في عام 1960 هز «روجر سبري» الأوساط العلمية باكتشافه الجديد:

كل من نصفي الدماغ يختص بأداء وظائف معينة، دونًا عن النصف الآخر، الجزء الأيسر يختص بالعمليات الرياضية والمنطقية وإنتاج اللغة، والجزء الأيمن يعالج الفنون والموسيقى والصور.

و حصل سبري على جائزة نوبل عن اكتشافه عام 1981. فهل كذبت علينا نُوبل؟

نعم. فعندما تطورت أساليب التصوير العصبي مما سمح برؤية حقيقية لوظائف كلا الفصين، اكتشف العلماء عبر دراسات عديدة، أحدها تلك التي أجرتها جامعة يوتا Utah على أكثر من 1000 مُشارك واستمرت لعامين، أن نصفي الدماغ يعملان معًا في غالبية العمليات العقلية، مؤكدين أن لديهم أكثر من ألف صورة لألف دماغ لا تتوافر في أي منها أي أدلة على تخصيص نصف عقل بعينه لعمليات بعينها، بل إن كل الأدلة اتجهت لإثبات أن العمليات العقلية تتم في شبكة واسعة تطال كلا النصفين معًا.

إذن النتائج التي استخلصها «سبري» من عمليات قطع المنطقة الواصلة بين نصف المخ الأيسر والأيمن لبعض مرضى الصرع بغرض تخفيف أعراض المرض، واكتشف من خلالها أن كل نصف يختص بعمليات دون الأخرى، خالية من الصحة، ولا تتشابه وأسلوب العمل العقلي للبشر الطبيعيين الذي يتصل فيه النصفان معًا بشكل عادي.

يقول «كارل زيمر»، وهو من أشهر الكتاب العلميين في أشهر المجلات العلمية (ديسكافر – ناشيونال جيوجرافيك):

نصفا الدماغ يعملان معًا جنبًا إلى جنب، الفكرة الشائعة أن كلا منهما يختص بعمليات مُعينة لا تقدم الصورة الصحيحة لطريقة عمل الدماغ، مثلا النظرية تقول إن اللغة تأتي من النصف الأيسر من الدماغ، بينما الحقيقة أن النصفين يشتركان معًا في إنتاج اللغة، النصف الأيمن معني بمهام ضبط إيقاع الكلام ومعالجة الصور الجمالية والصياغات البلاغية والتجويد وطريقة الحديث، ولذلك نظرية اختصاص نصفي الدماغ لا تعطي التصور الصحيح لعلاقة العمل في الدماغ.

كذلك أكدت دراسة جامعة ملبورن في أستراليا أن العمليات الحسابية عند النابغين رياضيًا تأتي من النصفين معًا، لا الأيسر فقط كما يشاع.


بيعُ الوَهم: التجارةُ الرائجةُ دائمًا!

ليست وحدها نوبل التي خدعتنا، بل شاركها مئات الكتب التي رسخت لمفهوم «نصفي المخ» حتى تحول الأمر من فرضية علمية طُرحت لحقيقة جماهيرية شاعت حتى استحال نفيها، كعادة كل المعلومات التي تأتي على هوى الجماهير، إثباتها لا يتطلب أكثر من مقال واحد يذكر ما حدث، بينما نفيها يحتاج لسنوات وسنوات من الحديث المستمر!

فنحن مثلا وبرغم أن مقال «كارل زيمر» المذكور مكتوب منذ 8 سنوات، وأن أبحاثًا قاطعة أجريت منذ سنوات أحالت النظرية للتقاعد، لازلنا نتداول كتبا مثل «the whole brain child»، ونتشارك اختبارات نفسية على مواقع التواصل تحدد النصف السائد في عقلك لتعرف هل أنت رجل العقل الأيسر المنطقي أم رجل العقل الأيمن الفنان!ولازلنا نتبع الأساليب التعليمية التي بنيت على نظرية «تخصص نصفي الدماغ»، كتلك التي تُعلم الأطفال تارة عبر الصور لدفع النصف الأيمن، ثم تُعلم الطفل عبر (كذا) لتُعزز النصف الأيسر، ومن ثم ينشأ التكامل بين نصفي المخ! ولا زال حتى لحظة كتابة هذه السطور تنتشر بيننا الدورات التدريبية والمحاضرات والكتب التي تشرح طرق صنع التكامل بين نصفي الدماغ، ولا زال كل هذه الخرافة تلقى رواجًا وتداولا بين الجمهور!


الخُرافةُ فوقَ العِلم

يقول «مايكل كوربالس Michael Corballis»، أستاذ علم النفس في جامعة أوكلاند المتخصص في أبحاث علم الأعصاب كالإدراك البصري، والصور المرئية، والانتباه، والذاكرة وتطور اللغة:

رغم تحول الأمر من نظرية علمية لتجارة بين العامة ووعي زائف يبثه الكثيرون، حتى أن بعض الكتب وصلت في نتائجها لحساب أي من النصفين قد شكل أهم قرارات الحضارة الغربية! واخترعت نتيجة أن النصف الأيمن هو الذي يدير العالم! تأتي الحقيقة مؤكدة أن التصوير الدماغي أظهر خطأ الصورة الشائعة بأن التفكير والأمور الإبداعية يختص بها الجانب الأيمن، فالجانبان يعملان سوية في شبكة عصبية واسعة، فلا تخصيص لجانب عن الآخر! كذلك كل العمليات التي تتعلق بـ (الفن، العمل، التعلم، الإنتاج الأدبي) يشترك فيهما نصفا المخ معًا في عملية واحدة، لكن قوة الخرافة تسود دائمًا فوق العلم!

لهذا لا زلنا نتحدث حتى الآن فيما صمت عنه العالم منذ سنوات، ففي وطننا العربي تنشأ العمليات الرياضية والتفكير المنطقي والتحليلي واللغة والاستنتاجات والأرقام، من الجانب الأيسر. ويختص الأيمن بمعالجة الفنون والموسيقى والأمور الإبداعية والتعرف على الوجوه والمشاعر والموسيقى.لكن في العالم الحقيقي، الواقعي، تخلى الجميع عن هذه النظريات وأسقط كل ما بُني عليها! فنحن حقيقة أمام خزعبلات عليها أن تتهدم مثلما تهدم الأساس! وهذا دورنا جميعًا في نشر الحقيقة، مثلما كان لنا دور في الاقتناع بالخرافة!