نعومي كلاين: دعهم يغرقون (2/3)
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
(3)
ليس الوقود الحفري بالمسؤول الوحيد لتغير المناخ – هناك الزراعة الصناعية، وإزالة الغابات – لكنه الأول. فالنقطة المتعلقة بالوقود الحفري هي كونه بطبيعته شديد القذارة والسمية إلى درجة يحتاج معها إلى قرابين بشرية وجغرافية: أناس يمكن التضحية بأجهزتهم التنفسية وأجسادهم للعمل في مناجم الفحم، أناس يمكن التضحية بأرضهم ومياههم في التعدين السطحي وبقع الزيت.
في سبعينات القرن الماضي، قام العلماء في إطار إسداء النصح إلى الحكومة الأمريكية بالإشارة علانية إلى مناطق معينة يجري تخصيصها كـ«مناطق تضحية وطنية». فكر في جبال أبلاتشيا وهي تنسف لاستخراج الفحم، فعملية التعدين بواسطة «إزالة قمة الجبل» أقل تكلفة من حفر الأنفاق. لا بد أن هناك منظرين للأخرنة لتبرير التضحية بجغرافية كاملة، نظريات تتحدث عن أناس يعيشون هناك يعانون من فقر وتخلف شديد لا تستحق معه ثقافتهم أي حماية. فمن سيهتم بأمر قريتك، إن كنت «قروي ساذج»!
إن تحويل كل هذا الفحم إلى كهرباء يحتاج إلى طبقة أخرى من الأخرنة أيضا: توجه هذه المرة إلى الأحياء الحضرية الملاصقة لمحطات الطاقة ومعامل التكرير. توجد في أمريكا الشمالية مجتمعات مكدسة بالسكان الملونين، والسود، واللاتينو التي تجبر على حمل العبء السام الناتج عن إدماننا الجمعي للوقود الحفري، وتحمل معه معدلات أعلى من أمراض الجهاز التنفسي والسرطان بصورة ملحوظة. وهنا، في خضم تلك المعارك ضد «العنصرية البيئية» كان ميلاد حركة العدالة المناخية.
تنتشر مناطق تضحية الوقود الحفري في العالم. خذ دلتا النيجر مثالا، إنها تلوث سنويا ببقع زيت تعادل تسرب إيكسون فالديز النفطي، تلك العملية التي أسماها «سارو ويوا» (ناشط بيئي وكاتب نيجيري) بـ «المذبحة البيئية»، قبل اغتياله على يد حكومته. قال «سارو ويوا» إن إعدامات قادة المجتمع تتم لصالح شركة شل (Shell).
في بلدي كندا، استلزم قرار نبش رمال ألبيرتا النفطية (نفط شديد الكثافة) تمزيق معاهدات مع الأمم الأولى (مصطلح يشير إلى سكان كندا الأصليين)، تلك المعاهدات التي أبرمت من طرف التاج البريطاني وتضمن للشعوب الأصلية حق مواصلة صيد الحيوانات، والأسماك، والعيش وفق الطرق التقليدية في أراضي الأسلاف. كان ذلك ضروريا لأن تلك الحقوق تفقد معناها عندما تدنس الأرض، وتلوث الأنهار، وتنتشر الأورام في أجساد الغزلان والأسماك. لم يكن ذلك كل شيء، فقد ازدادت الأمور سوءا: صارت مدينة «فورت ماكموري» – الواقعة في قلب كعكة الرمال النفطية، حيث يعيش كثير من العمال وتنفق أكثر الأموال – نارا جهنمية، إنها ساخنة وجافة كالجحيم. ولهذا علاقة بالتعدين الذي يجري هناك.
حتى بدون تلك الوقائع الدرامية، ما يزال هذا النوع من استخراج الموارد شكل من أشكال العنف، لأنه يسفر عن إفساد هائل للأرض والمياه يقضي بدوره على ثقافات تشكل جزء لا يتجزأ من الأرض. نجد أن قطع الصلة بين السكان الأصليين وثقافتهم قد بات جزء من سياسة الدولة في كندا، يجري فرضه عن طريق إبعاد أطفال السكان الأصليين عن أسرهم وإرسالهم إلى مدارس داخلية حيث يحظر عليهم التحدث بلغتهم أو الانغماس في الممارسة الثقافية الخاصة بهم، وحيث يتفشى الاعتداء الجسدي والجنسي.
أطلق تقرير حديث وصادق على ذلك «مذبحة ثقافية». إن الأذى المرتبط بهذه الطبقات من الفصل الجبري – عن الأرض، والثقافة، والأسرة – ذو ارتباط مباشر بوباء اليأس الذي يجتاح اليوم كثير من مجتمعات الأمم الأولى. في ليلة أحد أيام السبت من شهر أبريل/نيسان، حاول ١١ شخص من أعضاء جماعة أتاوابيسكات الانتحار (تضم الجماعة ٢٠٠٠ شخص، وهي إحدى الأمم الأولى). في تلك الأثناء، كانت شركة دي بيرز تدير منجما للألماس في إقليم تلك الجماعة؛ وككل مشاريع التعدين، كانت الأجواء مفعمة بالأمل.
«لماذا لا يرحلون؟» طرح السياسيون والخبراء هذا السؤال. لكن الكثيرون كانوا يقومون بذلك، وهذا الرحيل مرتبط جزئيا بآلاف النساء من سكان كندا الأصليين اللاتي اختفين أو تم اغتيالهن، أكثرهن في مدن كبيرة. نادرا ما تقوم تقارير الصحف بالربط بين العنف الموجه إلى النساء والعنف الموجه إلى الأرض – غالبا في سياق استخراج الوقود الحفري – إلا أنه أمر واقع.
تتسلم كل حكومة جديدة السلطة وهي تبشر بعصر جديد من احترام حقوق السكان الأصليين. لكن ذلك لا يتحقق، لأن حقوق السكان الأصليين كما يحددها إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، تشمل حق رفض مشاريع التعدين حتى إن كانت تلك المشاريع تغذي نمو الاقتصاد الوطني. وهذه مشكلة، لأن النمو هو ديننا، ونهج حياتنا. لذا، فحتى رئيس وزراء كندا الجديد، ذو الجسد الجذاب والابتسامة الساحرة، ملزم وعازم على مد أنابيب رمال نفطية جديدة، بما يصطدم مع الرغبات المعلنة لمجتمعات السكان الأصليين الذين لا يريدون المخاطرة بمياههم، أو الاشتراك في أي إخلال جديد بالمناخ.
يتطلب الوقود الحفري مناطق تضحية، ولطالما كان كذلك. ولا يمكنك الحصول على نظام يعتمد على قرابين جغرافية وبشرية إلا بوجود نظريات تبرر تلك التضحيات باستمرار: من المصير الحتمي (Manifest Destiny)، والأرض التي لا مالك لها (Terra Nullius)، إلى الاستشراق، من القرويين المتخلفين، إلى الهنود المتخلفين.
كثيرا ما يقع اللوم المرتبط بالتغير المناخي على «الطبيعة البشرية»، على الجشع الفطري وقصر النظر الكامن في جنسنا. أو يخبروننا عما سببناه للأرض من تغيير على مستوى الكوكب ككل إلى درجة أننا نعيش الآن في الأنثروبوسين (عصر جيولوجي ساهم في تشكيله النشاط البشري بشكل أساسي) أو عصر البشر. تلك الطرق المستخدمة في شرح الظروف الحالية لها معنى معين، وإن كان غير معلن: أن البشر نوع واحد، وأن بالإمكان اختزال الطبيعة البشرية في الخصال التي أسفرت عن تلك الأزمة.
بهذه الطريقة، يكون النظام الذي خلقه بشر معينون، وقاومه آخرون بقوة، متحررا من أي مسئولية. ويشمل ذلك أنظمة مثل الرأسمالية، والكولونيالية، والمجتمعات الأبوية.
إن تشخيص كهذا ينفي الوجود عن أي أنظمة بشرية أخرى قامت بإدارة الحياة بصورة مختلفة: أنظمة ألزمت البشر بالتفكير في مصير سبعة أجيال تالية؛ أنظمة لا تلزم المرء بأن يكون مواطن صالح، بل سلف صالح أيضا؛ أنظمة لا تأخذ أكثر مما تحتاج، وتعيد إلى الأرض كي تحفظ وتثري عجلة الحياة. تلك أنظمة وجدت وما تزال موجودة، لكنها تمحى في كل مرة نقول فيها إن أزمة المناخ هي أزمة «طبيعة بشرية» وأننا نحيا في «عصر الإنسان».
تتعرض تلك الأنظمة إلى هجمات حقيقية عندما تشيد المشاريع العملاقة، مثل سدود نهر جوالكاركي الكهرومائية في هندوراس، التي انتزعت – ضمن أشياء أخرى كثيرة – حياة الناشطة البيئية وزعيمة شعب اللينكا «بيرتا كاسيريس»، التي اغتيلت في شهر مارس/آذار الماضي.
(4)
يصر البعض على أن هذه الدرجة من السوء ليست حتمية، فيمكننا إصلاح عملية استخراج الموارد، ولا حاجة إلى القيام بها كما تمت في هندوراس ودلتا النيجر ورمال ألبيرتا النفطية. إلا أن الطرق الرخيصة والسهلة لاستخراج الوقود الحفري آخذة في النفاذ، لذا تشهد عمليات التصديع المائي و استخراج الرمال النفطية تصاعدا في المقام الأول. وهو ما يشكل تحديا لعقد العصر الصناعي الأصلي، ذلك الاتفاق الفاوستي: أن أشد المخاطر سيجري إيكالها وإرسال فاتورتها إلى الآخر، سواء المتواجد خارج الحدود منه أو داخل البلدان. وهو ما يزداد صعوبة مع مرور الوقت.
فمع تمدد مناطق التضحية وابتلاعها مختلف أنواع الأماكن التي ظنت نفسها في مأمن، باتت عمليات التصديع تشكل تهديدا لبعض أشد مناطق بريطانيا روعة. بالتالي، نحن لا نطمع في مجرد غثيان يثيره قبح الرمال النفطية، بل في الاعتراف بأنه ما من وسيلة نظيفة، وآمنة، وغير سامة لإدارة اقتصاد يعتمد على الوقود الحفري، ولم يكن هناك قط.
كما أن هناك سيل من الأدلة على عدم وجود طريقة سلمية أيضا. إن مشكلة في البنية ذاتها، فالوقود الحفري – بخلاف صور الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية – ليست موزعة على مساحة كبيرة، بل مركزة بكثافة في مناطق معينة، وهي مناطق عادة ما تكون في بلاد أشخاص آخرين، خاصة أشد صور الوقود الحفري فاعلية ونفاسة: النفط.
لذلك كان مشروع الاستشراق، وأخرنة الشعوب العربية والإسلامية، هو الشريك السري لاستقلالنا النفطي منذ البداية، وهو لذلك جزء لا يتجزأ من أزمة تغير المناخ. عندما ينظر إلى الشعوب والأشخاص الآخرين على أنهم غرباء، وبدائيون، ومتعطشون للدماء، كما أثبت «إدوارد سعيد» في السبعينات، يصبح من الأيسر شن الحروب ودعم الانقلابات إذا ما فكروا في ضرورة إدارتهم النفط الموجود في أرضهم بما يخدم مصالحهم.
التعاون الأمريكي البريطاني للإطاحة بحكومة «محمد مصدق» المنتخبة ديموقراطيا، بعد تأميمه شركة النفط الأنجلو إيرانية (شركة بي بي الآن). وفي عام ٢٠٠٣، بعد خمسة عشر عاما بالضبط، تم غزو واحتلال العراق بدون مسوغ قانوني، في إنتاج مشترك قامت به الولايات المتحدة وبريطانيا أيضا. ما تزال أصداء كل مثال تزلزل عالمنا، كما تفعل المواد الناتجة عن حرق كل هذا النفط. يجري سحق الشرق الأوسط الآن بين مطرقة العنف الناتج عن الوقود الحفري، وسندان آثار حرق ذلك الوقود.
ضم «شاطيء الصراع» – كتاب المعماري الإسرائيلي إيال وايزمان الأخير – مأخذًا رائدًا على الكيفية التي تتقاطع بها تلك القوى. يشرح إيال وايزمان قائلًا إن الفكرة الرئيسة التي شكلت فهمنا لحدود الصحراء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي ما يطلق عليها «خط الجفاف»، وهي مناطق ذات متوسط أمطار سنوية قرب ال٢٠٠ ملليمتر (٢٠٠ لتر ماء لكل متر مربع)، وهو الحد الأدنى اللازم لزراعة الحبوب على نطاق واسع دون ري.
تلك الحدود الجوية ليست ثابتة: لقد غيرتها عوامل عدة، سواء كان سعي إسرائيل ل«تخضير الصحراء» من ناحية، أو تغول الصحراء نتيجة للجفاف الدوري في الناحية الأخرى. والآن، مع ذلك التغير المناخي، يمكن للجفاف الحاد أن يسفر عن أي نوع من النتائج.
يشير وايزمان إلى وقوع مدينة «درعا» السورية الحدودية على خط الجفاف مباشرة. في تلك المدينة سجلت أشد حالات الجفاف التي شهدتها سوريا، وهي التي أدت إلى نزوح عدد ضخم من المزارعين في الأعوام التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية السورية، وهناك أيضًا اندلعت الانتفاضة السورية عام ٢٠١١. لم يكن الجفاف هو العامل الوحيد المسئول عن إيصال التوتر إلى ذروته، بل كان لوجود ١.٥ مليون نازح داخل البلاد نتيجة للجفاف، تأثير بكل وضوح.
إن الارتباط بين المياه والتوتر الحراري والنزاع لهو نمط متكرر ومتواجد بكثافة على طول خط الجفاف: في كل بقعة منه ترى أماكن ضربها الجفاف، أو نقص المياه، أو الحرارة اللاذعة، أو النزاع المسلح – من ليبيا، مرورا بفلسطين، وحتى أشد ساحات المعارك دموية في أفغانستان وباكستان.
لكن إيال وايزمان اكتشف «مصادفة مذهلة» أيضًا، فإذا قمت بتعيين أهداف الغارات الجوية التي شنتها طائرات غربية بلا طيار في المنطقة على خريطة، سترى أن كثير من تلك الهجمات – من وزيرستان الجنوبية، مرورا بشمالي اليمن، والصومال، ومالي، والعراق، وغزة، وحتى ليبيا – تقع في خط الجفاف ذي الـ ٢٠٠ مليمتر أو قريبا منه. وتمثل النقاط الحمراء في الخريطة التالية بعض الأماكن التي عانت من غارات مكثفة. وهذه بالنسبة لي هي المحاولة الأبرز لإظهار الصورة الوحشية للأزمة المناخية.
تم التحذير من كل ذلك قبل عقد في تقرير عسكري أمريكي، حيث تضمن هذه الملاحظة «لطالما كان الشرق الأوسط مرتبطا بموردين طبيعيين، هما النفط (بسبب وفرته) والماء (بسبب ندرته)». إنها ملاحظة صائبة. والآن تصير بعض الأنماط واضحة: في البداية، تتبعت الطائرات المقاتلة الغربية ذلك النفط الوفير؛ والآن، تقوم طائرات غربية موجهة عن بعد بمتابعة نقص المياه خلسة، بينما الجفاف يزيد الصراع تفاقمًا.