متحف نجيب محفوظ: رحلة البحث في جماليات المكان
في عام 2006، وبينما كانت القاهرة حزينة على رحيل ابنها نجيب محفوظ الذي وافته المنية عن عُمر ناهز 95 عامًا، اجتمع وزير الثقافة، حينها، فاروق حسني، باثنين من كبار مساعديه هما أيمن عبدالمنعم، مدير مكتبه، والمهندس طارق المُري، استشاري الوزارة لمشروع القاهرة التاريخية. قال أيمن بغتة: «نجيب محفوظ»، فأجابه المهندس طارق: «قصر بشتاك»، فردّ عليه: «كلا، تكية أبو الدهب».
لم يكن هذا حوارًا مُشفَّرًا دار في جنبات مكتب الوزير، وإنما يمكننا اعتباره أول عَصْف ذهني سريع شهدته وزارة الثقافة استجابة للرحيل الجلل ببحث تخصيص متحف أو عدمه إحياءً لذكرى صاحب نوبل، وكانت المقارنة فيه بين مكانين هما قصر الأمير سيف الدين بشتاك الناصري أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، أو تكية محمد بك أبو الدهب، وهما المكانان الأثريان اللذان ظلَّت تتأرجح بينهما بوصلة المشروع ذهابًا وإيابًا إلى أن حُسم الأمر هذا العام، ونالت الأخيرة شرف إيواء المتحف المحفوظي.
لعبت جغرافيا الجمالية دورًا بارزًا في أدب نجيب محفوظ، وشهدت حواريها معظم أعماله الأدبية، وكان الرجل يُسرف إسرافًا كبيرًا في وصفها بشكل يجعله يهتم بدقائق الأمور ويضخمها في شيء من الاستقصاء، الأمر الذي عكس هذه التفاصيل على خيال القارئ، فالمآذن والقباب، والتكايا والسُبُل، والدروب والعطوف والميادين، والمشربيات والمقاهي المرسومة في رواياته تجعل القارئ وكأنه يعيش بين هذه الحنايا، وكأنه يطل من إحدى مشربياتها وينظر لها عن قُرب.
لذا فرضت «الجمّالية» نفسها على صانع القرار المصري، ولعب القُرب أو البعد منها دورًا حاسمًا في فلترة أي مكان مقترح للمتحف حتى انتهى مسؤولو الدولة إلى 3 أماكن،الأول هو بيته الذي وُلد فيه، وهو خيار تم استبعاده سريعًا لسببين، الأول، كما أكده لـ«إضاءات» مصدر بوزارة الثقافة، أن المكان كان صغيرًا للغاية ولن يتسع أبدًا لأي قدر من المعروضات، والثاني، عرفناه من خلال زيارتنا الميدانية للبيت، وهي أنه تم هدمه منذ بضع سنوات وأنشئ بدلاً منه منزل جديد.
المكان الثاني، كان قصر الأمير بشتاك الذي يُطل على شارع المعز ويمتاز ببنائه المعماري المميز، علاوة على أنه ظهر في أدب محفوظ في ثلاثيته، فالمكان الذي كان يعيش فيه بطله أحمد عبدالجواد لم يكن بيتًا متواضعًا على الحقيقة، وإنما كان هو القصر نفسه.
ثالث، المقترحات وآخرها كان تكية أبو الدهب التي أنشأها الأمير محمد أبو الدهب، وكان مملوكًا لمحمد علي بك الكبير، وتقع على بُعد أمتار قليلة من جامع الأزهر.
يحكي «المُري» لـ«إضاءات»، أنه اعترض في البداية على التكية، لأن بابها الرئيسي يُطل على شارع ضيق، ولن يكون مدخلاً لائقًا للمتحف، لذا كلفه الوزير باصطحاب مجموعة من الأدباء من أصدقاء محفوظ: جابر عصفور وجمال الغيطاني ومحمد سلماوي، وزاروا قصر بشتاك وشرح لهم تصورًا مبدئيًا عن كيفية استغلال المكان وأشكال القاعات المقترحة، لكنهم رغم ذلك ظلوا على قناعة بأن التكية هي الأنسب، فكان لهم ما أرادوا، لكنه يضيف: «بعدها قعدنا منعملش حاجة، مجرد كلام لغاية ما الموضوع مات لأسباب معرفهاش».
ويتابع:
غادر المهندس طارق منصبه في 2011، لكن الوزارة تعاقدت معه بعد الثورة لتصميم المتحف بعقد أعمال استشارية لتصميم المركز والعرض المتحفي، بتاريخ ٢٩ ديسمبر ٢٠١١، ووقتها طُرح المشروع للتنفيذ ثلاث مرات لم تُكلل بالنجاح، وفي النهاية كُلف به المقاولون العرب، ومن حينها بدأ يتكرر مشهد يكاد يكون كربونيًا من بطولة كل المتعاقبين على قيادة وزارة الثقافة المصرية، يقوم الواحد منهم بزيارة إلى المكان متفقدًا للإنشاءات ويُؤكد بعدها للصحافة أنه لن يقبل أن يستمر تأخير التنفيذ طويلاً، ثم يُعلن موعدًا نهائيًا لافتتاح المكان لا يحدث فيه أي شيء وتستمر تلك الإنشاءات حتى خُيل للمتابع أنها أبدية لا تنتهي، إلى أن يعود الأمر إلى طي النسيان من جديد حتى يتقلد المنصب وزير جديد يقوم بنفس الأمر، وهكذا.
3 مواعيد للافتتاح
عادت المياه الراكدة إلى الحركة بعد ما أعلن وزير الثقافة في ذلك الوقت، الدكتور عبدالواحد النبوي، بأمسية ثقافية عن محفوظ، أن الخلافات بين وزارته و«الآثار» بلغت ذروتها بسبب رفض الآثار التخلي عن التكية لصالح المشروع، وأن هذا هو سبب تأخر التنفيذ طوال السنوات الفائتة، فقرر النبوي نقل المتحف برمته إلى المكان البديل،مؤكدًا أن قصر بشتاك سيشهد الافتتاح الرسمي في 11 ديسمبر/كانون الأول من هذا العام، وهو ما لم يتم.
القرار رفضه الكاتب محمد سلماوي، أمين عام اتحاد الكتاب العرب، معتبرًا أن التراجع عن المكان «عشوائية لا تجوز»، معلنًا مبادرة اكتتاب شعبي لجمع الأموال اللازمة لتدشين المتحف بعيدًا عن بيروقراطية الدولة.
تدخلت الدولة سريعًا لحل هذه الأزمة بين الوزارتين،وأمر رئيس الوزراء إبراهيم محلب بالعودة إلى الاختيار القديم، والبدء في إعداد التكية لتستضيف المتحف، ورغم هذا فإنه لم يفتتح في موعده المقرر.
بعدها بسنتين،زار وزير الثقافة حلمي النمنم وكالة أبوالدهب للوقوف على آخر التجهيزات التي حدثت للمكان، معلنًا أن المتحف سيتم في شهر ديسمبر تزامنًا مع ذكرى ميلاد محفوظ، وهو الموعد الذي أخلفه النمنم بدوره.
وفي عام 2018،أعلنت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم آخر المواعيد التي لم تتحقق في الافتتاح، وأنه سيكون في مارس من هذا العام. صحيح أن الموعد تزحزح 4 أشهر كاملة، لكن في النهاية يكفينا أنه خرج إلى النور أخيرًا بعد أعوامٍ من حبسة الأدراج.
في ضيافة نجيب
ما أن تدخل المكان حتى تجذبك نوافذه المفرغة بأشكال تراثية وإضاءته الناعمة الصفراء، وأعمدته الخشبية القديمة المطلية بأزرق، الغرف سقوفها عالية مكتنزة بالدرر، الأرضية من خشب وحجارة أثريين يعودان لزمن بناء التكية أوائل القرن الثامن عشر.
يقول مصدر في المتحف لـ«إضاءات»: عقب ثورة يناير كان هدف الوزارة هو الانتهاء من المشاريع التي كانت قيد الإنشاء بالفعل، والمتحف والمتحف لم يدخل بؤرة الاهتمامات إلا في 2016، وتم عقد عشرات اللجان الحكومية الفنية من أجل الوصول إلى التصميم النهائي له، بالتعاون مع المهندس المتحفي كريم الشابوري، وهو الذي تعاقدت مع «الثقافة»، مؤخرًا، لاستكمال تنفيذ المشروع.
ويتابع: إن كل المقتنيات الشخصية التي تم استلامها من أسرة الأديب عُرضت، عدا السجادة التي تلقاها هدية من الرئيس التونسي بن علي، لأنها تحتاج لأجهزة معينة تسحب الرطوبة وتحميها من التلف، ويجري حاليًا تجهيز مكان لها بالفعل.
وأضاف: سيتم إنشاء قاعة مخصصة لمكتبته الشخصية تضم الكتب التي كان يملكها وفاق عددها الألف، علاوة على أرشيفه الصحفي في جريدة الأهرام، كما نطمح لإنشاء قاعة تبرعات عن الهدايا والمقتنيات التي أهداها نجيب لأصدقائه.
تقول ليدا منصور باحثة اللسانيات في جامعة السوربون، والتي أعدّت رسالة ماجستير عن نجيب محفوظ، إن اختيار المكان بالنسبة لها كان ممتازًا ويحمل «رائحة نجيب»، وإن فكرة قاعة الفيديو أعجبتها أيضًا، على الرغم من أن الصوت غير واضح، كما أن الأفلام بحاجة لترجمة باللغات المختلفة كي يفهمها السائحون المتوقع مجيئهم إلى هنا.
كما اقترحت قيام المتحف بأنشطة تجارية تتمثل في بيع صور لنجيب وأبرز رواياته، مؤكدة أن عشاقه الأجانب مهووسون بها.
فيما اختتم المهندس طارق المري حديثه مع «إضاءات» بقوله: