نجيب الريحاني: في ستين ألف سلامة
إن كنت مولعًا بمشاهدة أفلام السينما المصرية التي أنتجت في القرن المنصرم، وخصوصًا تلك التي أنتجت قبل أن تعرف الألوان طريقها إلى السينما المصرية، فأنت بلا شك قد طرق سمعك ذات مرة اسم نجيب الريحاني، ذلك الاسم الذي كان في حقبة ما ملء السمع والبصر، ليس بالنسبة للجمهور المصري فقط الذي أحب نهجه الكوميدي الأصيل ورأى نفسه فيه، ولكن لن أقع في فخ المبالغة إذا قلت لك بأن صيته قد ذاع في بلدان عربية وغير عربية أيضًا.
في الحقيقة نحن لا نقصد بهذه الشهرة تلك الشهرة الواسعة التي اكتسبها نجيب الريحاني بسبب مسيرته الثرية في السينما المصرية، ولكن نحن في هذا المقال نتحدث عن فترة كان أول فيلم مصري ناطق وهو «أبناء الذوات» لم ينتج بعد، فقد كان نجوم السينما الأوائل شغلهم الشاغل هو المسرح فقط، فترة كان بها المسرح له قدر كبير من الاهتمام والتقدير من قبل الجمهور عما هو عليه اليوم، نعم نحن بصدد الحديث عن نجيب الريحاني الكوميديان المسرحي وليس السينمائي.
الريحاني ما قبل وبعد «كشكش بك»
منذ الوهلة الأولى على هذه الكلمات يمكنك أن تخمن كيف كانت حياة الريحاني في النصف الأول من عام 1916، فقد عاش الريحاني أيامًا عجافًا مفلسًا بلا مأوى أو عمل، لا يتخللها سوى تنفيس في أوقات قليلة عمل بها مع بعض الفرق المسرحية بأدوار مهمشة رغم بزوغ موهبته التي أقر بها الجمهور، لكن سرعان ما ينتهي به الأمر إلى ترك الفرقة أو فصلها له.
استمر الريحاني على تلك الحال طويلاً حتى صادف ذات يوم الفنان الشهير (ستيفان روستي) وقد بدت عليه مظاهر الترف والثراء، فما كان من الريحاني بعد أن عرف أنه يعمل في ملهى «أبي دي روز» إلا أن طلب العمل معه مضطرًا لعله ينهي حياة الفلس والشقاء تلك.
في البداية لم يتجاوز عمل الريحاني في ذلك المكان سوى تأدية بعض الحركات الهزلية خلف ستار، أي خيال ظل، ثم بدأ التمثيل في بعض المسرحيات التي ترجمها عن الفرنسية رفقة ستيفان، ولكن هذه المسرحيات لم ترق كثيرًا إلى جمهور المكان، أو كما يقول نجيب الريحاني في مذكراته، كان المتفرجون يديرون ظهورهم إلى المسرح، غير عابئين لما يحدث خلفهم.
لم يكن ذلك خيبة أمل بالنسبة للريحاني وحده، بل كان ذلك صدمة بالنسبة لصاحب الملهى أيضًا، ولأن المصائب لا تأتى فرادى ونتيجة لقلة إقبال الجمهور قرر صاحب الملهى أن يغلق المكان بعد أن تملك منه الإفلاس.
طلب الريحاني من صاحب الملهى أن يمهله بضعة أيام ليخرج فيها برواية لشخصية قد تكون هي تميمة حظهم، كان ذلك عندما كافأ القدر الريحاني بعد مدة ليست بالقصيرة كان فيها سوء الطالع رفيق دربه، ففي إحدى الليالي وبينما كان شاردًا بذهنه يستعرض بعض ذكرياته، استلهم من كتابات الجبرتي شخصية تاريخية تدعى كشكش بك، العمدة الذي يرتدي الجبة والقفطان ويأتي من قريته إلى ملاهي المدينة فتحاوطه بعض النساء الحسناوات ويسرقن كل ما في جعبته من مال فيعود إلى قريته نادمًا على فعلته. [1]
منذ المسرحية الأولى التي أخرجها الريحاني وكان بطلها كشكش بك، والتي كانت بعنوان «تعالي لي يا بطة»، تهافت الجمهور وأقبل على الملهى بشكل منقطع النظير لمشاهدة تلك الشخصية التي أحدثت دويًا في أنحاء البلاد قاصيها ودانيها، الشخصية التي كانت بمثابة بادرة لبزوغ نجم كوميديان جديد في سماء المسرح والسينما يدعى نجيب الريحاني.
هكذا تبدل الشقاء إلى رخاء غير مسبوق بالنسبة للريحاني بفضل شخصية كشكش بك، واحدة من أبرز شخصيات المسرح المصري إن لم تكن أبرزهم.
كيف كان المسرح بمثابة بطل شعبي؟
يعد يعقوب صنوع من رواد المسرح المصري في القرن التاسع عشر، وأهم ما يحتسب له أنه عندما عاد من إيطاليا بعد دراسته للفن وإدراكه لأهميته الشديدة كان أول ما قام به هو تأسيس المسرح المصري عام 1869، معالجًا بذلك قضايا الشعب السياسية والاجتماعية، ولعل ذلك يأخذنا إلى صدامه مع الخديو إسماعيل عندما أخرج مسرحية الضرتين والتي تناولت قضية تعدد الزوجات فكان بها انتقاد لاذع للخديو إسماعيل الذي كان متزوجًا من اثنتين، فضلاً عن مسرحية «الوطن والحرية» التي سخر بها من فساد القصر ونظام الحكم فما كان من الخديو إسماعيل إلا أمره بنفي يعقوب صنوع من مصر وإغلاق مسرحه.
يعيد التاريخ نفسه بعد عشرات السنين ويتكرر هذا الصدام مع نجيب الريحاني، إذ قام الريحاني بالاشتراك مع صديقه بديع خيري بتأليف العديد من المسرحيات التي لامست الشعب ولاقت تجاوبًا كبيرًا وكانت معالجة لقضاياه الاجتماعية والسياسية، ولعل أهم هذه المسرحيات هي مسرحية «حكم قراقوش» تلك المسرحية التي رأها البعض إسقاطًا على الملك فؤاد الأول وحاشيته، والتي تتناول ظلم وديكتاتورية الحاكم الغافل عن أحوال شعبه الذي يغمره الفقر والجوع.
المسرح ثائر في وجه الاستعمار
منذ قديم الأزل ولم يكن المسرح والفن بمنأى عن التغيرات والتطورات السياسية والاجتماعية التي تطرأ على البلاد، يظهر ذلك جليًا في تلك الفترة حيث كانت فرقة الريحاني وعلى رأسها بديع خيري وسيد درويش في ذروة مجدها.
في عام 1919 اجتاحت الشوارع والميادين مظاهرات شعبية بمختلف طوائف وفئات الشعب، لم تكن فرقة الريحاني في غفلة عن الدور السياسي الذي كان تحتم عليها وطنيتها القيام به، فقد خرج نجيب الريحاني برواية «قولوا له»، ولعل أبرز ما قدمت هذه الرواية هو النشيد الوطني ذائع الصيت «قوم يا مصري» الذي جاء من ألحان أحد رواد الموسيقى المصرية والعربية الموسيقار سيد درويش ومن كلمات بديع خيري الذي لقب بعد ذلك بشاعر الثورة عن جدارة، فقد شكل الاثنان ثنائية غيرت الكثير في الموسيقى المصرية والعربية.
انتشرت أغنية «قوم يا مصري» بين فئات الشعب بأكمله كالنار في الهشيم، حيث بثت في نفوس الشعب المزيد من الكراهية ضد الاستعمار وكانت بمثابة الشعلة التي ألهبت حماسهم وروحهم الوطنية، فضلاً عن جمال ألحانها وكلماتها الذي جعلها من التراث الشعبي وخالدة في أذهاننا حتى يومنا هذا.
لم يقف الواجب الوطني للريحاني عند هذا الحد، ففي أثناء تأليف سعد زغلول لحزب الوفد للمطالبة بحق مصر في استقلالها في مؤتمر الصلح بفيرساي، قرر الريحاني أن يزج بلحن في إحدى رواياته وهي «إش» حيث جاء في ختام هذا اللحن ذلك المقطع: «لا تقول نصراني ولا يهودي ولا مسلم يا شيخ اتعلم. اللي أوطانهم تجمعهم. عمر الأديان ما تفرقهم». [2]
الفن وقاعدة ما يطلبه المستمعون
أوضح المخرج مارتن سكورسيزي، مؤخرًا، أن تصريحه الأخير بشأن أفلام مارفل ما هو إلا تذمرًا من تصدر هذه الأفلام شاشات العرض السينمائية وأنها تفرض على الشباب ذوقًا واحدًا، خصوصًا بعد أن لقي فيلمه الأخير صعوبات في توزيعه، وهذا ما تطرق له محمد خان في كتابه مخرج على الطريق عندما تحدث عن فرض المنتجين لأفلام أكثر ضمانًا للربح مع رفضهم لأفلام السينما المستقلة التي تكون ذات جودة فنية عالية ومبررهم لذلك أنها أفلام مهرجانات لا تجذب الجمهور العادي. [3]
عندما ننحي السينما جانبًا ونعود إلى المسرح نرى هذه الظاهرة متأصلة في الذوق العام منذ زمن بعيد، فهناك جورج أبيض إذ عاد من فرنسا واشتهر بالمسرحيات الكلاسيكية التراجيدية التي لم تلق تجاوبًا من الجمهور الذي كان يرغب في التسلية ولا يلقي بالاً للفن الرفيع، فلم يجد أبيض سوى الاستعانة بالشيخ سلامة حجازي لعمل فقرات غنائية لعله يستقطب بها الجمهور. [4]
نرى ذلك أيضًا بالعودة إلى حديثنا عن نجيب الريحاني، فعندما قدمت فرقته مسرحية «الجنيه المصري» بعد أن اقتبسها من الفرنسية أخذ إيراد المسرحية يقل ليلة بعد أخرى بعد أن كان قد بزغ نجمهم بالنسبة للجمهور، وذلك بالرغم من تلقيه بعض عبارات التهنئة والحفاوة ولكن فقط – كما يقول الريحاني في مذكراته – من الأدباء والمثقفين أو الذين على معرفة بأصل المسرحية الفرنسي، أما الجمهور العادي فقد انهال عليها بالسخرية والاستهزاء.
أراد الريحاني بعد هذا الفشل الذريع الذي حققته مسرحية الجنيه المصري أن يتلاعب على الجمهور بشيء من المزاح فخرج بمسرحية المحفظة يا مدام وزج بها مجموعة من الراقصات وبعض النكات وكما يقول كانت هذه أسخف ما جادت به فرقته، ولكن الجمهور كان له رأي اَخر فقد لاقى هذا السخف نجاحًا باهرًا وأنهال المال على شباك التياترو كالمطر الغزير.[5]
بهذه الكلمات رثا الريحاني نفسه قبل مماته بخمسة عشر يومًا، ففي نفس العام الذي أنتج فيه آخر أفلامه غزل البنات أتته المنية إثر إصابته بالتيفوئيد، مات الريحاني عن عمر يناهز الستين عامًا كرس فيها حياته للمسرح والفن، ذلك الفن الذي طالما نغص عليه حياته وهو يسلك طريقه إليه، ذائقًا كل ألوان البؤس والشقاء في سبيل ذلك، مخلفًا وراءه إرثًا فنيًا عظيمًا لا يسعنا إلا أن نقول عنه إننا تجرعنا منه مرارًا وتكرارًا حد الثمالة، ولكن الفنان الذي يسكن قلوب محبيه، كالريحاني، لا يموت.
- مذكرات نجيب الريحاني، ص57
- المرجع السابق، ص 84
- محمد خان، مخرج على الطريق، ص522،523
- تاريخ المسرح عبر العصور، ص 113، 114
- مذكرات نجيب الريحاني، ص147 ،148