أساطير من درب التبانة — قصة قصيرة
وأخيرًا حطَّت الطائرة بعد ما بدا له كما لو كان دهرًا بأكمله، ها هو قد وصل أخيرًا إلى وجهته وكان مُقْدِمًا – وأخيرًا – على القيام برحلته المؤجلة. كان يطأ أرض الكويت لأول مرة منذ سنوات طفولته المبكرة التي قضاها في مدينة السالمية، قبل أن تحط به الأقدار في مدينة الدار البيضاء حيث ترعرع واشتد عوده.
يحاول أن يسترجع شكل البيت المتواضع الذي آواه وعائلته الصغيرة، ولا يقدر ذهنه المتعب على شيء سوى تذكر مرارة الفُرقة التي مزقته. لقد اجتُثَّ من أرضه ومسقط رأسه وهو في سن صغيرة، وهو لا يزال حانقًا على العالم القاسي الذي سلبه حق العيش في وطنه، ولا يزال يصول ويجول في أروقة الذاكرة بحثًا عن أي شيء يؤكد له انتسابه للوطن الأم، ويُفنِّد إفكهم وادعاءاتهم المُضلِّلَة.
لقد كان كويتي الأصل والمَوْلِد، يشعر بانتمائه لأرض أسلافه وهو لا يزال رضيعًا في مهده، لكنهم دحضوا انتماءه ولاحقوه حتى اضطر إلى أن يغادر البلد بصفة نهائية. لم يكن مجيئه هذه المرة محاولة لإثبات انتمائه لوطنه، بل شاءت الأقدار أن يتلقَّى منحة تُغطي مجمل تكاليف دراسته في سعيه للحصول على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية، وقد كان في أمس الحاجة لتلك الدفعة المُحفِّزة ليستكمل مساره الدراسي الجامعي.
لطالما كان فِراس شابًّا طموحًا، كان كل ما تبقى له من أبيه هو ذلك السعي الأشوش إلى بلوغ الأمجاد مهما تطلب الأمر، وكان والده رجلًا مؤمنًا، يرى أن الإنسان يُوضع أمام خيارين وحيدين في هذه الدنيا منذ أن يُنفخَ فيه من روح الرحمن؛ فإما أن يكون عبدًا لله عز وجل، وإمَّا أن يكون عبدًا لهواه.
عندما تعود به الذاكرة للأيام الخوالي يتذكر فراس الرجلَ الصالح الذي كانه والده الحاج محمد رحمه الله. عاش الحاج محمد طفولة بسيطة وأقبل على رعي الغنم والمواشي رفقة أبيه في أوائل عشرينياته بعد أن غادر مقاعد المدرسة واكتفى بالحصول على شهادة الثانوية العامة. ووقع ذلك الفتى البدوي الفَظ في حب مهاجرة جاءت من أقصى المغرب إلى بلاد الشرق، كان اسمها فوزية، وكانت أجمل فتاة وقعت عيناه عليها.
يتغزَّل بجمالها الأخَّاذ بأن يُقرِئها أبياتًا من قصائد «بدر شاكر السيَّاب»، ويزداد شغفه بها كل يوم حتى ما صار للعيش طعم في غيابها. قرَّر أن يتزوجها رغم أنف القبيلة ورغم امتعاض أسرته التي كانت تفضل تزويجه بابنة عمه. كانت تلك الزيجة وليدة تَتَيُّمٍ دام لسنوات مديدة، وقد حكمت عليها القبلية والتعصب بالفشل السحيق قبل بدايتها.
عانى محمد وفوزية من تحريض أفراد القبيلة لكل أصدقائهم ومعارفهم، ومن مضايقات دامت طوال المدة التي عاشا خلالها في مدينة السالمية غير بعيد عن عائلة محمد، وزاد الأمر سوءًا بعد أن شاع خبر ولادة فراس بين القبائل، حيث تلقت الأسرة الصغيرة أكثر من تهديد بالقتل وتمكنوا من النجاة بأعجوبة من حريق مفتعل كان قد أتى على كل ما يملكون، ودفعهم إلى مغادرة الكويت بصفة نهائية خوفًا على سلامة الابن الوحيد للعائلة الصغيرة.
قبل سنتين، والحاج محمد على فراش الموت يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، أوصى ابنه بأن يزور السالمية ولو لمرة واحدة، وأن يحمل لتلك المدينة الجميلة خالص سلامه وشوقه الكبير للعيش في حضنها الدافئ.
كان كل من محمد وفوزية مقتنعين بحبهما منذ بدايته، مؤمنين بأنهما قُدِّرَا بعضهما لبعض، أو كما تفضل أن تقول والدة فوزية وجدة فراس «سقط القِدر ووجد غطاءه»، لهذا لم يكن أحد منهما – بعد كل تلك السنوات والتضحيات والمجازفات – يشعر بالندم حيال القرار الجريء الذي اتخذاه وهما في سن صغيرة.
أمَّا فراس فلم يذق حبًّا عاصفًا ولا حبًّا عاديًّا. كان مجيئه إلى الحياة محض صدفة، ولقد كان حريصًا أشد الحرص على أن يعيش حياته/صدفته كما يحب ويشتهي، واضعًا على هامش الأمور كل ما يحاول هذا العالم الجائر تلقينه قسرًا.
في بداية حياته وخلال الشوط الأول من نشأته لم يسعفه الوقت لبلورة أفكاره الخاصة، فكان الفتى الذي عاش في جلباب أبيه وتمسك بتلابيب ذلك الرجل البدوي حتى وهو يحتضر. وهكذا أصبح والده – حتى بعد أن صعدت الروح إلى بارئها – عينه التي يرى بها وأذنه التي يسمع بها.
كان فراس وهو يخطو خطواته الأولى نحو عنوان إقامته في الكويت يعانق الحرية لأول مرة، ويحاول أن يعيش الحياة كما يريد، لا كما أراد الوالد والقبيلة والمجتمع والعالم الأبله الذي لا يفلح إلا في تنميط كل شخص وكل شيء، ويُقيِّدنا بقوانين لا معنى لها.
أمَّا الأسرة والعائلة فلا ناقة لها ولا جمل في تخصصه وشغله وشريكة حياته ومحل إقامته، وأمَّا المجتمع فلا دخل له في اختياراته ما دامت لا تؤذي الآخرين ولا تزيدهم أو تُنقصِهم مما رزقهم الله. فلماذا ظل لسنوات عديدة حبيس الخوف من نظرات الآخرين والانطباعات التي يحملونها عنه؟ فليذهب العالم إلى جهنم الحمراء، وليذهب كلام الناس هو الآخر إلى حاوية النفايات، فلا أحد من كل هذه المعمعة سيُسأل بدلًا عنه عن شبابه – هو – فيما أفناه. هل يا تُرى كانت الحياة بهذه البساطة دائمًا أم أنه تعلَّم للتو كيف يتعايش مع صعوبتها؟
يمنحنا الرب الكثير من الحكمة لنصلح بها شئوننا، لكننا نتجاهل هذه المنحة العظيمة ونُكرِّس فترة وجودنا القصيرة على وجه البسيطة للبحث عن المادة حتى تصطبغ حياتنا بالبؤس والتعاسة. إن قصة الكون تشبه إلى حد كبير قصة فراس؛ تنقشع الغيوم ليلًا ليظهر القمر في أبهى حلة مطمئنًا على أحوال سكان الأرض بعد أن وعدهم بأن يصون أحلامهم وهم غارقون في سابع نومهم. يُهدهدهم إلى النوم بضوئه الخافت ليسرد للنجوم قصصهم، ويدلي لها بأسرارهم. تختطف الكواكب المجاورة السمع، تختبئ تلك الأسرار الشيقة لتجترها بنهم كلما داهمها ملل أو لتشهرها في وجه الإنسان حمايةً لوجودها من حمق هذا الأخير.
يعزف الكون سمفونيته المميزة، ويقف الإنسان في حيرة من كل هذا مُتسائلًا عن سبب وجود هذا وذاك، ولهذا السبب لا يحصد الإنسان إلا التعاسة في حين أن النجوم تحترق لتلمع دون أن تتساءل «لمَ الاحتراق؟» وتحترق الشمس لتكون عظيمة دون أن تحلم بالتخلي عن العظمة تفاديًا لحر نارها. إن الإنسان إذن مُقيد بالبؤس ما دام مُقيدًا بالسؤال، ومحكوم بالتعاسة ما دام محكومًا بحب المادة.
صحيح أن فراس كان قد توقَّف عن العيش في جلباب أبيه منذ أن شقَّ طريقه بنفسه نحو النجاح الأكاديمي، لكنه سقط كالضبع أمام المادة، صار لها عبدًا منذ أن أذاقه الله أولى قطرات الغيث، ونسي فضل الله وفضل الخلق. نسي حتى فوزية بنت علي، المهاجرة التي حملته وهنًا على وهن، والحاج محمد الذي حذَّره من أن يستغني عن عبادة الله مقابل عبادة الأهواء. نسي المسكين أن يُروِّض نفسه، فباتت هي التي تروضه وتتحكم في حركاته وسكناته. ضاعت الحرية المنشودة في الثقب الأسود دون أن يدرك المسكين ضياعها منه بحكم اعتياده العيش تحت سطوة الآخرين.