نبوءة نجيب محفوظ: الانهيار المبكر للوطنية المصرية
المتأمل في حياة نجيب محفوظ وقصصه وسيرته الفكرية والأدبية يدرك بسهولة عدة سمات رئيسية في حياة الأديب والروائي الأهم في تاريخ الأدب المصري الحديث. هو أولا ابن الطبقة الوسطى الحضرية، حيث كان والده من الجيل المصري الأول الذي عمل بالبيروقراطية المصرية التي تأسست على مراحل في عهود محمد علي والخديو إسماعيل وصولًا إلى اللورد كرومر.
السمة الثانية وهي الأهم إيمانه الجذري وتشكله الوجداني العارم الذي ارتبط به نجيب مع ثورة 1919 بقيادة الوفد وطلبة وشيوخ الأزهر وطلبة جامعة القاهرة وطبقة الأفندية المصرية. لم تكن ثورة 19 مجرد تظاهرات حاشدة خرجت في هذا العام، بل حراكًا جماهيريًّا استمر لسنوات، وتأسيسًا ودمجًا واسعًا لقطاع عريض من سكان مصر داخل الوطنية المصرية والمجال السياسي المصري الحديث، والأهم، كانت تأسيسًا لشرعية وطنية حديثة تظهر فيها مصر كدولة وطنية ملك مواطنيها، ويظهر المصريون كشعب متجانس ومُوحّد ذي سيادة على أرضه وثرواته. حتى وإن كان ذلك غير متحقق حينها، فإن هدف الثورة الأساسي كان تحويل تلك الرؤية إلى واقع.
كتب نجيب محفوظ روايته «القاهرة الجديدة» في العام 1945، وهي أولى رواياته التي تتناول نمط الحياة في مصر الحديثة المعاصرة لا الفرعونية كما في رواياته السابقة. وتعد رواية القاهرة الجديدة بداية لأحد المسارات الرئيسية التي سينتهجها نجيب في كتاباته اللاحقة عن التاريخ الاجتماعي لمصر من خلال الرواية،حيث سيهتم نجيب بالحديث عن المجتمع المصري واصفًا التيارات السياسية والثقافية داخله وأنماط التدين السائدة وتفاعلها مع الأحداث التاريخية، وتحولات النخب الحاكمة والتحولات داخل المجتمع المصري خلال تاريخه الحديث الممتد لأكثر من قرنين.
حول الرواية: أربعة شبان جامعيون في القاهرة
محجوب عبد الدايم، القاهرة الجديدة
تبدأ الرواية بمشهد لأربعة شبان يخرجون من جامعة القاهرة ويتناقشون عن المستقبل والسياسة والحب والمجتمع والاستقلال. نرى خلال الحوار استعراض نجيب لرؤية كل شاب من أبطال الرواية للعالم لنجد أنفسنا بعد صفحات قليلة من الرواية على معرفة بالتيارات الثقافية التي سادت خلال فترة الأريعينيات في الجامعة وخارجها، وموقفها كلها من القضية الوطنية المصرية.
من خلال أحداث الرواية نرى شخصيتين تقفان على طرفي نقيض، هما شخصية علي طه ومأمون رضوان، حيث يبدو علي طه بماديته التاريخية وهمومه الاجتماعية معبرًا عن التيار الاشتراكي والشيوعي،بينما يأتي مأمون رضوان بخطاب وأفكار إسلامية أممية خالصة، رافضًا الاعتراف بخصوصية القضية الوطنية المصرية معبرًا في ذلك عن تيار الإخوان المسلمين. كلا التيارين كان لهما الانتشار الواسع والمهيمن على أوساط الجماعة والحركة الطلابية والطبقة الوسطى في مصر خلال فترة الأربعينيات.
تظهر الشخصيتان الأخيرتان قريبتين من بعضهما، الطالب والصحفي أحمد بدير، والطالب الساخط المحبط والشخصية الرئيسية في الرواية محجوب عبد الدايم. يظهر أحمد بدير بلا قناعات صلبة يدافع عنها، مخلصًا لحسّه الصحفي المحايد، حيث يستخدمه محفوظ لاستنطاق الشخصيات الأخرى، ولا يظهر طوال الرواية أي رأي لأحمد بدير. بينما على الناحية الأخرى، يظهر محجوب عبد الدايم غير مكترث بأي من الآراء حوله، كأنه لا ينتمي إلى هذا العالم الذي تسود فيه مثل تلك التصورات والأفكار، لا يرى أيًا منها تمثله، مغتربًا عنها وعن نفسه وعن العالم والمدينة التي وجد نفسه مُلقى في شوارعها.
القاهرة الجديدة: السياق السياسي للرواية
لعل الأكثر إثارة للتأويل هو العنوان الذي اختاره نجيب محفوظ للرواية. نجيب الذي درس الفلسفة وكتب فيها، اختار «القاهرة الجديدة» كعنوان للدلالة ربما على القاهرة الخديوية الحديثة التي تحيل إلى العصر الحديث الذي دخلته مصر منذ عهد محمد علي ومعاهدة 1840، وهي المدينة التي أسهب نجيب في وصفها خلال الرواية، وفي وصف كيفية تحرك الشباب المصري الجامعي في شوراعها وطرق مواصلاتها تمييزًا لها عن مصر الولاية العثمانية ومجتمعها التقليدي المحلي الذي ربما لا يراه نحيب إلا من خلال موقعه من سرديّة القاهرة الجديدة الحديثة.
في غالبية الدراسات التي تناولت تاريخ مصر الحديث، يوجد تصور عام هو أن هنالك محطات رئيسية شكلت قصة الحداثة في مصر؛ أولها يقع في الحقبة بين الحملة الفرنسية ومشاريع محمد علي، حيث يرى المؤرخ ف. روبرت هنتر أن لا خلاف جوهريًّا بين مشاريع محمد علي وورثته والمشاريع التى كانت الحملة الفرنسية في مصر تنتوي إقامتها، سواء على مستوى تخطيط المدن الحديثة أو بناء الجيش والموانئ والمصانع اللازمة للتنمية والتحديث.
ثاني تلك المراحل هي الفترة الممتدة من بعد توقيع معاهدة 1840 بين القوى الأوروبية ومحمد على حتى عهد الخديو إسماعيل، والناتج عنها تفكيك المشروع الاحتكاري لمحمد علي وبداية خصخة الأراضي المملوكة للباشا وظهور طبقة من الأعيان وكبار ومتوسطي الملّاك ساهموا بعد ذلك في تأسيس المجال السياسي المصري الحديث.
وثالث تلك المراحل وأهمها هو قيام ثورة 19 التي هي أول ثورة شعبية في تاريخ مصر الحديث، وهي في أحد وجوهها رد فعل على عمليات التحديث العنيفة والمتسارعة والسُلطوية، ولكنها رد فعل من داخل منطق الحداثة ونظام الدولة الحديثة، حيث اعتُبرت الثورة تأسيسًا لأيديولوجيا جديدة ولوعي أخلاقي سياسي بين نظام الحُكم من جانب وبين سُكّانه من جانب آخر، بحيث يكون مصدر شرعية هذا النظام فيما بعد، ويكون السُكان مُمثَّلين داخله ومُشاركين في إدارته، وأتى دستور 1923 ليكون مُعبرًا عن تلك المرحلة من تَشكُل الشعب المصري والدولة الوطنية المصرية الحديثة.
في كتابه بالغ الأهمية «الوطنية الأليفة»، يوضح تميم البرغوثي أن الفئات التي أنتجها التحديث من المتعلمين وضباط الجيش وموظفي البيروقراطية والأعيان وكبار ومتوسطي الملّاك كانوا يعانون من أزمة هوية وانتماء سياسية وجودية. فمصر من بعد معاهدة 1840 لم تعد كما كانت في السابق ولاية عثمانية، ومصالح تلك الفئات ورؤيتها للعالم تتعارض مع البقاء كولاية تحت إمرة السُلطان العُثماني والأتراك، لكن مصر لم تتحول كذلك إلى دولة وشعب بالمعنى الوطني الحديث إلا بعد ثورة 19 ودستور 23 الحدث والوثيقة اللذين مثّلا معًا هويّة الفرد المصري الحديث ومدار انتمائه الأسمى ورؤيته للعالم ورؤية العالم له.
وعلى هذا الوضع، تأسس نضال المصريين من النخبة الحضرية من المتعلمين والأفندية والعمال والطلبة والمحامين والأعيان وملاك الأراضي والبرجوازية المصرية الصناعية والمصرفية الوليدة ضد الاحتلال الأجنبي البريطاني للأراضي المصرية وانتهاكه لسيادة الدولة المصرية وشعبها على أراضيها. تزعّم هذا النضال بالطبع الوفد المصري الذي شكّله سعد زغلول وعلي شعرواي وعبد العزيز فهمي قبيل اندلاع الثورة، ثم بعد ذلك حزب الوفد نفسه الذي تأسّس على إثر الثورة وتزعمه سعد زغلول ومصطفى النحاس على التوالي خلال الفترة الممتدة من 1919 حتى الانقلاب العسكري عام 1952.
محجوب عبد الدايم أو فشل الوطنية المصرية
كتب نجيب محفوظ الرواية في منتصف الأربعينيات تقريبًا، وتعد شخصية محجوب عبد الدايم أول شخصية عدمية في الأدب العربي الحديث. ما يلفت الانتباه هو تعمد نجيب وضع محجوب عبد الدايم بين شخصيتين مختلفين فكريًّا تمامًا، هما علي طه ومأمون رضوان، ليوضح أزمة مصر والأزمة السياسية والوجودية في تلك الفترة.
اتكاءً على تأريخ طارق البشري، لم يكن حزب الوفد مجرد حزب سياسي بالمعنى الأوروبي للمصطلح، بل كان أقرب إلى جبهة وطنية أو حركة تحرر وطني تخوض صراعًا مُوكلة فيه عن الأمة، حيث حظي الوفد منذ اندلاع الثورة حتى منتصف الثلاثينيات بتأييد شعبي كاسح، ورأى الوفد، ورأت قواعده الملتفة حوله، أن الوفد مُمثل الأمة الحصري، وأن الخروج على الوفد خروج على الأمة نفسها وعلى القضية الوطنية بالتبعية.
إلا إنه منذ معاهدة 36، وهي المعاهدة التي وقعها الوفد بقيادة مصطفى النحاس مع الاستعمار الإنجليزي، تراجعت شعبية الوفد كثيرًا وتراجع معه مشروعه الذي نادى به أثناء تزعمه لثورة 19 وأثناء نضاله السياسي بعدها، حيث ساد رأي عام أن المعاهدة أقل من توقعات المصريين حول الاستقلال، وأنها تحمي مصالح بريطانيا أكثر مما تحمي استقلال مصر ومصالحها، وتتيح لبريطانيا التدخل في شئون مصر لتفرغ الاستقلال الوطني من مضمونه.
كان هذا التنازل من حزب الوفد انتقاصًا من شرعية حزب الوفد نفسه، بل شرعية المشروع الدستوري الليبرالي النيابي نفسه، لأن الحزب وإن نادى بالليبرالية النيابية والملكية الدستورية، فإنه قدّم نفسه قبل كل ذلك وكيلًا عن الشعب المصري وحركة تحرُر وطني بالأساس، وليس مجرد حزب سياسي، وبهذا كان تراجع الوفد تآكلًا لشرعية النظام السياسي كله، وليس مجرد تراجع لحزب سياسي فقد شَعبيتَه.
على الناحية الأخرى، بدأت الطبقة الوسطى الحضرية الآخذة في الازدياد – بفعل التحديث كسياسات التعليم الموحّد المدرسي والجامعي التي اتسعت مع الثورة – في التوجه لتنظيمات تُعبر عن هذا المزاج الراديكالي الجديد لدى الطبقة الوُسطى، كتنظيم الإخوان المُسلمين والتنظيمات اليسارية المُختلفة.
على الرغم من التباين الواضح بين التنظيمات، كالخلاف بين علي طه ومأمون رضوان،فإنهم اتفقو على رفض الأسس النظرية والهوياتية التي قام عليها النظام من جذوره، كرفض السياسات البرلمانية والليبرالية والهوية الوطنية ودستور 23 الليبرالي شبه الديمقراطي، ورفضوا الرأسمالية والإقطاع بدرجات متفاوتة، بالإضافة إلى أن كلًّا منهما امتلك رؤى سُلطوية صلبة للعالم وللمجتمع، وكان تزايد شعبيته المفاجئ وتراجع شعبية الوفد إعلانًا عن فشل الحداثة شبه الديمقراطية المُمثلة في مشروع ثورة 19، دستور 23، حزب الوفد السياسي؛ مقابل قيام تنظيمات حداثية سُلطوية كحركة حدتو وتنظيم الإخوان تفترض شرعية سياسية مفارقة لشرعية ثورة 19 وشرعية الوطنية المصرية.
كان في شخصية محجوب عبد الدايم في الرواية وصف لحال قطاع عريض من المصريين بعد تآكل نظام دستور 23 وثورة 19، وإدانة ضمنية لحزب الوفد الذي تخلى عن قواعده فسمح للنظام الذي شكل هوية المصريين أن يتآكل ويتشظى لتقع مصر في حالة فراغ وعدمية سياسية. فمحجوب عبد الدايم الذي لم يجد قيمة يؤمن ويحتمي بها وسلّم شرفه لقاسم بك فهمي، الأرستقراطي والموظف الكبير المَرضي عنه من قبل النخبة المُنتفعة من الاحتلال، هو تعبير عن حال حزب الوفد بعد معاهدة 36 وحادثة 4 فبراير (عندما حاصرت الدبابات الإنجليزية القصر لإجبار الملك على تكليف الوفد بتشكيل الحكومة باعتبار الوفد حليفًا وقتها للإنجليز)؛ حزب مَهزوم فاقد الشعبية والشرعية والهوية السياسية النضالية أمام تحكمات الأرستقرطية الإقطاعية المتحالفة مع الاستعمار والمنتفعة من وجوده.
- القاهرة الجديدة، نجيب محفوظ، دار الشروق.
- مصر الخديوية (1805-1897): نشأة البيروقراطية الحديثة، ف. روبرت هنتر، ترجمة: بدر الرفاعي، الهيئة العامة للكتاب.
- ماهية المعاصرة، طارق البشري، دار الشروق.
- الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار، تميم البرغوثي، دار نهضة مصر.
- البحث عن خلاص: أزمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر، شريف يونس، الهيئة العامة للكتاب.