فيلم Napoleon: ثمن سعي الرجال للعظمة
تبدأ النسخة المرممة والمجمعة من مواد متناثرة لفيلم نابليون عام 1927 لأبيل جانس باقتباس على لسان القائد الفرنسي الشهير، يتمنى لو كان قادرًا على أن يشهد كيفية تصويره في الأجيال القادمة، كيف سيتم التعبير عنه؟ ماذا سيضع الشعراء في فمه من كلمات؟ وكيف سيتخيله الرسامون والنحاتون؟
لشخصية نابليون عدد لا نهائي من التمثيلات الفنية، مئات اللوحات والتماثيل، صنعت في عصره أو بعده، تحت إشرافه ورؤيته أو ضد ذلك، فهو حسب رؤيته ورؤية الكثير من معاصريه ومؤرخيه رجل عظيم ذو أهمية كبرى في تاريخ العالم، صعد من اللا شيء حتى امتلك كل شيء، هو قائد فرنسي حديث يضاهي قادة العالم القديم، صورته كقائد تنبع من تصوره عن نفسه، يرتدي عباءة رومانية أو تاج قيصر، يمتطي حصانه عاليًا يتضاءل خلفه كل شيء، مع الوقت وتطور السردية التاريخية أصبحت الحكايات الشعبية عن نابليون أكثر رواجًا من إنجازاته التاريخية والحربية، أصبحت شائعات كونه رجلًا صغير الحجم ذا تضخم ذات لا نهائي، ومحاولات تعويض ذلك الشعور بالنقص عن طريق خلق صورة وهمية عن الذات هي مثار الاهتمام، فهو شعور مركب يتعلق بالانتماء للوطن والهوس بتعويض نقص الأصل الملكي.
أصبحت شخصية نابليون مساوية في الأذهان للغرور والعجرفة وخانه إرثه بحيث لم يعد يتم تذكره باعتباره قائدًا لا يهزم، بل باعتباره محط سخرية من قصر القامة وهو ما لم يكن دقيقًا بشكل تاريخي، وباعتباره طاغية تسبب في مقتل ملايين الجنود وأعاد فرنسا إلى عهد ما قبل ثورتها، مع انتقال الفنون من الثبات للحركة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ومع اختراع فن السينما وتطورها، أصبح هناك وسيط جديد لتصوير نابليون ليس كنموذج بطولي ذي جماليات محددة، بل كشخصية تتحرك بين مناحي الحياة المختلفة، فتح أبيل جانس الطريق أمام السير الذاتية التي تتناول نابليون في أفلام تصور الحروب والمعارك الملحمية بموازاة حياة نابليون الشخصية، أوشك ستانلي كوبريك على صناعة فيلم عن القائد الفرنسي قبل أن يتحول الفيلم إلى باري ليندون 1975، وفي عام 2023 نفذ ريدلي سكوت المخرج البريطاني ذو المسيرة المهنية المتنوعة بين الملاحم التاريخية وأفلام الخيال العلمي والدراما فيلم أحلامه نابليون، بميزانية ضخمة بنسختين مختلفتين، نسخة عرض سينمائي معدلة ومقصرة ونسخة مطولة تعرض على منصة آبل Apple TV بعد العرض السينمائي.
الحرب كفرجة
لدى ريدلي سكوت تاريخ من صناعة الأفلام الضخمة: المصارع Gladiator 2000 بليد رانر Blade Runner 1982 وغيرها، أفلام تحقق أرقامًا وأرباحًا كبيرة وتعمل في سياق الماكينة الهوليوددية المشهدية حيث السينما في أوسع نطاقاتها وأكثرها ضخامة على غرار ملاحم هوليوود المنتجة من الاستوديوهات الرئيسية، سكوت مخرج محير يقاوم الضغوط الإنتاجية كما حدث مع بليد رانر حيث ظهرت نسخ لانهائية من ذلك الفيلم حتى تم اعتباره تحفة معاصرة ويرضخ لها أحيانا بأفلام منخفضة الجودة الفنية، يعمل في إطارات شخصية وإطارات عامة، له آراء مثيرة للجدل وعنف في تقبل النقد، لكنه لا يحب المساومة، في السنوات الأخيرة ظهرت أفلامه في مزيج من الرداءة والجودة، صنع بيت جوتشي House of Gucci الذي لم ينجح جماهيريًا أو نقديًا والمبارزة The Duel في العام نفسه وهو فيلم تم تلقيه بآراء متناقضة، لكن الأعين كلها كانت على نابليون Napoleon، ملحمة تاريخية على نطاق واسع تضاهي المصارع أشهر وأنجح أفلامه، يعمل نابليون كفيلم حربي متقن ودراسة شخصية لشخصيته الرئيسية في إطار من الحميمية والعمومية، على مدار النسخة السينمائية التي تتخطى الساعتين ونصف لا يبدو أن للفيلم موضوعًا رئيسيًا أو تركيزًا خلاف رحلة صعود نابليون وعلاقته المضطربة بزوجته جوزفين، الفيلم يركز بشكل رئيسي على الأقل في نسخته الأقصر على حشد أكبر قدر من المعارك الحربية للاستعراض السينمائي، لتصنع من الحرب مشهدية Spectacle يمكن بسهولة رؤية مجهود كل عامل على الفيلم كتب اسمه في قائمة الفريق الطويلة التي تلت العرض.
يصنع الفيلم مجموعة من القطع المكانية Set Pieces وهي أن تتقسم مشاهد الحركة أو المشاهد المحورية في أماكن ذات سمات محددة وطبيعة محددة، فيوجد مشهد تخيلي لمعركة عند سفح الأهرامات في الجيزة، وهو مشهد مثير للجدل لعدم دقته التاريخية لكنه يعمل كقطعة مكانية مميزة ويسهل تذكرها، تحدد المعارك المتنوعة تغيرات في طبيعة نابليون وحياته بين كل مشهد وآخر بتغير في درجات الحرارة وفصول العام في البلدان المختلفة، فتنتقل من شمس مصر إلى جليد روسيا ويصنع الفيلم من ذلك الجليد استعراضًا حربيًا خاصًا به لا يوجد ما يدعمه تاريخيًا لكنه مثير بصريًا، يصنع الفيلم تسلية وحلولًا بصرية مبتكرة ومثيرة من مشاهد القتل والحرب والدماء وهو على الرغم من كونه خيارًا محيرًا أخلاقيًا إلا أنه جزء رئيسي من عملية الفرجة السينمائية الهوليوودية وصناعة الملاحم، المعارك بين الجيوش الضخمة والخسائر الإنسانية هي جزء رئيسي من الإرث السينمائي وبخاصة الأمريكي.
لدى الفيلم رسالة متشابكة فهو مرثية ضخمة لكل الأرواح الضائعة بسبب جنون الرجال في السلطة -في حروب نابليون مات حوالي 3 ملايين شخص- وهوس الفوز و الطموحات الاستعمارية لكنه يصنع من تلك الخسائر مشاهد تكاد تكون شعرية، لكن تصوير المعارك لا يؤطر بطولة في الموت بل تضحية رجل واحد بآلاف الرجال، يموت الجنود أو تنفصل أطرافهم و يؤطر ذلك كمأساة وليس كبطولة حربية، في نابليون لا يحتل السرد القصصي مساحة كبيرة بل يستبدل بتصميم المعارك وحركة المجاميع وبناء العوالم المختلفة، مما يضطر الفيلم لسرد تسلسله التاريخي عن طريق نصوص على الشاشة تحدد زمن ومكان الأحداث، تعمل تلك المعارك كمدلل على سمات الشخصية الرئيسية وتطورها، وتستبدل السرد التقليدي أو المشاهد الحوارية، يعمل الفيلم كحلقات متلاحقة مما يفقده مظهر التماسك والوحدة السينمائية.
تفصل بين كل تتابع شاشة بيضاء كضوء ساطع مفاجئ، يمكن إعزاء ذلك لكون تلك نسخة تم تقليمها لكي تلائم العرض السينمائي وهو حقيقي على الأرجح لكن يمكن النظر إليها كخيار فني كذلك، خيار يحلل الفيلم كفيلم حركة يتداخل مع فيلم دراما اجتماعية وسرد تاريخي، فتصبح المشاهد الحركية ومشاهد المعارك هدفًا في ذاتها وليس فقط وسيلة لتحريك الحبكة للأمام، وبذلك تحرك الحبكة للأمام على أي حال لأننا نرى رجلًا يفقد السيطرة أمامنا يبدأ بثقة تنهار بالتدريج بعد كل معركة وكل خيانة، نحن أمام قائد عسكري وديكتاتور جاء بعد ثورة أسقطت غيره، عن طريق انقلاب داخلي يقود رجالًا في معارك مميتة لكنه ينهار أمام خطاب من امرأته أو خبر عن خيانتها، هو رجل صغير وهش، لكنه ضخم وخارج عن السيطرة، تعمل تلك التناقضات بشكل بصري تمامًا فلا يوجد مجال في الفيلم للسخرية الحوارية أو إظهار الكليشيهات المعروفة عن نابليون.
كيف يرى المستقبل نابليون؟
يلعب واكين فينيكس دور القائد الشهير بمزيج من الحساسية والحماقة، هو شخص مخيف لأنه لا ييأس لكنه مثير للشفقة لأنه لا يرى فشله أبداً، في نابليون يبدو القائد في حالة مزرية معظم الوقت حتى عندما يكون منمقًا في زيه العسكري فإنه لا يبدو أبدًا مثلما يبدو في تمثيلاته في اللوحات الزيتية في القرن السادس والسابع عشر، لا يموضعه الفيلم باعتباره شخصية تاريخية للفرجة أو محاولات المقارنة بين الصورة والواقع بل يجعله أشبه بمتنكر، حتى أنه في لقائه الأول مع من سوف تكون زوجته جوزفين تسأله بشكل ساخر ما هذا الزي الذي ترتديه؟ منذ الإعلان عن نابليون لريدلي سكوت بدأ الحديث عن نسخة كوبريك غير المنفذة وفي نتيجة الفيلم النهائية يمكن ملاحظة شبح كوبريك في عناصر مثل التكوينات البصرية التي تحاكي فنون الباروك واختيارات الموسيقى الكلاسيكية، يحدد الفيلم لنفسه نغمة ووضعًا بصريًا وسمعيًا متنوعًا وحرًا لكنه ذو اختيارات غرائبية تبدو متعجلة.
تتنوع الموسيقى بين مقطوعات مؤلفة للفيلم ومقطوعات من الفترة، لكن في مشاهد نابليون وجوزفين الداخلية التي تتسم بصبغة رومانسية نسمع مقطوعة لداريو ماريانيللي من فيلم فخر وكبرياء Pride and Prejudice وهي مقطوعة بيانو تحاكي مقطوعات القرن التاسع عشر لكنها ألفت في 2005 وترتبط بثيمة لشخصيات رومانسية هادئة أكبر عقبة تواجههم هي عدم القدرة على البوح بالمشاعر، تعمل خيارات مثل تلك في إرساء صيغة فيلمية تتأرجح بين الجدية الشديدة والهزل، من دون فواصل حقيقية بين هذا وذاك، نرى ذلك في حركة الشخصيات مثل تعثر نابليون في مواضع مختلفة أو ارتباكه أمام زوجته ووقوع قبعته وهي ما تبدو مشاهد عفوية أو أخطاء لكنها تخفف من ثقل الجدية المرتبطة بأفلام الفترة Period Drama، وتفصل الفيلم عن أقرانه من أفلام الشخصيات التاريخية، كما أن تلك الاختيارات الموسيقية والتمثيلية وحتى اختيارات الممثلين توقع الفيلم في وضع بين الإيهام السينمائي وكسره فهو معاصر وتاريخي، إنه صورة معاصرة عن شخصية تاريخية.
اختيار فانسيا كيربي في دور جوزفين هو موضوع أكثر تعقيدًا، تاريخيًا كبرت جوزفين نابليون بستة أعوام بينما تصغر فانيسا كيربي شريكها في البطولة بحوالي خمسة عشر عامًا، وهو خيار محافظ هوليوودي يجعل من الصورة الجمالية والتقليدية للعلاقات المستقيمة التاريخية نمطًا لا يتم التساؤل عنه، تظهر جوزفين في الفيلم لكي تكون جميلة ومتلاعبة، لكن بعيدًا عن اختيار الممثلة فإن وجود جوزفين كنقطة محورية في الفيلم يتخطى كونها قصة حب عاصفة ومتقلبة لتكون أداة لكشف العوار المجتمعي وبخاصة في ما يخص عهد نابليون، قصة نابليون وزوجته هي قصة مصغرة لسياسات النوع في عصر القائد الشهير، فهو وعلى الرغم من هوسه بها تركها «لمصلحة بلاده» لأنها لم تحمل له وريثًا، وفي أحداث الفيلم يؤكد ذكورته وقدرته على الإنجاب عن طريق إقامة علاقة مع فتاة في الثامنة عشرة لن تقول لا لأكبر اسم في فرنسا، تحمل ابنه ثم لا نسمع عنها شيئًا، في واقع الأمر في عهد نابليون تلاشت حقوق النساء تقريبًا في التعليم وتملك الأراضي والسيطرة على أموالهن الخاصة، لم يكن في أيديهن أي قوة خارج أزواجهن أو أي رجل مسؤول عن وجودهن، لم يتطرق الفيلم لهذا لكن العلاقة الرئيسية تعمل كمثال على سياسات النوع الشخصية والعامة في تلك الفترة من تاريخ فرنسا.
يقع فيلم نابليون في حيز حرج بين فيلم هوليوودي تاريخي تقليدي وفيلم ساخر من الأفلام الهوليوودية، بطله ليس بطلًا، وحروبه ليست ذات معنى، ويبدو في نسخته السينمائية وكأنه فيلم من دون وجهة، رجل صعد وسقط ومات، لكن تلك هي الوجهة بالضبط، صعود من اللاشيء، تضخم إلى أقصى الحدود ثم سقوط مدوٍ وموت، تلك هي قصة نابليون وغيره الكثير من القادة أو «الرجال العظام» في التاريخ، رجل صعد وسقط ثم مات، هو وملايين الآخرين باسمه.