تفترض هذه الورقة أن ثمّة سوقًا دولية لتبادل المنتجات الثقافية، ومنها الروايات، تقترب كثيرًا في مفهومها من مفهوم السوق الدولية الاقتصادية وعلاقات القوة التي تحكمها. وتفترض أن الترجمة بمعناها الواسع الذي يشير إلى التفاعل الثقافي، هي من بين أبرز الوسائل التي تعمل تلك السوق من خلالها. وما تحاول أن تمتحنه هذه الورقة هو مفهوم «زاوية النظر» الذي مفاده أن ظاهرة انتشار الجنس الروائي في أرجاء العالم تختلف رؤيتها تبعًا لموقع الناظر المكاني والزماني. إذ رأى «غوته» في عام 1827، وكان يقرأ رواية صينية آنذاك، أن:

الأدب القومي لم يعد يعني الكثير هذه الأيام؛ لقد بدأ عصر الأدب العالمي، وعلى الجميع أن يسهموا في التعجيل بقدومه.
وهذا ما رآه أيضًا «ماركس» و«إنجلز» عام 1848:
أحادية الجانب وضيق الأفق القوميان يغدوان مستحيلين أكثر فأكثر، ومن الآداب القومية والمحلية الكثيرة ينهض أدبٌ عالمي.

فهل يرى الناظر العربي، أو الصيني، أو الأفريقي أو البرازيلي، في محيط العالم أو هامشه، مثلما رآه هؤلاء الأوروبيون؟ وهل من جديد يمكن أن نطلع به لو نظرنا من هذه الزاوية؟

حتى القرن التاسع عشر، تقريبًا حتى ما بعد منتصفه، تطورت الأشكال السردية في مناطق العالم المختلفة باستقلال عن بعضها البعض، الأمر الذي يتضح من اختلاف السمات الشكلية ودلالاتها في كلٍّ من الرواية الأوروبية التي نشأت في القرن الثامن عشر وما عاصرها من أنماط سردية عربية أو سواها، حيث يسيطر في هذه الأخيرة التناظر الذي يحيل إلى الديمومة والاستمرار والتكرار، وسيادة البطل الجماعي (أسرة، فئة، جماعة، أمة.. إلخ)، وكثرة الشخصيات المحيطة بهذا البطل، وإيلاء الأهمية إلى ما هو متزامن..، بخلاف الأعراف الشكلية في الرواية الأوروبية، حيث كسر التناظر، والبطل الفرد، وإبراز تعاقب الزمن وإبرامه.. إلخ.

طوال فترة إقلاع الرواية الأوروبية (1750- 1850)، وبشكل أضيق بين 1816: 1850، تُظهِرُ سبل الترجمة أن معظم البلدان الأوروبية كانت تستورد نسبة كبيرة من رواياتها تتراوح بين 40 : 80% وأكثر، في حين شكّلت فرنسا وبريطانيا مجموعة وحدهما، ولم تستوردا من بقية أوروبا أو العالم سوى أقل القليل، لأنهما كانتا تنتجان الكثير من الروايات، ولم تكونا بحاجة إلى شرائها من الخارج. هكذا وقفت معظم بلدان أوروبا في الطرف المستورد الذي لا يكاد يصدّر شيئًا، والذي تآلف قرّاؤه مع الشكل الجديد عبر الروايات الفرنسية والإنجليزية التي غدت نموذجًا يُحتذى، في حين وقفت بريطانيا وفرنسا (ومعهما ألمانيا حينًا وروسيا حينًا آخر) في الطرف المصدّر، الأمر الذي يعني، حتى ضمن أوروبا، أن الأدب العالمي الذي أشار إليه غوته وماركس لم يكن كذلك تمامًا، بقدر ما كان إعادة إنتاج لزوجٍ من الآداب القومية وجدا نفسيهما في موقع محظوظ على نحوٍ خاص.

تصف «إليزا مارتي لوبيز» حال إسبانيا في أوائل القرن التاسع عشر، فتقول:

لم يكن القراء مهتمين بأصالة الرواية الإسبانية. إذ كانت رغبتهم الوحيدة التمسك بتلك النماذج الأجنبية التي ألفوها.
ويقول «ديفيد غاسبيريتي» عن بدايات الرواية الروسية:
نظرًا إلى تاريخ تلك المرحلة التي شهدت تشكل الرواية الروسية الباكر، لا عجب أن هذه الرواية اشتملت على حشدٍ من الأعراف التي كانت شائعة في الأدبين الفرنسي والبريطاني.
أما «لوقا توسكي» فيصف حال إيطاليا في العام 1800 بالقول:
كان ثمّة طلب على المنتجات الأجنبية، وكان على الإنتاج أن يمتثل.

هذا في أوروبا، أما في الإمبراطورية العثمانية والعالم العربي، فثمة إجماع على أن الرواية دخلت سلسلة الأجناس الأدبية الموجودة قادمةً من الغرب. وأن من وضع أسسها، كما يقول «يحيى حقي»، هم أشخاص تأثروا بالأدب الأوروبي، لا سيما الفرنسي. وهذا ما ورد أيضًا عند «أحمد إيفين» بصدد أصول الرواية التركية:

كتب أولى الروايات في تركيا أفراد من الإنتيليجنسيا الجديدة، كانوا يعملون في الخدمات الحكومية وتأثروا بالأدب الفرنسي.

الأمر الذي يذكّر، من جديد، بحال الروايات العربية الأولى التي تكاد جميعًا أن تكون قد كُتبت بأيدي إنتيليجنسيا من هذا النوع. ويكفي أن نشير إلى «خليل الخوري»، صاحب الرواية العربية الأولى، وَيْ.. إذًا لست بإفرنجي، الذي كان يعرف الفرنسية والتركية وتدرج في الوظائف حتى غدا مدير الأمور الأجنبية في سوريا، فضلًا عن كونه مترجمًا نشر عددًا من القصص المترجمة، وكان كثير من أصدقائه يترجمون بعض القصص والمقالات ويبعثون بها لينشرها في صحيفته «حديقة الأخبار».

يوجز الأمرَ كلٌّ من «إدوارد سعيد» و«روجر آلن»، بقول أولهما:

عرف الكتّاب العرب الرواية الأوروبية في لحظةٍ وراحوا يكتبون أعمالًا تشبهها.

وبإشارة الثاني إلى ما كان من صلات متزايدة مع الآداب الغربية أدت إلى ترجمة الأعمال القصصية الأوروبية إلى اللغة العربية، وما تلى ذلك من تبني هذه الأعمال ومحاكاتها، إلى أن بلغ الأمر ذروته بظهور تقليد محلي من القصّ الحديث المكتوب بالعربية.

الحال، إن هذا النمط من استيراد الرواية يكاد يكون هو ذاته في أرجاء المعمورة من البرازيل إلى الصين، الأمر الذي يضعنا إزاء مصير ثقافةٍ (من محيط العالم أو هامشه في العادة) تعترضها وتبادلها ثقافة (من المركز) تتجاهلها تجاهلًا يكاد يكون تامًا، ويقف وراءه تباين هائل في القوة، بحيث يبدو الأدب العالمي، من زاوية نظر المحيط أو الهامش، أدبًا عالميًا واحدًا بالفعل لكنه غير متكافئ. أدبٌ واحدٌ، نظام أدبيٌ عالميٌ واحدٌ (مؤلَّفٌ من الآداب المرتبطة فيما بينها) لكنه مختلف عما كان يأمله غوته وماركس لأنه غير متكافئ على نحوٍ عميق.

لكن اللافت هو التوقف المعتاد، في تناول هذه الظاهرة المتكررة من الاستيراد والمحاكاة والتشبه والتأثر.. إلخ، عند حدود الوصف وتسجيل الواقعة، من دون التأمل في ما يدعوه «فرانكو موريتي» «العلاقة بين الأسواق والأشكال» أو الذهاب فيها إلى النهاية: ذلك أنه إذا ما كان ثمّة إكراه قوي ومنهجي يمارسه أدب معين على آداب أخرى، فيجب أن نكون قادرين على تبين آثار هذا الإكراه ضمن الشكل الأدبي ذاته؛ لأن الأشكال هي في الحقيقة تجريد علاقات اجتماعية معينة.

يقول «سيد البحراوي»، في معرض تقديمه رواية «خليل الخوري» آنفة الذكر:

إن هذه الرواية استفادت من مفهوم الرواية الأوروبية في نمط بنائها للشخصيات المعمّقة، والعليّة المركبة لنتائج الأحداث وفي اللغة الحديثة السلسة، وفي الوقت نفسه استجابت للذائقة الشعبية للقراء العرب من خلال التسلسل الحكائي للأحداث وتقديم العادات والتقاليد الشامية آنذاك، دون أن يقع في ثنائيات وتناقضات من تابعوه وربما لم يعرفوه.
ويقول «روجر آلن» عن رواية «زينب» لـ«محمد حسين هيكل»:
من السهل أن نشير إلى مشكلات المغالطة النفسية هنا، حيث يتعرف حامد، الطالب في القاهرة، على أعمال غربية تتناول الحرية والعدالة كأعمال «جون ستيوارت مل» و«هربرت سبنسر»، ثم يتابع ذلك ويناقش مشكلة الزواج في المجتمع المصري بذلك المستوى الرفيع مع والديه اللذين لم يغادرا أعماق الريف المصري.

بل إن متى موسى يشير إلى كثير من الحالات في العالم العربي كان فيها مترجمو الرواية الغربية يأخذون حريتهم الواسعة وغير المحترسة أحيانًا مع النص الأصلي. فلم يكتف «يعقوب صرّوف» بتغيير عنوان رواية «سكوت تاليسمان» إلى «قلب الأسد وصلاح الدين»، بل اعترف أيضًا بأنه أخذ حريته بالحذف والإضافة وتغيير أجزاء من هذه الرواية كي يناسب ما اعتقد أنه ذوق الجمهور. وغيّر مترجمون آخرون العناوين وأسماء الشخصيات والمحتويات، وذلك، كما زعموا، كي يجعلوا العمل المترجم أكثر قبولًا لدى قرائهم وأكثر اتساقًا مع التقليد الأدبي المحلي.

لكنّ هذه الظاهرة، أو هذا الصدع بين ما هو أوروبي وما هو محلي، لا يقتصر على الرواية العربية، بل يتكرر في كل مكان من هامش النظام الثقافي العالمي أو محيطه. يقول «أحمد إيفين» لدى تناوله رواية «انتباه» للروائي التركي الباكر «نامق كمال»:

إن الثيمتين، الأولى القائمة على الحياة العائلية التقليدية والأخرى القائمة على توق امرأة عاهرة، تشكلان أول محاولة في القص التركي للتوصل إلى نمط من البعد النفسي الذي يُلحَظْ في الروايات الأوروبية ضمن إطار موضوعات من الحياة التركية. لكنّ تنافر الثيمتين والاختلاف في درجة الإلحاح المركز على كلٍ منهما يفضي إلى ثَلْم وحدة الرواية، فالعيوب البنيوية في رواية انتباه هي أعراض للفروق بين طريقة واهتمامات التقليد الأدبي التركي من جهة وطريقة واهتمامات الرواية الأوروبية من جهة أخرى.

يقول «هنري زهاو» في كتابه الذي يحمل عنوانًا لافتًا، «السارد القلق: الرواية الصينية من التراث إلى الحداثة»:

لعلّ التخلّع السردي في ترتيب الحوادث المتعاقب أن يكون الانطباع الأبرز الذي تلقّاه كتّاب الكنغ المتأخرون حين قرؤوا القص الأوروبي أو ترجموه. حاولوا في البداية أن يردّوا نتيجة الحوادث إلى نظام هذه الحوادث السابق على السرد ويرتّبونها ضمنه. وحين لم يكن مثل الترتيب ممكناً في أثناء الترجمة، كانوا يقحمون ملاحظة يعتذرون فيها عن تعذّر ذلك … والمفارقة أنّ المترجم حين كان يبدّل الأصل ولا يكتفي باتّباعه، لم يكن يشعر بضرورة مثل هذه الملاحظة الاعتذاريّة.

يشير «فريدريك جيمسن» إلى هذا الصّدْع ذاته في تقديمه كتاب «كوجين كاراتاني» «أصول الأدب الياباني الحديث»، فعند إقلاع الرواية اليابانية الحديثة لم يكن بالإمكان صهر مادة التجربة الاجتماعية اليابانية الخام والنماذج الشكلية المجردة في بناء الرواية ذلك الصّهر التام. ويعرّج جيمسن بهذا الصدد على كتاب «ماساو ميوشي» شركاء الصمت وكتاب «ميناكشي موخرجي» الواقعيّة والواقع الذي يتناول الرواية الهندية الباكرة، هذان الكتابان اللذان كثيرًا ما يعودان إلى ما دعاه موخرجي «المشكلات المعقدة الناشئة عن اللقاء بين الشكل الغربي والواقع الياباني أو الهندي».

ما الذي يجري هنا؟ ثمّة صدوع، إذًا، ومشكلات معقدة تحتاج إلى سبر وتحليل لتواريخها وتجلياتها ودلالاتها، ولا تكفي مجرد الإشارة إلى وجودها. لا يكفي أن نقول إن «زينب» لا تُقرأ كما ينبغي من دون الوقوف على إعجاب «هيكل» بفلسفة «روسو»، أو أنّ المدن الثلاث لـ«فرح أنطون» لا تُفهم بمعزل عن ظهور الأفكار الاشتراكية، أو أن ثلاثية «محفوظ» لا تُحلَّل بمعزل عن الليبرالية. ذلك أن هذا الحضور الأجنبي، إذا جازت التسمية، يتداخل مع تلفّظ الرواية ذاتها، ويوجد في بنيتها الجوهرية. والنظام الأدبي الواحد -غير المتكافئ- ليس مجرد شبكة خارجية تبقى خارج النصّ، بل يكون منطمرًا في شكله. وهذا ما يجعلنا نفهم قول «روبرتو شوارز» في مقالته عن استيراد الرواية إلى البرازيل:

الدين الخارجي حتمي في الآداب البرازيلية شأنه في المجالات الأخرى. وهو في العمل الذي يظهر فيه، ليس مجرد جزء يسهل الاستغناء عنه بل سمة معقدة من سماته.

يرفع فرانكو موريتي ذلك كله إلى مرتبة قانون عام للتطور الأدبي: في الثقافات التي تنتمي إلى هامش النظام الأدبي (أي جميع الثقافات تقريبًا، داخل أوروبا وخارجها) لا تنشأ الرواية الحديثة في البداية كتطور مستقل بل كتسوية بين تأثير شكلي غربي (فرنسي وإنجليزي في العادة) ومواد محلية. وعادة ما تمهّد لهذه التسوية الشكلية موجةٌ عارمة من الترجمات الأوروبية الغربية. وهذه التسوية تكون مزعزعة وبعيدة عن الاستقرار بوجه عام، حتى إن ميوشي يصورها، في سياق الكلام عن الرواية اليابانية بأنها «برنامج مستحيل». وموضع الزعزعة -بين الشكل الأجنبي أو الحبكة الأجنبية والمادة الخام المحلية أو التجربة الاجتماعية المحلية بشخصياتها المحلية- هو صوت السارد المحلي الذي يتجلى فيه انعدام الاستقرار ويكون القلق على أشدّه. فالسارد هو قطب التعليق والشرح والتقويم، وحين تدفع النماذج الشكلية الأجنبية أو الحضور الأجنبي الفعلي الشخصيات إلى سلوكات غريبة من الطبيعي أن يغدو التعليق قلقًا، مهذارًا، غريب الأطوار، بلا دقةٍ أو ضابط.

هكذا تجعل الآداب القوية حياة الآداب الأخرى وبنيتها عسيرة، ويظهر ذلك الصدع في الشكل بين القصة والخطاب، بين العالم ورؤية العالم، بين العالم الذي يسير في اتجاه غريب تمليه قوة خارجية ورؤية العالم التي تحاول أن تضفي المعنى، وتكون مختلة التوازن، وبعيدة عن السواء طيلة الوقت.

هنا، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة أمور في غاية الأهمية: أولها، هو أنه حين يكون للتسوية المذكورة مثل هذا الحضور الكلي، فإن تلك السبل المستقلة التي عادة ما تعتبر القاعدة في نشوء الرواية (السبيل الإسباني، والفرنسي، وخصوصًا البريطاني) لا تعود القاعدة بل الاستثناء، مع أنها جاءت أولًا، وثانيها، هو أن هذه التسوية تتخذ أشكالًا مختلفةً لا حصر لها باختلاف الواقع المحلي تبعًا لمناطقه وتواريخه وباختلاف التأثير الغربي الذي لم يكن متساويًا في جميع الأماكن؛ أي أن ضغط المركز الأنجلو فرنسي لم يتمكن قط من محو واقع الاختلاف، ذلك المحو الكامل. أما ثالثها، فهو أن هناك حالات نادرة تحقَّقَ فيها البرنامج المستحيل، وكانت عبارة عن ثورات شكلية أصيلة. فعلى الرغم من التبعية والتكوينات التسووية والإخفاقات التي هي القاعدة والقوة الحاسمة في الحياة الثقافية، فإنه حين يجري ذلك الالتحام المستحيل، ينفتح الأفق بالفعل ويحصل الاختراق. هذا ما حصل مع رواية الأفكار الروسية (1860-1890)، ومع الواقعية السحرية الأميركية اللاتينية (1960-1990). وهذا ما قد يحصل في روايات فردية هنا أو هناك يتحول فيها الضعف البنيوي إلى قوة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.