نفيسة المرادية: كسبت قلوب المصريين بالسياسة وحارة السُكرية
هذه العبارات التي تبدو جسورة دون تهور، طالبة للعطف دون خضوع، قالتها السيدة نفيسة البيضاء (المرادية) لحاكم مصر الوالي العثماني خورشيد باشا، حين تجرأ وأحضرها لقصره بالقلعة، حسبما وثق ذلك المؤرخ المصري المعاصر لتلك الفترة عبد الرحمن الجبرتي (توفي في 1825م) في سِفره الشهير «عجائب الآثار في التراجم والأخبار».
هي السيدة التي ساهمت في جلاء الحملة الفرنسية عن مصر، وكانت مخيفةً للوالي العثماني خورشيد باشا، ثم محمد علي باشا، ومن قبلهم كانت الأقرب إلى قلب علي بك الكبير، الذي حاول الاستقلال بمصر، بل استقل بها فعلاً مع الحجاز والشام عن الدولة العثمانية، ثم كانت زوجة ومستشارة مراد بك، الأمير المملوكي الذي حكم مصر تحت العباءة العثمانية.
هي الجارية فاتنة الجمال، ثم السيدة المهيبة التي لا يزال أثرها خالدًا في قلب القاهرة، صاحبة حارة السكرية التي ألف عنها نجيب محفوظ روايته الشهيرة، والتي لا تزال بعض من معالمها الأثرية قائمة حتى الآن، ومنها السبيل الذي يحمل نقوشًا لأبيات شعرية تمدح صاحبته:
من هي نفيسة؟ وما الأدوار السياسية والإنسانية التي لعبتها في التاريخ المصري؟ وكيف انتهى دورها في عهد محمد علي باشا؟
نجيب عن هذه الأسئلة في هذه السطور، ومن خلالها نتعرف على ملامح من شكل المجتمع المصري في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، وبدايات القرن التاسع عشر، ودور النساء به.
الطفلة الجورجية زوجة حاكم مصر
لا نعلم أين ولدت نفيسة تحديداً، ولا تاريخ ميلادها الدقيق، ولا نعلم اسمها الحقيقي، ولكن تخبرنا المصادر أنها ولدت في منتصف القرن الثامن عشر، بإحدى قرى جورجيا، وخطفها لصوص وباعوها لتجار النخاسة، الذين باعوها داخل أراضي الدولة العثمانية، وضمنها مصر، كما كانت العادة في هذا الزمان، حسبما يرجح الدكتور ناصر سليمان في دراسته «التاريخ الاجتماعي للجواري في مصر قبيل عصر التحديث: نفيسة خاتون (المرادية) نموذجاً».
اختير لها اسم «نفيسة» وهو اسم عزيز على المصريين، المرتبطين بقوة بالسيدة نفيسة، سليلة آل بيت النبوة وصاحبة المقام الشهير في القاهرة، ما يدلُّ على محبتها في قلب من أطلق عليها هذا الاسم. وكُنيت بـ«البيضا» وفقاً للنطق المصري، لأنها كانت أوروبية بيضاء، تمييزاً لها عن الجواري الحبشيات.
ثم وجدت نفسها في بيت شيخ البلد علي بك الكبير (توفي في 1773م)، وكانت محظيته المُقرَّبة، واختصَّها بقصرٍ في حي الأزبكية الأرستقراطي، تعيش به وحدها بين خدمها وجواريها وحراسها، وحينها لقبت بـ «الست نفيسة خاتون»، حسبما أوضح الجبرتي.
كان الأمير المملوكي علي بك الكبير، شديد الإعجاب بالمماليك الأوائل الذين كوَّنوا سلطنة مهيبة، كانت الأقوى في الشرق الأوسط، قبل أن يقضي عليها العثمانيون، وكان شديد التطلع لإعادة هذا المجد، فكان يعقد الاجتماعات بالمماليك ويتباحث معهم في ذلك وفي غيره، داخل قصر نفيسة، التي كانت تنتقي لهم زوجاتهم من الجواري الجورجيات، وتغدق عليهم الهدايا، فنالت محبة ومهابة في نفوسهم ونفوس زوجاتهم، من ناحية لعلاقتها ومعاملتها لهم، ومن ناحية أخرى لعلمهم أنها الأقرب لقلب علي بك، التي يأتمنها على أدق أسراره.
«شيخ البلد» كان المسؤول عن إدارة شؤون الولاية المصرية الداخلية، ولكن تحت سُلطة الوالي المُعيَّن من قِبَل السلطان العثماني. ولكن بعد أن قويت شوكة علي بك وضمن ولاء العسكر المماليك له، استغل انشغال الدولة العثمانية بالحرب مع الإمبراطورية الروسية وطرد الوالي العثماني من مصر، وأعلن نفسه حاكمًا مُطلقًا لها، ثم أرسل جيوشه إلى الحجاز والشام وضمهما إلى ملكه.
وبعد انقلاب محمد بك أبو الدهب عليه، وجرحه في معركة الصالحية شرقي مصر، طلب علي بك أن يعيدوه إلى قصر نفيسة، ليموت بين يديها.
كان الحكم بين المماليك دائماً لمن غلب، فكانت الانقلابات العسكرية وتصفية الحاكم جسدياً مسألة متكررة، وجرت العادة أن يتزوج الحاكم الجديد أو أحد مقربيه من زوجة الحاكم المغدور، ويستولي على أملاكه، وكان مراد بك (توفي في 1801م) شريك أبي الدهب في الانقلاب هو من طعن علي بك في معركة الصالحية، واتفق مع أبي الدهب على أن يتزوج من نفيسة بعد نجاح الانقلاب.
كانت نفيسة وهي سيدة القصر المحنكة سياسياً تعلم ذلك، فوجدت أن لا بديل عن القبول ومن ثم استعادة السيطرة. وكان ذلك من مصلحة الأمير الطموح، الذي دعَّمته زوجته ورتَّبت معه كيف يكسب ولاء المماليك ليبايعوه حاكماً بعد مقتل أبي الدهب في الشام، وكذلك دفعت به إلى مهادنة الدولة العثمانية ليضمن حكماً مستقراً، بالتشارك مع إبراهيم بك (توفي في 1817م)، استمرَّ منذ 1875 حتى مجيء الحملة الفرنسية عام 1798م.
«المصرلية» شهيرة الذِّكر بالخير
حصَّنت نفيسة نفسها بحب المصريين، ولم يُرضِها أن تظلَّ خلف حجاب تدعم زوجها فقط، بل خرجت للمجتمع القاهري بأموالها الطائلة، لتنشئ حمامين عموميين، يُستغل ريعهما لأوجه الخير، وكُتَّاباً لتعليم الأطفال، وسبيلاً يشرب منه الناس مدعوماً بخزان مياه كبير، ووكالة تجارية تشتمل على عددٍ من المحلات يستغل ريعها للإنفاق على الكتاب والسبيل، كما أنشأت ربعاً (مبنى سكني) ليسكن فيه الفقراء … وعُرفت هذه المجموعة الإنشائية بـ «السكرية» بجوار باب زويلة بالقرب من الدرب الأحمر.
وكان مراد بك لا يرد طلباً لنفيسة، فكانت كلمتها كالسيف، ولذلك لجأ إليها المظلومون أو طالبو الوساطة، سواء من المماليك أو من عامة الشعب، حتى عرفت بين الناس بـ «الست نفيسة الشهيرة الذكر بالخير»، حسبما يذكر الجبرتي.
وفي هذه الفترة لقبت الست نفيسة بـ «المرادية» نسبة إلى زوجها، الذي اقتسم نصف السلطة مع إبراهيم بك، بل كانت له الغلبة باعتبار أنه كان قائد الجيش والمسؤول عن كل ما يتعلق بالأمن في دولة عسكرية بامتياز، بينما احتفظ إبراهيم بك بالأمور الإدارية.
وفي هذه الفترة (القرن الثامن عشر) ظهر مصطلح «المصرلية»، والذي يطلق على المماليك الذين تمصروا، والذي انطبق على نفيسة بقوة. وقد كان من الشائع أن يعاود المماليك الاتصال بأوطانهم الأم في جورجيا وشرقي أوروبا وغربي روسيا، وبعضهم عاد إليه، وآخرون أحضروا ذويهم للعيش معهم في مصر، حسبما أرَّخ أحمد شلبي عبد الغني الحنفي في كتابه «أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات».
إلا أن الست نفيسة لم تفعل ذلك حتى في أحلك الظروف، حين كانت معرضة لأبشع ما يُفعَل بإنسان بعد دخول الحملة الفرنسية مصر، وبعد عودة النفوذ العثماني ثم تولِّي محمد علي الحكم وتجريدها من كل شيء، ظلت متماسكة قوية، متمسكة بالعيش في مصر، ولم تهرب كما فعلت بعض نساء المماليك.
دورها في جلاء الفرنسيين عن مصر
حين دخلت الحملة الفرنسية مصر بقيادة نابليون بونابرت عام 1798، وهزيمة جيش مراد بك في معركة إمبابة وفراره إلى الصعيد وسقوط القاهرة في يد بونابرت، أصدر القائد الفرنسي مرسوماً طمأن فيه أهل العاصمة بأنهم وممتلكاتهم ليسوا هدفاً له، بل جاء للقضاء على المماليك.
وهنا فرَّ كثير من المماليك وزوجاتهم وجواريهم إلى الشام، بل المصريون أنفسهم، حتى قال الجبرتي إن مصر لم يبقَ بها «إلا كل مخاطر بنفسه، لا يقدر على الحركة، ممتثلاً للقضاء، متوقعاً للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده، وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة، فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور».
وشاع بين الناس أن الفرنسيين يغتصبون النساء ويصادرون الأموال ويحرقون الرجال، فهرب أكثر الناس «ماشياً أو حاملاً متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قَدِرَ على مركوب أركب زوجته أو ابنته، ومشى هو على أقدامه، وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل».
وسط كل ذلك صمدت نفيسة ولم تبرح قصرها، وكانت وسيطة بين نابليون ونساء المماليك في القاهرة، ثم بينه وبين زوجها، حسبما يكشف الزعيم الفرنسي في مذكراته، التي ذكر فيها أنه أراد أن يخلق استقراراً في القاهرة، ويطمئن جواري وزوجات المماليك اللواتي كن يُخفين أسلحة ومماليك، ففوَّض السيدة نفيسة في ذلك لأنها «امرأة مهمة، تتمتع بين الأهالي داخل المدينة بحظوة واعتبار كبيرين».
ولكن بعد قليل وجد نابليون نفسه في ضائقة مالية، ويريد تدبير أموال للإنفاق على جيشه، ففرض ضريبة على نساء المماليك يفتدين بها أنفسهن وإلا فسيصادر أملاكهن ويبيعهن في سوق الجواري، وأول من فرضت عليها هذه الضريبة كانت نفيسة، حيث قدرت بـ 600 ألف فرنك فرنسي، وهو مبلغ ضخم تقرر تقسيطه عليها، بمقدار 50 ألفاً كل يوم، حسبما ينقل ناصر سليمان عن مصادر فرنسية.
ولكي يكسب نابليون ودها، أرسل إليها ابن زوجته الملازم بوهارنيه، ليثني عليها ويطلب منها بأدب أن تدفع الضريبة لتكون نموذجاً لباقي نساء المماليك، مع وعد صريح بعدم مصادرة أموالها أو قراها وأراضيها الزراعية الضخمة أبداً.
وجدت نفيسة أن الضغوط قوية، فدفعت الضريبة عنها وعن سائر نساء المماليك، شعوراً منها بأنها مسؤولة عنهن، فقد كان أغلبهن من جواريها قبل أن تزوجهن من قادة المماليك والبكوات، حتى إنها اضطرت إلى التنازل عن بعض من حليها ومجوهراتها الشخصية في مقابل ذلك، ومنها ساعة مرصعة بالجواهر كانت قد أُهدِيَت إياها من الجمهورية الفرنسية، تقديراً لدورها في تهدئة الأمور في مصر، وكان ذلك بمثابة رسالة منها للفرنسيين تقول: «كفى فلم يعد في خزانتي شيء»، حسبما جاء في «مراسلات نابليون – Correspondance de Napoléon”.
هذه المكانة جعلتها وسيطاً بين الفرنسيين وزوجها مراد بك، ما ساهم في جلائهم عن مصر، فقد أرسل إليها الجنرال كليبر -الذي خلف نابليون في إدارة مصر- مندوباً إلى قصرها، ليقنعها بالتوسط لدى زوجها ليتصالح مع الفرنسيين وينحاز إليهم ضد العثمانيين، على وعد بأن يغادر الفرنسيون مصر ويتركوه حاكماً مطلقاً لها إذا ما وافق على الصلح.
وكان ردها على فورييه، مندوب كليبر، بأنها على اتصال دائم بمراد بك، ومعلوماتها تقول إن هذا الصلح كان يمكن أن يتم بصورة أفضل لو طرحوه منذ 8 أيام، ومع ذلك سوف تبذل قصارى جهدها لإتمام هذا الصلح، حفاظاً على زوجها وبلادها، حسبما ينقل ناصر سليمان عن تقرير فورييه، الذي سجل إعجابه بنفيسة وطريقتها في إسالة لعاب الفرنسيين على الصلح مع زوجها.
بالفعل أُبرم الصلح بين مراد بك والفرنسيين، وبدأ الفرنسيون في إجلاء قواتهم من مصر، ولكن مراد بك توفي وهو في طريقه للقاهرة، قادماً من الصعيد، متأثراً بإصابته بالطاعون.
وتلقت نفيسة برقية تعزية باسم الجمهورية الفرنسية في وفاة زوجها، مع قرار بتخصيص معاش شهري لها قدره 100 ألف نصف فضة، لتأمين وضعها الاجتماعي بعد رحيل زوجها، حسبما ذكر الجبرتي.
كبرياء لآخر لحظة
في بداية المقالة نقلنا ما قالته نفيسة للوالي العثماني خورشيد باشا، وهو الرجل الذي عينته السلطنة العثمانية والياً على مصر بعد جلاء الفرنسيين ووفاة مراد بك وتشرذم جيشه، بسبب عدم اجتماع المماليك على قيادة موحدة.
كانت الفرصة سانحة للتنكيل بالمماليك الأعداء التاريخيين للعثمانيين، والقضاء عليهم تماماً، فسلب الوالي الجديد وقائده محمد علي – حاكم مصر فيما بعد- كل أملاكهم وخرب بيوتهم، باستثناء قصر نفيسة فقد كان مهيباً، لأسباب كثيرة منها شعبيتها في الشارع المصري، ومكانتها السياسية المعلومة.
وكانت المواجهة حين أرسل إليها خورشيد باشا محتسبه – بمثابة وزير مالية ووزير عدل معاً- ليطلبها إلى قصر الوالي في القلعة، في محاولة لتجريدها من أملاكها، فصعدت إليه القلعة ومعها اثنتان من جواريها، وكان المشهد مستفزاً لكل المصريين، وصار حديث الساعة، وانتهى باعتذار خورشيد لها، ولكنه لم يعدها إلى قصرها بل وضعها تحت الإقامة الجبرية في بيت الشيخ السحيمي، حسبما يروي الجبرتي.
وهنا انتفض مشايخ الأزهر وقادة المجتمع، ومعهم شيخ الإسلام قاضي القضاة العثماني، الذين شكلوا وفداً إلى خورشيد باشا، وأقنعوه أن ما فعله مع الست نفيسة يثير الفتنة والاضطراب في الشارع، ويجب أن يعدل عنه، فقال لهم إن لديه شكوكاً في دعمها للمماليك لينقضوا على الحكم مرة أخرى.
وانتهت المفاوضات برضوخ خورشيد وإنهاء إقامتها الجبرية، ولكن لحفظ ماء وجهه، طلب منهم ألا تعود لمنزلها، وتنزل بيت أحدهم، أو أي بيت تختاره هي، فاختارت بيت الشيخ السادات، ولكن سرعان ما عادت إلى قصرها بعد ذلك.
بعد خورشيد باشا تولى محمد علي الحكم، وأحكم قبضته على كل شيء في مصر، وصادر أموال وممتلكات المماليك ونساءهم، بل أملاك كل المصريين، ولكنه ترك لنساء المماليك بعض الأراضي الزراعية التي تكفي حاجتهن للعيش بالكاد، وكانت نفيسة – وقد صارت عجوزاً- ضمن من وقعت عليهن هذه الإجراءات، ولكنها رغم ذلك ظلت مرفوعة الرأس ولم تقطع المساعدات التي كانت ترسلها إلى الفقراء من المصريين الذين أحبوها وأحبتهم، حتى توفيت في هدوء يوم 18 أبريل 1816م.