«كلنا للموت في النهاية مهما تقدم بنا العمر، لكنك تشعر بغصّة لا شك فيها كلما فقدت واحدًا ممن شاركوا في صنع ثقافتك ورؤيتك للعالم، والذين جاهدوا ليجعلوا العالم أروع.. وبرحيلهم تبقى فجوة في وجدانك لا يمكن أن تملأها»
دكتور أحمد خالد توفيق

حكاية الشاعر والرسَّام

1977م، طنطا، شارع جامع المنشاوي، فوق قهوة لمنوس.

صبيٌ في عُمرِ الخامسةِ عشرة، يجلس في منزله وسط أسرته ينظُم أبياتًا من الشِّعر ليرسلها إلى مجلّة «تان تان»، تلك المجلّة التي لطالما خاض المعارك لأجل إقناع أهله بأنها تستحقّ ما يُنفَق 10 قروش على شرائها، وهو مبلغ لم يكن زهيدًا أبدًا، فوقتها كان سعر أغلى مجلة أطفال لا يزيد على 3 قروش.

برغم من سعرها المرتفع، لم ينقطع الصبي الطنطاوي عن الشغف بتلك المجلة، وبدأ في الكشف عن مواهبه الأدبية لأول مرة عبْر صفحاتها؛ أرسل لها مرَّةً فمرَّة، حتى وافقت المجلّة، أخيرًا، على نشر شِعره في مرَّةٍ من تلك المرَّات، وكانت المُصادفة القدرية أن أبيات الصبيّ نُشرت أسفل رسمةٍ بقلمِ طنطاوي آخر، لكنه يكبره في السن ويدرسُ في كليةِ الطِّب جامعة طنطا، لم يُقدِّم نفسه ككاتب وإنما كهاوٍ للرسم فهو أمين اللجنة الفنيّة بالكليّة، يرسم ديكورات الحفلات ومجلّة حائط أسبوعيّة حظت على إعجاب كثيرين. 

عُرف عن طالب الطب الآخر غرامه، هو أيضًا، بمطبوعات «تان تان» حتى قبل أن تُترجَم للعربية؛ فكان يُسافر خصّيصًا بالقطار من طنطا إلى الإسكندرية ليشتري النسخة الفرنسيّة من المجلّة، وعندما قرَّرت الأهرام ترجمتها للشباب لم تسعه الفرحة، بل وتحوَّل لرجلٍ مستحيلٍ سُرعان ما يهرول لتنفيذ تكليفٍ صعب، ألا وهو شراء العدد الأول، المجلّة التي وصفها لاحقًا بـ«الملاذ»، حيثُ وجدَ فيها كل ما يبحث عنه؛ قصصًا جادّة، وسيناريوهات قويّة تصلح لأفلامٍ سينمائية من الطراز الأول، مجلّةٌ يرسمها فنّانون يعشقون فنّ القصّة المُصوَّرة، مثله تمامًا، ويتبارون في جعلِها في أفضل صورة، من حيث الفنّ، والإخراج، والتكوين، حتى الألوان.

جمع الشغف المُبكر بين «الصبي الشاعر» و«طالب الطب الرسّام» بمجلة الأطفال الأشهر، ولم يفصل بين مسكنيهما إلا شارعٌ واحد، وبعد عدة سنوات شاء القدر أن يلحق «الصبي» بالرسَّام في الكلية ذاتها والجامعة ذاتها،ليصبحا زميلين لا يعرفان عن بعضهما سوى أوجه تتلاقى ذهابًا وإيابًا، تارّةً في طرقات الكليّة وتارّةً قرابة جامع المنشاوي حيث يسكن كُلٌّ منهما.

جمع بينهما القدر في الموهبة والجِوار والدارسة، ورغم ذلك لم يلتقيا قطُّ إلا مرة واحدة عبْر صفحات مجلة «تان تان»، وكانت فرحة كل واحدٍ منهما بقطعته الفنية المنشورة أكبر من قُدرته على تذكّر باقي أسماء زملائه في الصفحة فبقي كل واحدٍ منهما مجهولاً للآخر، ولم يتخيلا يومًا أن دورة الأيام ستمرُّ، وسيقترن اسماهما مُجددًا، ولكن هذه المرة سيكون الاقتران مُحكمًا حتى أنه سيبقى معهما طيلة حياتهما وحتى بعد مماتهما.

صبيّ الشِّعر الحالمُ- سيُصبح عرَّابًا، وفتّى الطِّب هاوي الرسم سيُصبح رجلُ المستحيل!

الأول نعرفه بِاسم دكتور أحمد خالد توفيق، والثاني هو دكتور نبيل فاروق.

صفحة من مجلة «تان تان» تجمع رسم نبيل فاروق وأشعار أحمد خالد توفيق

في المؤسسة العربية الحديثة

تدور الأيام، ويسبق الدكتور نبيل فاروق زميله الدكتور أحمد في التخرج من الكلية وفي تحقيق شغفه الأدبي، بعد ما بدأ في طرح سلسلته الأشهر عام 1984م، والتي حقّقت نجاحًا ساحقًا جعله يُفضّل اعتزال الطب والتفرّغ كُليًّا للكتابة، ليُصبح ركيزة أساسية في المؤسسة العربيّة الحديثة، وهي المكانة التي لولاها ما نجح الدكتور أحمد في بدء مشروعه الأدبي من أساسه، وفي المؤسسة العربيّة الحديثة أكملَ القدر القصّة!

في عام 1993م، وعلى خُطى النجاح الساحق لتجربة نبيل فاروق قرّر دكتور أحمد خالد توفيق محاولة تكرار التجربة مع ذات المؤسسة، فبدأ في كتابة أولى مغامرات دكتور رفعت إسماعيل بعنوان «أسطورة مصّاص الدماء»، أرسلها إلى المؤسسة ممنيًا نفسه بقبولٍ مضمونٍ إلا أنه فُوجئ بإحدى لجان النشر في المؤسسة ترفض العمل بدعوى «قصرِه الشديد»، حتى أن أحد أعضائها نصح العرّاب بالتوقف عن الكتابة نهائيًا والتوجُّه إلى الأدب البوليسي!

هنا تجلّى موقف دكتور نبيل فاروق، والذي خرج برأي آخر، لو تأخّر عن موعده أو تغيّر عن موقفه لحُرمنا من كتابات أحمد خالد توفيق للأبد، فهو لن يكن مقتنعًا أن قصر الرواية يستحق أن يكون سببًا لرفضها، وهو الرأي الذي دعّمه فيه حمدي مصطفى مدير المؤسسة، ونتيجة لهذا التدخل، عُرضت القصة على لجنة أدبية جديدة ضمّت دكتور نبيل فاروق هذه المرّة، انبهرت بما فيها من حبكة وتشويق من نوعٍ جديد لم نعتد عليه في أدبنا العربيّ، أنصفت الرواية عرَّابنا ومنحته قُبلة الحياة وفرصة العُمر.

وفي خضم حماس دكتور نبيل المُفرط لابن بلده تلقّى نصيحة خبيثة بأنه يجلب لنفسه مُنافسًا شرسًا، فكان ردّه بأن « هذا الرجل (يقصد العرّاب) كنز، وإن لم تفز به المؤسسة فسوف تفوز به أخرى وتنافسهم هي به». وهذه المرة وصل إلى دكتور أحمد خالد قرار اللجنة بالموافقة على عمله مصحوبًا بإمضاء نبيل فاروق، ليفتح هذا التوقيع الباب أمام الرجل لتقديم واحدة من أهم التجارب الأدبية الشبابية في تاريخ مصر.

هل تحسب نفسك نبيل فاروق؟

«لن أنسى لدكتور نبيل فاروق أنه كان سببًا مباشرًا في دخولي المؤسسة، وإلا فإنني كنت سأتوقف عن الكتابة بعد عام على الأكثر»
دكتور أحمد خالد توفيق

سريعًا تحققت نبوأتان؛ الأولى لدكتور نبيل بأن سلسلة ما وراء الطبيعة ستكون كنزًا أدبيًا لا مثيل له فحققت نجاحًا ساحقًا وسريعًا، وهو ما أدى لتحقّق النبوأة الثانية، وهي أن دكتور أحمد سيكون منافسًا شرسًا للنبيل على القمة، وهو ما وضع الرجلين في سلسلة من المقارنات التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، حتى لو لم تستند إلى منطق واضح، فكل منهما له أسلوبه الخاص ومساره الأدبي المختلف تمامًا عن غيره، وهو ما لم يبدُ منطقيًا بنظر من يُمكننا تسميتهم «أولتراس نبيل فاروق».

روى لنا دكتور أحمد خالد توفيق واقعة غريبة في عددٍ خاص حمل اسم «30» كتبه بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على بدء مشروع «روايات مصرية للجيب»، حكى فيه أنه فور صدور العدد السابع من «ما وراء الطبيعة» عام 1994، أرسل له أربعة شبّان يقولون إنه لا جدوى مما يكتبه، وإن كتاباته الأخيرة سيئة جدًا، ولم تعُد كما كانت، وأنهوا الخطاب قائلين: «مَن تحسب نفسك لتُصدر قصصًا مثل سيّدك نبيل فاروق يا صعلوك!».

أبدى العرّاب استغرابه التام من هذه الواقعة؛ فسلسلته كانت لا تزال تتحسس طريقها إلى النجاح، بينما كان دكتور نبيل يُغرِّد على القمة منفردًا، لكنه امتلك عددًا كبيرًا من القُرَّاء شديدي التعصُّب لدرجة تدفعهم لكراهية من يشاركونه في السّاحة أو يتوسّمون فيه أنه سيكون مُنافسًا محتملاً، وهو الأمر الذي أكد استحالته الصديقان مرارًا وتكرارًا في عددٍ من اللقاءات التلفزيونية والندوات، التي أكّدا فيها أن لكل منهما لونه الخاص الذي يختلف تمامًا عن الآخر؛ فشتّان بين الأدب البوليسي وأدب الرعب.

استمرَّ الرجلان في رحلة نجاحٍ متوازٍ اشتُهر فيها بأن يُكمل كل واحدٍّ منهما الآخر، بأن يكون النبيل اليد الأولى التي تجذب المراهقين للأدب بمغامراته المثيرة، ومن بعده يكون العرّاب اليد الثانية التي ترتقي بهؤلاء المراهقين إلى قصص تخوض بهم تجارب أكثر صعوبة تقودهم لتجربة ثقافية أكثر ثراء.

في بداية الألفينيات، دخل دكتور نبيل خلافه الشهير مع حمدي مصطفى مدير المؤسسة العربية الحديثة على حقوق أيّهما في استغلال أبطال الروايات على الشاشات، وفي الوقت ذاته كثُرَت مشاكل دكتور نبيل الصحيّة، فنصحه الأطبّاء بعدم إرهاق نفسه في الكتابة، ما أدى لتوقُّفه عن كتابة سلاسله في المؤسسة لفترةٍ حرص فيها أن يُدعِّم العرّاب رفيق دربه برسالةٍ مؤثرة في بريد القراء.

خلت الساحة، نسبيًا، أمام دكتور أحمد بعد ما تسلّم راية الكتابة للذين مرّوا بمدرسة نبيل فاروق مُقدِّمًا نوعًا مختلفًا من الأدب استكمل به مسيرة النبيل في تنوير العقول والقلوب التي أبدت نوعًا من التشبّع من المغامرات البوليسية وقصص الخيال العلمي.

وفي الوقت ذاته، أبدى دكتور نبيل ترددًا بين إنهاء سلاسله أو الاستمرارية في تقديمها، فحاول إيقاف سلسلة «رجل المستحيل» أربع مرّات، مرة بعد العدد 100، ثم العدد 134، ثم العدد 150، لكنه كان يُعيدها بناءً على إلحاح جمهوره حتى أنهاها لمرة رابعة وأخيرة في العدد 160.

بينما استمرّ العرّاب في تقديم سلسلته حتى عام 2014م دون توقُّف، بعد ما أضاف إلى تجربته بُعدًا جديدًا برع فيه أكثر من صديقه، وهو الروايات التي تُنشر بشكلٍ مستقل بعيدًا عن المؤسسة، وكان أول الغيث رواية «يوتوبيا» التي حققت رواجًا كبيرًا، وبالرغم من أن دكتور نبيل حاول المُضي في نفس الطريق وقدّم عدة روايات متنوعة فإنها فشلت جميعها في تحقيق أي نجاحٍ كبير.

دكتور نبيل فاروق بصحبة دكتور أجمد خالد توفيق

نصفي الآخر

وفي عام 2018م، قال القدر كلمته وفرّق بين الرجلين بأزمة قلبية مفاجئة أودت بحياة العرّاب، وهو الخبر الذي حلَّ كالصاعقة على نفس دكتور نبيل، وظلَّ عاجزًا عن استيعابه، واصفًا ما حدث له بفقدان التوازن التام؛ فهو اعتاد أن يُذكر اسمهما معًا، فشعرَ وكأنه انفصل عنه جزءٌ منه، جزءٌ عاشَ ليلازمه طيلة حياته، حتى قالَ القدر كلمته، ليُعلن: «ضاعَ نصفي الآخر!».

وبالرغم من رحيل العرّاب عنّا فإن سيرته لم تنقطع أبدًا عن الاشتباك مع دكتور نبيل، الذي ظهر منذ شهر محتفيًا بعرض الحلقة الأولى من مسلسل ما وراء الطبيعة، مُهنِّئًا صديق عمره الراحل على تحقيق حُلمه، أخيرًا، الذي لم يُمهله القدر ما يكفي ليُراه بأمِّ عينيه، وأعلن دكتور نبيل أن المؤسسة العربية وضعت أولوية لطباعة كل أعداد ما وراء الطبيعة تحت إشرافه، حتى تتوافر كل أعدادها ويتواكب ظهورها مع عرض المسلسل والذي سيُسعد الكثيرين.

وبالطبع لم يكن يعلم دكتور نبيل، حينها، أن شهرًا واحدًا كان يفصله عن اللحاق بصديقه، لحق النبيل بالعرّاب ليخبره بنفسه عن النجاح الذي عاشَ يحلُم برؤياه، وأن رهانه عليه منذ عشرات السنوات لم يخب أبدًا.

والآن، رحلَ عن دُنيانا عرّاب ونبيل، مَن عاشا مُسخِّرين حياتهما في زخم الأدبِ والكتابةِ؛ ليخرجا لنا في النهاية جيلًا قضى طفولته ومراهقته وشبابه هائمًا في كتب الجيب والسلاسل الخيالية والروايات والمقالات. جيل يحزن الآن لفقد اثنين رافقاه على مدارِ عقودٍ، شكَّلا جزءًا ليس هيَّنًا من ثقافتهم ووجدانهم، عزاؤه الوحيد.. أن النصفَ قد لحقَ بنصفه الآخر!

ولا شك، فإن رجل المستحيل الآن، بقوته وثباته المعهودين، يطمئن رفعت إسماعيل بأن عوالمه لم تفنَ، وأن سيرتيهما ستظلان خالدتين حتى تحترق النجوم.