» في القطبين. تأمل عِظم هذا التصميم، رياح شمسية خطرة تتحول لمنظر مذهل من ألوانٍ متقلبة تسر الناظرين إلى السماء، لمجرد أن هناك عازلًا يفصلها عنك!
تؤثر الاضطرابات في الرياح الشمسية على الحقل المغناطيسي للأرض، وضخ الطاقة في الأحزمة الإشعاعية؛ وهي جزء من مجموعة من التغيرات في الفضاء القريب من الأرض تعرف باسم «الطقس الفضائي». يمكن للطقس الفضائي أن يغير مدارات الأقمار الصناعية، أو يتداخل مع الإلكترونيات الموجودة على متنها. لذا كلما تعلمنا أكثر عن أسباب ونمط الطقس الفضائي وكيفية التنبؤ به؛ مكّننا ذلك من حماية الأقمار الصناعية التي نعتمد عليها بشكل كبير في حياتنا.
مهم: يمكنك مراقبة العد التنازلي لوقت الإطلاق من هنا: NASA Parker solar probe
سيتم الإطلاق في يوم السبت الحادي عشر أغسطس/آب 2018، الساعة 9:30 صباحًا بتوقيت القاهرة.