نعومي كلاين: دعهم يغرقون (1/ 3)
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
نعومي كلاين، الكاتبة الكندية ذائعة الصيت، هي أيضًا ناشطة اجتماعية وصانعة أفلام، عُرِفت بكتابها الشهير عن الرأسمالية النيوليبرالية: «عقيدة الصدمة». اختيرت نعومي كلاين لإلقاء المحاضرة التذكارية عن إدوارد سعيد لهذا العام 2016، وهي المحاضرة التي نقدمها هنا مترجمة إلى العربية.
(1)
لم يكن إدوارد سعيد من المتحمسين لحماية البيئة. لقد وصف سليل التجار والحرفيين والمهنيين نفسه مرة بأنه «حالة نادرة كانت فيها علاقة الفلسطيني الحضري بالأرض علاقة مجازية بالأساس». وفي كتابه «بعد السماء الأخيرة»، الذي يحوي تأملاته عن صور السويسري جون موهر الفوتوغرافية، قام إدوارد سعيد باستكشاف أشد جوانب الحياة الفلسطينية حميمية، من الضيافة، مرورا بالرياضة، وحتى الديكور المنزلي.
ألهبت أرق التفاصيل، مثل المكان الذي يشغله إطار صورة، أو وضعية تحدٍ اتخذها طفل، بصيرة إدوارد النافذة. إلا أن تلك الدقة ما لبثت أن تبخرت عند التعرض إلى صور فلاحين فلسطينيين، يرعون قطعانهم، ويعملون في الحقول. ما نوع المحاصيل التي يتم جنيها؟ كيف كانت حالة التربة؟ هل كانت المياه متوفرة؟ لم يتم التصريح بشيء. «أواصل تصور شعب من القرويين الفقراء، المعذبين، الذين يرتدون الملابس الملونة أحيانا، شعب متوحد ولا يتغير» قالها مقرًّا، ورغم أن ذلك كان مفهومًا «أسطوريًا» باعترافه، فقد استمر معه.
إذا كانت الزراعة تمثل عالمًا غريبًا عن إدوارد سعيد، فإن هؤلاء الذين يكرسون حياتهم من أجل أشياء مثل تلوث الهواء والماء لَمِن سكان كوكب آخر. وصف إدوارد سعيد حماية البيئة مرة في أثناء حديثه مع زميله روب نيكسون بأنها «صكوك غفران أنصار حماية البيئة المدللين، الذين يعوزهم الانتماء إلى قضية حقيقية» (مستخدمًا مصطلح tree-hugger أو معانقو الأشجار، المعبر عن الازدراء غالبا).
لكن المخاطر البيئية التي تواجه الشرق الأوسط يستحيل تجاهلها، خاصة من قبل شخص منغمس في الحالة الجيوسياسية لتلك المنطقة مثل إدوارد سعيد. إنها منطقة معرضة بشكل هائل إلى ضغوط الحرارة والماء، مثل التصحر وارتفاع منسوب مياه البحر. تنبأت ورقة بحثية نشرت حديثا في دوريةNature Climate Change أن أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط ستتعرض غالبا إلى «درجات حرارة لا يتحملها البشر» بحلول نهاية القرن الحالي، هذا إن لم يتم خفض الانبعاثات جذريًا وبسرعة، وهذه العبارة الصادمة لا تعد غريبة على علماء المناخ الأجلاف.
وبالرغم من ذلك، فما يزال يغلب على المنطقة اعتبار القضايا البيئية اهتمامات ثانوية، أو رفاهية فكرية. والسبب في هذا ليس الجهل، أو اللامبالاة، بل النطاق الزمني للتأثير. إن التغير المناخي خطر هائل، لكن أشد الآثار هولًا لن تقع قبل مدى زمني متوسط. ودائمًا ما تشغل المدى القريب مخاطر أخرى أشد إلحاحًا ينبغي التعامل معها: احتلال عسكري، غارات جوية، تمييز عنصري منظم، حظر تجاري. فلا يسع قضية أخرى منافسة ذلك، وحري بها ألا تحاول.
هناك أسباب أخرى جعلت حماية البيئة تبدو كمجال برجوازي في نظر إدوارد سعيد. فلطالما كست الدولة الإسرائيلية مشروعها لبناء الدولة بطبقة خضراء، كان ذلك جزءًا أساسيًا من ملامح مبدأ «العودة إلى الأرض» الصهيوني. كانت الأشجار –على وجه الخصوص– في ذلك السياق، ضمن أكثر أسلحة نزع الأراضي والاستيطان فاعلية. ولا أعني فقط ما لا يحصى من أشجار الزيتون والفستق التي تم اقتلاعها لإفساح الطريق أمام المستوطنات والطرق المخصصة للإسرائيليين فقط، بل وغابات الصنوبر والكينا المترامية الأطراف التي زُرعت مكان تلك البساتين، مثلما زرعت مكان قرى الفلسطينيين، بواسطة –ويا للخزي– الصندوق القومي اليهودي، تحت شعار «تخضير الصحراء»، والذي يفتخر بزراعة ٢٥٠ مليون شجرة في إسرائيل منذ ١٩٠١، معظمها سلالات غير محلية. يعلن الصندوق القومي اليهودي عن نفسه في الوسائط الدعائية بوصفه مجرد منظمة غير حكومية، معنية بإدارة الغابات والمياه، والحدائق والمتنزهات. وهو أكبر مُلاك الأراضي الخاصة في دولة إسرائيل، وما يزال يرفض تأجير أو بيع الأراضي لغير اليهود، رغم عدد من التحديات القانونية المعقدة.
لقد نشأتُ في مجتمع يهودي، حيث ثمة تلازم بين كل مناسبة –سواء ميلاد أو وفاة، أو عيد أم، أو بار متسفا (حفل بلوغ اليهودي سن التكليف)– وبين شراء إحدى شجرات صندوق النقد اليهودي على شرف الشخص موضوع المناسبة. عندما صرت بالغة بدأت أتفهم أن أشجار الصنوبر البعيدة الباعثة على الراحة تلك، التي تغطي صكوكها جدران مدرستي الابتدائية في مونتريال، لم تكن شيئًا حميدًا، إنها ليست الشيء الذي تزرعه ثم تعانقه لاحقًا. في الحقيقة، كانت تلك الأشجار أحد الأمثلة الصارخة على التمييز الرسمي الذي يمارسه النظام الإسرائيلي، وهو التمييز الواجب إزالته ليصبح التعايش السلمي ممكنًا.
إن صندوق النقد اليهودي مثال متطرف وحديث على ما يسميه البعض «الاستعمار الأخضر»، إلا أنها ليست بالظاهرة الجديدة، وليست محصورة في الحالة الإسرائيلية. هناك تاريخ طويل ومؤلم من تحويل بقع من البرية الجميلة إلى محميات طبيعية في الأمريكتين، ومن ثم استخدام هذه الدلالة لمنع السكان الأصليين من دخول أراضي أجدادهم لصيد الحيوانات أو الأسماك، أو حتى لمجرد العيش.
حدث ذلك مرارًا. إحدى النسخ المعاصرة من هذه الظاهرة هي «موازنة الكربون». فقد وجد مواطنون أصليون من البرازيل وحتى أوغندا أن بعض أشد عمليات انتزاع الأراضي ضراوة تجري بواسطة منظمات بيئية، حيث يتم إعلان الغابة فجأة منطقة لموازنة الكربون، فيتم الحيلولة بينها وسكانها التقليديين. نتج عن ذلك إفراز سوق موازنة الكربون نوعًا «أخضر» جديدًا من انتهاكات حقوق الإنسان، مع الاعتداءات الجسدية التي يقوم بها حراس الحدائق والأمن الخاص على المزارعين والسكان الأصليين عند محاولتهم الوصول إلى أراضيهم. لذا يجب فهم تعليق إدوارد على «معانقي الأشجار» في هذا السياق.
وإليك المزيد. في العام الأخير من حياة إدوارد سعيد، كان يتم تشييد ما يسمى بـ «الجدار العازل» الإسرائيلي، مستوليًا على مساحات هائلة من الضفة الغربية، قاطعًا الطريق المؤدي بعمال فلسطينيين إلى وظائفهم، وفلاحين إلى حقولهم، ومرضى إلى مستشفياتهم، ومقسمًا عددًا كبيرًا من الأسر بقسوة. لم يكن الشخص ليفتقد أسبابًا لمعاداة الجدار بناء على أسس حقوقية، إلا أن بعض أشد أصوات المعارضة بين اليهود الإسرائيلين عُلوًا لم تولِ أيًا من ذلك اهتمامًا. كانت وزيرة البيئة الإسرائيلي حينها يهوديت ناعوت أكثر قلقًا من تقرير يفيد أن «السياج الفاصل… يؤثر بالسلب على المناظر الطبيعية، والحياة النباتية والحيوانية، والممرات الإيكولوجية، وصرف الجداول». قالت يهوديت: «بالطبع لا أريد وقف أو إرجاء بناء السياج، لكني منزعجة من الضرر البيئي المترتب على ذلك». وكما لاحظ الناشط الفلسطيني عمر البرغوثي لاحقًا، قامت وزارة يهوديت والهيئة الوطنية لحماية الحدائق ببذل جهود دؤوبة لإنقاذ مخزون من زهور السوسن عبر نقلها إلى مكان آخر، كذلك تم صنع ممرات ضئيلة (عبر الجدار) للحيوانات.
لعل ذلك يوضح سياق السخرية من الحركة الخضراء. فالناس تميل إلى السخرية عندما تُعتبر حياتهم أقل أهمية من الورود والزواحف. ومع ذلك فهناك الكثير من تراث إدوارد سعيد الفكري الذي ينير ويوضح الأسباب الكامنة وراء الأزمة البيئية العالمية؛ تراث كبير إلى درجة ترشدنا إلى طرق للتعاطي أكثر شمولية من النماذج التي تتبناها الحركية الحالية: طرق لا تطلب من الذين يعانون تأجيل هموم الحرب، والفقر، والعنصرية المنظمة، كي يتم «إنقاذ العالم» أولا؛ لكنها تبرهن بدلا من ذلك على ترابط جميع تلك الأزمات، وأن الحلول هي الأخرى قد تكون كذلك.
باختصار، ربما لم يكن لدى إدوارد سعيد وقت لمعانقي الأشجار، لكن على معانقي الأشجار إتاحة الوقت بشكل عاجل لإدوارد سعيد –ولآخرين، كثر من المفكرين العظماء المناهضين للإمبريالية، الما بعد كولونياليين– لأن بغير تلك المعرفة، لا مجال لفهم الأسباب التي انتهت بنا إلى هذا المكان الخطر، ولا لإدراك التغيرات الواجبة للخروج منه. وبالتالي، ما يلي هو بعض الأفكار –غير المكتملة– عما يمكننا تعلمه من قراءة إدوارد سعيد في عالم يعاني من ارتفاع درجات الحرارة.
(2)
كان إدوارد سعيد، وما يزال، أحد أشد منظري المنفى والحنين إلى الوطن بلاغة، إلا أنه كان يحن إلى وطن تبدل إلى درجة لم يعد معها موجودًا. كان وضعه معقدًا: يدافع بشراسة عن حق العودة، لكنه لم يزعم قط أن هناك وطنًا محددًا. كان المهم هو مبدأ احترام جميع حقوق الإنسان على قدم المساواة والحاجة إلى عدالة تصالحية تضفي الجودة على أفعالنا وسياساتنا.
هو منظور وثيق الصلة بعصر نحيا فيه، ما بين سواحل تتآكل، وأمم تختفي تحت بحار آخذة في الارتفاع، وشعاب مرجانية كانت تعزّز ثقافات بأسرها وإذ بها تصبغ بالأبيض [إضاءات: ظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية Coral Bleaching هي إحدى نتائج التلوث]، وقطب شمالي دافئ. ذلك لأن الحنين إلى وطن تغير جذريًا –وطن ربما لم يعد موجودًا– لهو أمر تجري عولمته بشكل سريع ومأساوي.
في مارس الماضي، تم نشر دراستان هامتان خضعتا لمراجعة الأقران peer-reviewed [إضاءات: مراجعة الأقران هي تقييم عمل من قبل شخص أو أكثر بنفس مكانة الكُتاب العلمية، وذلك لضمان جودة العمل] تحذران من وقوع ظاهرة ارتفاع منسوب مياه البحار بسرعة أكبر بكثير مما هو متوقع.
كان جيمس هانسن من بين كتاب الدراسة الأولى، ولعله الشخص الأرفع مكانة بين علماء المناخ في العالم. ولقد حذر في دراسته من أننا -آخذين في الاعتبار معدلات الانبعاثات الحالية– نواجه خطر «خسارة جميع المدن الساحلية، التي تشكل معظم مدن العالم الضخمة، وتاريخها كله»، وذلك خلال فترة زمنية لن تقاس بآلاف السنين، بل تقع ضمن حدود القرن الحالي. فبدون تغيير جذري وعاجل، نجدنا باتجاه عالم كامل من الأشخاص الذين يبحثون عن وطن لم يعد موجودًا.
يساعدنا إدوارد سعيد على تخيل ما قد يبدو عليه ذلك الأمر. لقد ساهم في نشر كلمة «صمود Sumud» العربية: ذلك الرفض الحازم من المرء لمغادرة أرضه، رغم أشد محاولات الإخلاء ضراوة، حتى والخطر المستمر يحدق به من كل ناحية. إنها كلمة أشد ارتباطا بأماكن مثل الخليل وغزة، إلا أن بالإمكان استعمالها اليوم أيضا مع سكان لويزيانا الساحلية، الذين قاموا بتعلية منازلهم كي لا يضطروا إلى الإخلاء، أو مع سكان جزر المحيط الهاديء أصحاب شعار «نحن لا نغرق، بل نقاتل».
يدرك سكان بلدان مثل جزر مارشال وفيجي وتوفالو أن ارتفاع منسوب مياه البحار أمر حتمي، إلى درجة ينمحي معها أي مستقبل لبلادهم. لكنهم يرفضون الاهتمام بلوجستيات إعادة التوطين، ولن يفعلوا حتى لو كانت هناك بلاد أكثر أمنًا مستعدة لاستقبالهم (وهو احتمال ضعيف، حيث لا يعترف القانون الدولي حاليًا بلاجئي المناخ). وهم بدلا من ذلك يقاومون بنشاط: يحاصرون سفن الفحم الأسترالية بقوارب محلية، ويعكرون صفو مفاوضات المناخ الدولية بحضورهم المشاغب، ويطالبون بمبادرات مناخية أكثر تطرفًا. فلو أن هناك أي شيء يستحق الاحتفاء به في اتفاق باريس الموقع في أبريل (وليس هناك ما يكفي، مع الأسف) فهو نتيجة ذلك النوع من العمل المبادئي principled action: الصمود المناخي.
لكننا لم نجتز بعد القشرة مما يمكننا تعلمه عبر قراءة إدوارد سعيد في عالم تزداد درجة حرارته ارتفاعًا. بالطبع، لقد كان عملاقا في مجال دراسة «الآخروية Othering»: ما يصفه في «الاستشراق» بأنه «تجاهل إنسانية ثقافة أخرى أو شعب آخر أو منطقة جغرافية ما، واختزالها إلى جوهر ما، وتجريدها من صفاتها» [المترجم: اعتمادًا على ترجمة د. محمد عناني]. وما أن يتم تأسيس الآخر باعتباره آخر، حتى يصبح الطريق ممهدًا لأي انتهاك: ترحيل عنيف، أو استيلاء على الأراضي، أو استيطان، أو غزو. فغاية الآخروية هي تأكيد ذلك: إن الآخر يختلف في الحقوق، كما يختلف في درجة الإنسانية عن هؤلاء الذين يقومون بالتمييز. لكن، ما علاقة ذلك بالتغير المناخي؟ ربما هي علاقة أكثر من وثيقة.
لقد قمنا بتدفئة كوكبنا إلى درجة خطرة بالفعل، وما تزال حكوماتنا تأبى اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف ذلك. كان بوسع الكثيرين في الماضي ادعاء الجهل، لكن مع العقود الثلاثة الأخيرة، التي أُنشئت فيها اللجنة الدولية للتغيرات المناخية وبدأت المفاوضات حول المناخ في الانعقاد، فلقد تلازم هذا الرفض لتقليل الانبعاثات مع علم تام بالأخطار، وهذا نوع من الطيش كان ليكون مستحيلا عمليًا بدون عنصرية مؤسسية، حتى ولو كانت كامنة.
كان ذلك ليكون مستحيلا بدون الاستشراق، بدون كل الأدوات الفعالة المتاحة التي تمكن القوي من التقليل من أهمية حياة الأقل قوة. إن هذه الأدوات –التي تضع مراتب القيمة النسبية للبشر– هي التي تسمح بمحو أمم، وثقافات قديمة كاملة؛ وهي التي سمحت بإخراج كل هذا القدر من الكربون بالمقام الأول.