ناسا والتحضيرات الأخيرة للرحلة نحو العنقاء
الأرض لم تعد تكفي، ولا تشكل السماء حدًا لأحلامنا، نحن اليوم نعيش في أيام ستؤسس لاحقًا لحضارة تمتد على كواكب متعددة، وربما jصبح الأرض فقط حينها «كوكبنا الأم»، عندما نقطن في المريخ أو ربما حتى في قمرٍ من أقمار زحل أو المشتري، أو قد نحاول الخروج من مجرتنا ونسعى لاستعمار أحد الكواكب الخارجية الشبيهة بالأرض، تلك التي كان وما زال كبلر يبحث عنها.
لكن لبداية رحلة جنسنا البشري في الفضاء، لا بد لنا من إيجاد الموارد الأساسية للحياة، ولا بد من صناعات وتجارات جديدة تقود ذلك العالم الجديد، عالم إيلون ماسك – ملك المريخ – الذي يصبح فيه البشر «حضارةً متعددة الكواكب»، وعالم جيف بيزوس الذي يريد أنّ يبدأ بنقل الصناعات والمعامل إلى كواكب أخرى للحفاظ على سلامة كوكب الأرض، تختلف الدوافع إذًا، لكن تبقى النتيجة واحدةً: نريد معرفة المزيد عن الحياة خارج الكوكب الأزرق الصغير، عن الثروات الكامنة في الحجارة المحلّقة في مجرتنا على الأقل!
نبحث في المذنبات والكويكبات المختلفة لأهداف متعددة منها البحث عن الثروات المعدنية والاستعداد لتجارة وصناعة جديدة تُسمى تعدين الكويكبات، ولأهداف علميّة تسعى لاستقصاء أصل الحياة والبحث عن جيران لنا في نظامنا الشمسي الواسع، لذلك كانت مهمة روزيتا التي درست المذنب شوريموف-جيرازيمنكو، بعد رحلة وتخطيط استمرا قرابة عقدٍ كامل، أما الآن وفي حالة شبيهةٍ بروزيتا، وصلت المركبة OSIRIS_REx إلى مركز كيندي التابع لناسا في فلوريدا استعدادًا للانطلاق في رحلتها قريبًا.
نحن لا نريد احتلال الفضاء، نريد توسيع حدود الأرض فقط
إنّها المهمة الأمريكيّة الأولى من نوعها،شراكة بين ناسا وجامعة أريزونا وشركة لوكهيد مارتن، في سعي حثيث للوصول إلى كويكب قريبٍ من الأرض، الكويكب المُسمّى بينو Bennu، هذا الاسم المصري الذي اختاره في 2013 طالب برازيلي في الصف الثالث الابتدائي، مايكل بوزيو، وبينو هو طائر في الميثولوجية الفرعونية يشبه إلى حدٍ كبيرٍ الطائر الأسطوري العنقاء، فهو لا يعرف الموت ولا النهاية، بل حتى أنّه لعب دورًا في نشأة العالم وأصل الحياة، وكان ذو علاقة بأوزيرس Osiris إله عالم الموتى ووالد حورس، إله الشمس.
عنقاء خالدة، إله الموتى، لكن هذه المرّة في الفضاء، المركبة OSIRIS-REx تحمل اسم إله عالم الموتى، لكن ناسا حمّلت هذا الاسم اختصارات عدّة تُعبر عن المهمة المرجوة وأهدافها وهي:
Origins, Spectral Interpretation, Resource Identification, Security – Regolith Explorer.
وهي بالترتيب:
الأصول :أي دراسة أصل الحياة، فالكويكبات والمذنبات هي بقايا حدث عظيم، ألا وهو ولادة النظام الشمسي، أيّ أنّها تحمل نفس المواد الأولية التي وُجدت منذ مليارات السنين ودراستها تساعدنا في فهم أصل الحياة في مجرّتنا بشكلٍ أكبر وأكثر وضوحًا، تفسير الطيف: لكل عنصرٍ كيميائيّ طيف محدد وبدراسة هذه الأطياف نعرف مما يتركب منه الكويكب حقًا.
تحديد المصادر، ويعني ذلك تحديد الثروات الطبيعية من ماء ومواد عضوية على الكويكب، والتي ستساعدنا في تأمين متطلبات الحياة في الفضاء.
الأمن: أي التأكد من سلامة كوكبنا، وذلك لوجود احتمالٍ باصطدام هذا الكويكب مع الأرض خلال 200 عام قادم، فبدراسة دقيقة لمسار الكويكب يمكننا تحديد الأخطار وتقييمها وربما حتى معرفة الوسيلة الأفضل لحماية أنفسنا منه، وأخيرًا، دراسة الصخور الموجودة على الكويكب وذلك مرةً أخرى لمعرفة ممَ يتكون هذا الكويكب وكيفية التفاعلات التي تجري على سطحه.
ستصل المهمة إلى بينو في 2018، وستقوم برسم خريطةٍ مفصلةٍ لسطح الكويكب خلال ستة أشهر ودراسة تركيبه عن كثب، ليقوم بعد ذلك الفريق العلمي للمهمة باختيار الموقع الأكثر ملائمة لاستخلاص العيّنة من هذا الكويكب، عيّنة قد تحمل تاريخًا يُقدر بعمر 4 مليارات ونصف من تاريخ الكون.
الفشل ليس خيارًا
تمثل الكويكبات نماذج قريبةً للمصادر الخارج أرضيّة، وذلك لاحتوائها على الماء، المواد العضوية والأهم طبعًا، المعادن الثمينة، الماء والمواد العضويّة مهمةٌ لتأمين الحياة وتوفير الوقود الصاروخيّ لأسفارنا الفضائية، لبناء اقتصاد فضائيّ، أما بالنسبة للمواد المعدنية الثمينة فإنّ كويكبًا بقطر 10 أمتار تقريبًا، يُشكّل ثروةً بمقدار يصل إلى 10 ملايين دولار تقريبًا، 9 منها بشكل الحديد والنيكل والكوبالت، وكمية من البلاتينوم تُقدّر بمليون دولار.
لكن علينا أنّ نتذكر أنّ تكلفة OSIRIS_REx تُقدر بحوالي مليار دولار، أّيّ أنّ التكلفة عاليةُ مقارنةً بالنتيجة المرجوّة، لكن الكثيرين يعتقدون أن المستقبل هو لهذه الصناعة – تعدين الكويكبات – عندما نتمكن من السفر بحريّة إلى الفضاء.
تُسافر المركبة باستخدام الطاقة الشمسية، وتمتلك بطاريتي ليثيوم-أيون لتخزين الطاقة عندما لا تكون المركبة مُعرضةً للشمس بشكلٍ مباشر (عند الإطلاق وأخذ العينات)، كما تملك جهاز مراقبة يتألف من أجهزة تتبع النجوم، وحساسات شمسية، ومستكشف أشعة الليزر ومعالج صور على المركبة. ستغادر المركبة الأرض بسرعة حديّة تصل ل 5.4 كم\ثا على متن صاروخ Atlas V، ثم ستُقارب بينو بسرعة تصل ل 20 سم\ثا، وتعود في النهاية للأرض بسرعة 12.4كم\ثا.
الحدّ الأدنى المطلوب للعينة هو 60 جرامًا للقيام بالتجارب العلميّة، لكن كي لا نقع في خطأ الحساب ستقوم الأداة المخصصة بجلب 150 جرام، كما أن المركبة تستطيع إعادة المحاولة ثلاث مرات للحصول على هذه العينة، يأمل العلماء أن نحصل عليها في المرة الأولى، المحاولات الأخرى هي ملجأ أخير واحتياطيّ فقط.
وصلت المركبة أخيرًا إلى مركز كيندي للفضاء التابع لناسا في فلوريدا، بعد رحلة من مقر شركة Lockheed Martin، حيث قامت الأخيرة بتصنيع المسبار لناسا. يتمّ الآن فحص المركبة وتجهيزها بالوقود، والتأكد من سلامة أدوات الاختبارات العلمية ولوحات الطاقة الشمسية ونظام المركبة كاملًا، استعدادًا للإطلاق الذي سيتم في 8 أيلول/سبتمبر القادم. في 2018 ستصل المركبة إلى هدفها، الكويكب بينو Bennu وسيقوم المسبار بدراسة الكويكب لمدة سنتين، ليقوم بالحصول على عينة منه في 2020، و من ثم تعود بها المركبة إلى الأرض في 2023.
يُعتقد أنّ بينو قد يكون كويكبًا خطيرًا، أيّ أنّ هناك احتمالًا قائمًا باصطدام هذا الكويكب بالأرض، لذلك نستطيع بدراسته معرفة خطره فعليًا، وكيفية استطاعتنا الحدّ من هذا الخطر ببناء منظومة دفاعيّة للكوكب. ويُعتبر الكويكب خطيرًا عندما يكون بحجم 140 مترًا، وعندما يكون مداره قريبًا من مدار الأرض (قريبًا بمسافة 7.5 مليون كيلومتر) وذلك حسب وكالة ناسا.
لن تكون مهمة OSIRIS-REx الأولى في الوصول إلى كويكب وأخذ عينة منه، فقد سبقتها المهمة Hayabusa اليابانية في 2010، ولكنّ هذه المهمة تعتبر أيضًا جزءًا من برنامج ناسا New Frontiers، إضافةً إلى New Horizons التي درست الكوكب القزم بلوتو و Juno التي وصلت إلى المشتري للبدء في دراسته في 4 يونيو هذا العام.
ستساعدنا هذه المهمات في اسكتشاف كوننا ومعرفة خفايا وأسرار البدايات الحقيقية لنظامنا الشمسي، وتعطينا – ربما – أملًا في استمرار جنسنا حتى بعد الموت المحتوم لكوكبنا الأم.