في أثناء تجولي في أحد المواقع الروسية الخاصة بتقييمات الكتب، تعثرت في رواية «أولاد حارتنا» ومن باب الفضول أردت أن أعرف ماذا يقول الروس عن كاتبنا الحائز على نوبل، هل أحبوه أم لم يفهموا شيئًا أم لم يرقهم جو الحارة ويجدونها لا تستحق.

كانت الجملة الأولى من المراجعة الأولى التي وجدتها أمامي هي سبب كل أفكاري لهذه المقالات. افتتحت القارئة تقييمها قائلة إنها لا تعرف الكثير عن القصص الدينية، لا الإسلامية ولا حتى المسيحية واليهودية. تعرف القشور وليس القصص الكاملة بتفاصيلها. طوال الرواية كانت تعرف أن هناك خلفية ما، لكن لم تدركها واستمتعت بقصة الحارة نفسها وشخصياتها العجيبة. اعترف أنني كثيرًا ما فكرت في احتمالية نزع الجزء الديني من رواية «أولاد حارتنا» ولكن كمجرد فكرة فلا يمكنني قراءتها بشكل طبيعي بعد أن كاد الكاتب يفقد حياته ثمنًا لها وبسبب كل تلك التفسيرات المحفوظة عن أن أدهم هو آدم وأن جبل هو موسى. لقد نشأت مع هذه القصص ونشأتي مع قراءة نجيب كانت مع قصة الاعتداء عليه. وأعتقد أن فكرتي تلك لا تختلف عن الكثير من قراء هذا الجيل الذين كبروا في نفس الظروف تقريبًا، حتى من لا يقرأ (من لا يقرأ الأدب أو لا يعرف القراءة من الأساس) عرف حكاية دخول نجيب محفوظ المستشفى لأنه كتب شيئًا مثيرًا.

هذه القارئة الروسية التي لا أعرفها أعطتني إجابة السؤال الذي كنت أريده، ماذا سنرى إذا قرأنا «أولاد حارتنا» دون أن نكون في انتظار ظهور شخصية دينية أو حدث نعرفه؟ ماذا إذا كنا لا نعرفهم أصلًا؟ وإذا كنا لا نعرف عما تتحدث الرواية من الأساس ولا حتى الكاتب ولم نرَ حارة من قبل!

حاولت التخيل وما جاء ببالي هو عالم جديد مختلف عن الطريقة التي قرأت بها «أولاد حارتنا» مع شعوري بالإلفة بين الشوارع والشخصيات والألفاظ والكلمات.

هنا أدركت أنه ربما الأمر ليس بهذه الصعوبة. لدي كنز كبير من الآراء بهذا الشكل بالضبط، عدد كبير من القراء الروس الذين لم تصل إليهم سيرة نجيب وشهرته الكاملة وبالتالي آراؤهم وقراءتهم مختلفة تمامًا. فلا هم يعرفون الخلفية السياسية للأحداث أو حتى الخلفية الاجتماعية الخاصة بالشعب وطبقاته، بل وما زال لدى بعضهم تخيلات خاطئة عن بيئة مصر ومدنها حتى اليوم وهو ما ظهر جليًا في بعض تقييماتهم لكتب محفوظ.

رغم أن الكثيرين كتبوا عن نجيب ويوجد الكثير من التصنيفات لكتاباته، مثلًا وجدت مواقع إلكترونية تعطي دليلًا أو كتالوجًا لمن يريد أن يبدأ بالقراءة لمحفوظ، ومواقع أخرى تقسم إنتاجه إلى أعمال صغيرة تجريبية وأعمال كبيرة أكثر اكتمالًا. آخرون كتبوا عن الروايات الواقعية والروايات الفلسفية وبين هذا وذاك ظهرت كتب تتحدث عن الجغرافيا في كتبه والسياسة في رواياته ومعجم كامل لشخصيات أعماله تحللهم وتفندهم. مهما كتبنا يظل هناك الكثير بسبب إنتاج هذا الرجل المتنوع والآن لقد وجدت مصدرًا جديدًا يتحدث عن كتاباته. هذه المرة لن نتحدث نحن العرب من تشبعنا بالقراءة والحديث عنه ومشاهدة اللقاءات المصورة، بل سوف نقرأ تقييمات قراء من دولة أخرى بلا انطباعات مسبقة سوى أنه حائز على جائزة كبيرة ولم تترجم كل أعماله حتى، بل مجرد مختارات. هذه المرة لن نرى آراءً تضع العمل في خط زمني أو تحت تصنيف محدد لأنهم لا يعرفون الخط الزمني ولا يعرفون كل ما كتب.

هؤلاء القراء أمسكوا الأعمال وقرؤوا قصة وشاهدوا شخصيات مميزة وحوارات فعالة وبنوا آراءهم على أساس ما تفاعلوا معه فقط، لا عما يدور في الخلفية وما حصل في مصر في تلك الفترة وخلافه.

وهناك عنصر مهم لا يمكن أن أنساه وهو المترجمون الذين نقلوا محفوظ سواء من العربية مباشرة أو من خلال الترجمات الإنجليزية. فمن خلال قراءة مقدمات بعض الترجمات لاحظت اختلافات حتى لو لم تكن كبيرة. ففي النهاية لا يأخذ رأي المترجم (إذا كتبه) حيزًا كبيرًا بل يكون التركيز الأكبر على تقديم الكاتب خصوصًا إذا كان من ثقافة جديدة مختلفة تستوجب التعريف أو إذا كان الكاتب شخصًا يجب أن نعرف عن حياته قبل العمل أو حتى حائزًا على جائزة كبيرة بسبب تأثيرات معينة يجب أن ننوه عنها للقارئ.

الخبر الجيد أن أعمال نجيب محفوظ الأدبية كلها تجمع هذه الأسباب لذا كانت كل الترجمات التي رأيتها تحمل مقدمات طويلة أو متوسطة، وكانت هذه الترجمات تحمل رأي المترجم لكن ليس بشكل مباشر. فاختيار المترجم التقديم الذي يراه هامًا للقارئ هو رأي في حد ذاته. مثلًا في مقدمة كتاب «العائش في الحقيقة» اختار المترجم يفجيني كاتز –مترجم عن الإنجليزية- ألا يتحدث عن الكاتب أو تاريخه أو الجملة المكررة عما قالته لجنة الجائزة السويدية في عام تسلمه الجائزة، بل كتب مقالًا طويلًا للغاية يلخص فيه تاريخ مصر القديمة وأسرها وأهم الملوك والفترات التاريخية نظرًا لأن تلك الرواية تتحدث عن شخصية حقيقية (أخناتون) وتناول أيضًا شخصية أخناتون في الكتب وفترة حكمه الملتبسة والشخصيات من حوله وهي بالطبع مقدمة مستحيل أن نراها في كتبنا إن لم تكن على الأقل في الكتب المدرسية.

وتتابع مقدمات المترجمين في أشكال مختلفة مثل مقدمة المستشرقة فاليريا كاربتشينكو لكتاب مختارات يضم ثلاثة أعمال لنجيب محفوظ. كانت مقدمتها عن استحقاقية نجيب محفوظ لجائزة نوبل وأسلوبه الفريد وتحليل للثلاثة أعمال داخل الكتاب، وأيضًا ذكرت المؤثرين على نجيب محفوظ في الأدب وهي معلومات لم يكن من الصعب على المستشرقة الوصول إليها بسبب إقامتها الطويلة في مصر بالفعل مع زوجها فاديم كاربتشينكو الذي كان سفير روسيا في مصر وبالتالي تميزت مقدمتها مثلًا عن مقدمة «الحب تحت المطر» الذي لم يقدمها المترجم بل الناقد «ل.ستيبانوف» الذي قدم تحليلًا للرواية مع نبذة عن نجيب محفوظ وحياته وأعماله لكنها مقدمة قائمة على تجميع المعلومات من مصادر مختلفة وركزت المقدمة بشكل أكبر على تحليل الرواية نفسها.

أما رواية «المرايا» فقدمها الصحفي أناتولي جارشيف الذي عمل في عدة صحف وعمل مراسلًا في مصر وكتب كتابًا عن جمال عبد الناصر. ركز أناتولي على الخلفية السياسية للأحداث في رواية «المرايا»، وعن الطبقات الاجتماعية في مصر وتفاعلهم مع الأحداث في تلك الفترة.

هذه الأمثلة البسيطة تبين الاختلاف في الأفكار حتى لو على شكل مقدمة، فالمستشرقة فاليريا كاربيتشنكو اهتمت بتسليط الضوء على اختلاف نجيب محفوظ وأسلوبه، والناقد اهتم بالعمل الأدبي وتحليله، والصحفي اهتم بخلفية الأحداث. وهذا قد يكون رأي كل منهم وأولويته عما يجب أن يعرفه القارئ.

ولقد ترجمت أجزاء من مقدمة أناتولي جارشيف و ل.ستيبانوف في كتاب «نجيب محفوظ في مرآة الاستشراق السوفيتي» للمترجم أحمد الخميسي الذي يتناول أبحاث ورسائل المستشرقين في فترة الاتحاد السوفيتي وبعدها وقد قام المترجم أيضًا باختيار الأجزاء المميزة بعيدًا عن التكرار حول حياة نجيب محفوظ ووظائفه وما إلى ذلك.

لكن في النهاية القارئ لن يعرف كل شيء. لن يكون بمثل اطلاع المستشرقة والناقد، ولن يملك أدوات تحليل مثل أساتذة الجامعات في أبحاثهم وبالتالي ستكون آراؤه مختلفة وبعيدة عن التأثيرات والمعرفة المسبقة عن خصائص الكاتب وشكل كتابته المعتاد ويتيح التركيز على العمل الأدبي نفسه ومن هنا يمكننا الحديث عن القراء أكثر.