الأساطير المؤسسة لطب الأطفال في مصر: أسطورة المضاد الحيوي
صحة الطفل الصغير هي محور ارتكاز سعادة الأسرة كلها. وهذا الجانب العاطفي البارز بجانب فقر الوعي الطبي في بلادنا مع ضغط السوق الطبي والمنافسة التي لا ترحم هي ثالوث الكارثة التي تكاد تعصف بمستقبل أطفالنا، بل بوجودنا.
واسم السلسلة مشتقٌ من اسم الكتاب الشهير لطيب الذكر روجيه جارودي، والذي كان يفند فيه أساطير ودعاوى الصهيونية لإثبات حقوقها المزعومة. ولعل بعض ما سنقوم بتفنيده هنا لا يقل خطورة عن الصهيونية، ولا يقل بطلانًا عن معظم دعاويها.
بين مطرقة الأمهات وسندان (تربية) الزبون!
«قصة من الواقع»
ترررررررن تررررررررن ..
يستيقظ طبيب الأطفال الشاب في الواحدة بعد منتصف الليل على عواء هاتفه. كان يبدو عليه التأفف والضيق، فهو لم يكمل ساعتين في سريره بعد ثلاثة أيام من العمل المضني. لم يكن يملك رفاهية أن يغلق هاتفه وينام، فعيادته الجديدة التي افتتحها خلسة في إحدى القرى تحتاج إلى الصبر، وإلى تحمل الناس الذين يعتبرون الطبيب آلة للرد على المكالمات ليل نهار، وكأنهم اشتروه بثمن الكشف البخس!
أقطع دراعي إن ما كانت أم أحمد اللحوحة… ربنا يشفيك يا أحمد، ويرحمني!.. هكذا قال لنفسه بينما يعتدل في تثاقل لينظر في شاشة الهاتف. تعرف بسهولة على الرقم، فهي المرة الرابعة التي تطلبه فيها هذا اليوم!
(سلام عليكم، ازيك يا أم أحمد… طمنيني على أحمد)
«أحمد لسه سخن يا دكتور، ومش قادر يلعب ولا يضحك! اديته خافض الحرارة الشراب واللبوس في المواعيد، وبرضه حرارته فوق ٣٨ ونص»
( غسلتي جسمه بالميه الفاترة نص ساعة زي ما قلتلك، وشربتيه ميه كتير؟!)
«بصراحة يا دكتور خفت يستهوى! وقلت يمكن الخافض ينفع، واديتهولوا مرتين زيادة حتى!»
كظم غيظه بصعوبة، وحاول عبثًا إخفاء الغضب في نبرته (يا أم أحمد أنا مش قلتلك كذا مرة النهاردة إن الخافض ما يشتغلش حلو غير لما الحرارة تنزل عن ٣٨ ونص بالميه؟! وإن أي جرعة زايدة هي سم يجهد الكلى والكبد؟! وقلتلك ما تقلقيش من الميه الفاترة، واحنا أصلا مش في الشتا! أنا دكتور مش ساحر! ولو ما نفذتيش كلامي، يبقى بتكشفي عندي ليه؟).
«معلش يا دكتور سامحني، بكره يبقى عندك ولاد وتفهم خوفي. معلش بس عمة الواد بتقول إن ابنها ما خفش غير لما أخد مضاد حيوي حقن اسمه سيفوتاكس، أديهوله؟!».
شعر أنه لا جدوى من النقاش معها، وخاف أن يخرج عن شعوره إن طال الجدال (براحتك يا أم أحمد. أنا كنت عايز مناعته تشتغل شوية، خصوصاً إنه ممكن ما يكونش محتاج مضاد أصلاً. عامة إديله حقنة نص جرام كل ١٢ ساعة يومين، وفي الإعادة هكتبله مضاد شراب يكمل عليه).
ردت عليه بنبرة صوتٍ ملؤها الرضا والامتنان، وكأنها مندوبة الشركة المنتجة للسيفوتاكس! «ربنا يخليك لينا يا دكتور، ويجعل شفاه على ايديك!».
رد عليها باقتضاب يشي بضيقه (ربنا يشفيه.. سلام عليكم).
أغلق الخط، وأخذ في سره يصب جام غضبه على (أمهات اليومين دول) اللاتي لا يطيقن تمريض أطفالهن يومين أو ثلاثة، ويريدن أن يشفى الطفل بلمسة سحرية.
ناقَشنا قضية المضادات الحيوية التي يوشك الإنسان أن يطعن بها نفسه في الظهر الطعنة القاضية في مقال «سوء استخدام المضادات الحيوية.. انتحار جديد للإنسانية». حيث فصّلنا في تاريخ ظهور المضادات الحيوية، وآليات عملها، وكيف أدى سوء استخدامها إلى ظهور كارثة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، والتي على وشك أن تعيد البشرية إلى زمن الطاعون الأسود والأوبئة التي تحصد الملايين. وحينها سينطبق على حالنا مع المضادات الحيوية التي أضعناها قول الشاعر:
ليست المشكلة الأساسية في وفرة المعلومات الطبية عن المضادات الحيوية لدى الأطباء، إنما في الثقافة الجمعية الخاطئة التي تمنع تطبيق ما أصبح معلوماً من الطب بالضرورة، والتي لا يقابلها الأطباء للأسف بما تستحقه من مواجهة لأسباب مادية ومعنوية تحمل من الأنانية ونقص الضمير مثلما تحمل من الاضطرار. ومواجهة هذه الثقافة الخاطئة، هو غاية هذه السلسلة.
المضاد الحيوي الذي يحيي ويميت!
طبياً، يقتصر دور المضادات الحيوية بأنواعها وأجيالها المتتابعة، على محاربة العدوى التي تسببها معظم أنواع البكتيريا (قبل سنوات كان يمكن أن نقول كل بدلاً من معظم) كالالتهابات الرئوية pneumonia، والتهاب مجرى البول UTIs… الخ. وبعض أنواعها تقتل الديدان متناهية الصغر protozoa مثل الأميبا، والبعض الآخر يقتل الكائنات الدقيقة التي لا تصنف كبكتيريا أو فيروسات مثل الـ rickettsia والتي تسبب أنواعاً خاصة من الحمى مثل حمى جبال روكي المبقَّعة RMSF …. الخ.
لكن في الثقافة الدارجة، يعتقد الكثيرون – خاصة الأمهات – أن المضاد الحيوي يعالج كل أنواع الحمى والأمراض بجميع مسبباتها، وإرهاق العمل، واعتلال المزاج، ويصرف السحر والحسد، ويجلب الحبيب، ويقرب البعيد… ! ويعتبرون أن الروشتة التي تخلو من المضاد الحيوى ناقصة البركة، ولا تصدر إلا من طبيبٍ هاوٍ.
ما أسهل أن يستسلم كثير من الأطباء لإرضاء (الزبون)، وللتملص من إلحاح الأمهات غير المنطقي في أحيانٍ كثيرة، في سلوك يحمل من الأنانية ونقص الضمير مثل ما يحمل من الاضطرار. والثمن نزيف من رصيد مستقبل الجنس البشري كله.
والسوقُ يعلو فوقَ الطبِ أحيانًا!
«قصة من الواقع»
بعد انتظار ٍلساعات، دخل طالب الطب وبصحبته ابنة أخته ذات الخمسة أعوام إلى غرفة الكشف. كانت تشكو من أعراض البرد والحمى. الطبيب أستاذ شهير بالجامعة، وهو أشهر أطباء الأطفال في هذه البلدة، ولذا فعيادته شديدة الازدحام حتى أنه يضطر للكشف على طفلين أو ثلاثة في نفس الوقت!
أتم الكشف عليها في دقيقتين، وقام بكتابة روشتة كالعريضة بها ستة أصناف من الأدوية. لفت نظر الطالب أحدها، وهو مضاد حيوي شراب، يعرف مادته الفعالة وهي (اللاينيزوليد Linezolid). تعجب كثيراً من الشركة التي أنتجت دواء شراب من هذا المضاد الخطير – وكأنها تلقي به فريسة سهلة لسوء الاستخدام – الذي يواجه البكتيريا العنقودية staphylococci الشرسة المقاومة لكل مضاداتها بما فيها الفانكوميسين القوي VRSA. والتي درسها كواحدة من أفتك ما عرفت البشرية من البكتيريا المُعدية، والتي تسبب خاصة عدوى المستشفيات hospital acquired infections.
عذراً يا دكتور، أليس من الممكن أن يكون دوراً فيروسيًا لا يحتاج لمضاد حيوي؟!
ممكن فعلاً. لكن الاحتياط واجب حتى نغطي كل الاحتمالات. وحتى تطمئن أمها عندما تجد مضاداً حيوياً ضمن علاجها.
حاول إخفاء سيماء عدم الاقتناع على وجهه، وتوجّه بسؤال جديد.
لدي استفسار آخر… لماذا لم نبدأ بمضاد حيوي أقل من اللاينيزوليد شديد القوة والشائع استخدامه في العنايات المركزة؟!
كما قلت لك الاحتياط واجب، ولكي تشفى سريعاً.. ثم نظر له في أبوة قائلاً:
لما تكبر هتلاقي السوق والواقع بيفرضوا عليك حاجات، مش كل حاجة بنتعلمها من الكتب يا حبيبي.
الأسئلة الشائعة والرد عليها
هذه النقاط هي إجابات عن أسئلة شائعة يكثر تداولها في جدالات الآباء مع أطباء الأطفال.
1. أغلب نزلات البرد، والتهابات الجهاز التنفسي العلوي URTIs (التهاب الجيوب الأنفية sinusitis – التهابات الحلق pharyngitis – التهاب الأذن الوسطى otitis media….) هي فيروسية لا بكتيرية، ستقهرها مناعة الجسم خلال أيام قليلة مع الراحة والغذاء الصحي الجيد والسوائل الكافية، والجرعات المحسوبة من المسكنات وخوافض الحرارة كالباراسيتامول paracetamol. وبالتالي لا فائدة أبداً من الاستعجال في إعطاء الطفل مضاداً حيوياً.
2. الإسراف في استخدام المضادات الحيوية بسبب وبدون سبب، يفوت على المناعة الناشئة لدى الطفل فرصة للتدريب، ومراكمة المزيد من ذاكرة المناعة والمقاومة ضد فصائل مرضية متنوعة. بل إن بعض الدراسات أثبتت أنه يضعف رد الفعل المناعي عموماً، وقد يضعف خلايا المخ. والاستخدام المطول للمضادات الحيوية واسعة المجال يفسد التوازن الطبيعي بين فصائل البكتيريا التي تعيش طبيعياً في أجسامنا خاصة في الجهاز الهضمي Gut bacterial flora، والتي لها دور مهم في تصنيع فيتامينات حيوية مثل فيتامين «ك» المقاوم للنزيف. ويؤدي هذا إلى الإسهال والنزلات المعوية.
3. رغم أن بعض الإصابات الفيروسية تضعف المناعة، فيلحقها إصابة بكتيرية ثانوية أشد secondary bacterial infection، فإنه ثبت أن التبكير بالمضاد الحيوي لا يمنع حدوث هذا، لكنه – مع الوقت – يزيد احتمالات الإصابة ببكتيريا خطيرة مُقاوِمة multi-drug resistant مرَّست أجيالَها تجاربُ المواجهة مع المضادات الحيوية.
4. تجادل بعض الأمهات بسابق تجاربها في شفاء الطفل سريعاً خلال ساعات بمجرد إعطائه حقن المضاد الحيوي. إن صحَّ هذا، فهي مصادفة بحتة. لأن الغالبية العظمى من المضادات الحيوية لا تبدأ عملها إلا بعد مرور 24 – 48 ساعة على الأقل.
5. تغير لون مخاط الطفل للأصفر أو الأخضر، لا يعني حصراً أنها إصابة بكتيرية. بل هو تغير طبيعي في جميع الأدوار حتى الفيروسية. لكن إذا استمرت الأعراض أكثر من 3 أيام مع ارتفاع الحرارة، رغم العلاجات الأولية التحفظية، فحينها يرجُح أن تكون الإصابة بكتيرية، وهنا – فقط – يكون استخدام المضاد الحيوي.
6. حالات معينة قد يستحب فيها التبكير بالمضادات الحيوية مع بداية التعب، كالأطفال الذين يعانون من أمراض تضعف المناعة كسرطانات الدم أو متلازمات وراثية تسبب اختلالات بجهاز المناعة… الخ، أو المصابين بالربو الشعبي asthma حيث تزيد احتمالات حدوث أزمات تنفسية حادة مع أي إصابة تنفسية. أو المصابين بالحمى الروماتيزمية rheumatic fever وهؤلاء يأخذون بنسيللين طويل المفعول وقائياً طول العمر، لأن فصائل من بكتيريا التهاب الحلق السبحية Group A streptococci الشائعة تحفز عندهم رد فعل مناعي خاطيء يستهدف صمامات القلب أو المفاصل أو بعض خلايا المخ والجلد.
7. لا يوجد مضاد حيوي معين هو الأفضل لكل طفل. فكل إصابة بكتيرية محددة لها المضاد المناسب لها.
8. لا تسألي مجرب أبدًا … واسألي الطبيب دائما! وأعينيه على نفسك وطفلك باتباع التعليمات وعدم «التجويد».
9. الاستسهال في إيلام الأطفال دون ضرورة حقيقية بحُقَن المضادات الحيوية جريمة نفسية متكاملة. وتترك تشوهات عميقة في شخصية الطفل وثقته بنفسه وأهله والأطباء (ما بالنا باستخدامها ككارت إرهاب للطفل!).
10. الوقاية بالتطعيمات في أوقاتها، وباتباع نظام حياتي صحي، هو الركن الركين لصحة الأطفال.