الضيف الغامض — نصوص قصيرة
الضيف الغامض
ذات صباح ظهر قُط لونه بني وأبيض، فروه كثيف عند الرقبة، رأسه ضخم، في باب المكتبة التي أعمل فيها في عمارة قديمة في وسط البلد. نظر إلى الكتب المرصوصة بجانب الحائط، أنصت إلى صوت طرقات لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر، ووقف في باب غرفة المكتب ينظر إليّ بعيون لامعة عارفة كأنه يفكر فيما سأفعل معه.
في البداية لم أركز معه وتركته، دخل ثم جلس على سياج النافذة، ونظر إلى كل شيء. وبعد أن أخذ جلسته غادر في صمت.
بدأ يظهر كل يوم في نفس الميعاد، يدخل المكتب بثقة كأنه مكانه ينظر حوله ويقطع نفس الطريق، يقف لحظات على باب غرفة المكتب ويرفع نظره تجاهي مباشرة، ويمضي بثقل، بجسده الضخم، ويتمهل قليلاً أمام النافذة، يُكوِّر جسده ويقفز ليجلس ربع ساعة بالتمام والكمال، يلحس فروة جسده وينظر إلى الكتب، ويدير نظره في المكان ثم يبدأ طقسه السري؛ يتشمّم في الورد الناشف في الفازة الفخار وقصريات الصبار، يلحس الفروع ويُجرِّبها بأسنانه ويقضم قضمتين من الأطراف الناشفة الهشة، ثم يقفز إلى الأرض ويغادر المكتب.
تلك الزهور قديمة حملتها إلى مكتبي ذات يوم امرأة كنت على علاقة بها، كانت قادمة من خارج البلاد، وجاءت لتقول لي إنها آسفة، وإنها تكن لي حباً كبيراً، لكنها تأكدت من أنها لن تتمكن من العيش معي.
يومها وضعت فروع الزهور الصغيرة البنفسجية والبيضاء، بيدها، في فازة قديمة على المكتب. ظلت الزهور مكانها حتى ذبلت، وكلما فكّرت في رفعها أنشغل في عملي، حتى اكتشفت أنه قد مضى ثلاثة أشهر على زيارتها، وأن الزمن يسري ولا أشعر به، في ذلك اليوم رتّبت المكتب ونقلت الزهور الناشفة إلى فازة من الفخار فوق سياج النافذة العريض.
انتبهت أن القط ظهر لأول في ذلك اليوم، وأنه يظهر على باب المكتبة في العاشرة بالضبط.
في الأيام التالية تأكدت من دقة مواعيده. حيّرني الأمر، تابعت حضوره، وراقبت الساعة، كل يوم أتأكد أنها العاشرة تماماً، ولأنني لا أملك تفسيراً لظهوره في نفس الدقيقة، فقد غداً حضوره مهيباً، كأنه علامة غامضة، وأصبح له قداسة من نوع ما.
بدأت آخذ راحة في أثناء زيارته، أراقب حضوره وحركاته بدقة، خصوصاً وهو يقضم الأطراف الناشفة للورد، لم أكن أعرف أن القطط يمكن أن تأكل النباتات الناشفة ولكنه فعل ذلك بانتظام، حتى لم تعد في الأزهار شيء، محى تماماً المعالم، وذات يوم نظر إليّ بمودة ومضى.
انتظرته في اليوم التالي ولكنه لم يأت.
كل يوم وأنا أركن السيارة وأطلع إلى المكتب، أتطلّع حولي، أين القط؟ لم أصادفه ولو لمرة. الغريب أنني افتقدت زائراً عزيزاً جداً. فقد خلق لي فجوة في وقت عملي، فأجدني في العاشرة بالتمام أرفع عيني من فوق الأوراق وأنظر إلى باب المكتب، ولا أتمكن من العودة إلى العمل إلا بعد ربع ساعة وقت مغادرته.
فجوة صغيرة تغص بالانتظار، تأخذني من مشاغلي. في البداية كنت أبقى ساكناً في حالة تأمل، وانتظار لظهوره، ثم بعد ذلك بدأت أتحرك في المكتب أو أدخل المطبخ وأعد فنجاناً من القهوة، مُدركاً أنه قريب جداً في مكان ما، يراقبني، ويعرف أني أنتظره، وأنه سوف يظهر في أي لحظة.
الفلكي
كان طالباً في كلية العلوم في الإسكندرية، عشق الفلك من صغره، وقرأ كل كتب النجوم والكواكب في مكتبة مدرسة «سعيد العريان» الإعدادية. كان يحلم في شبابه أن يتجوّل بالتليسكوب في المجرة، حتى يصل إلى مركز الكون. حلم بسيط، مضى مع الأيام.
بمرور الوقت أصبح الحلم ساذجاً، عندما عايش تعقيد الحياة بعد تخرجه في الكلية. أُصيبت أمه بجلطة ورقدت في فراشها، استدعى ذلك تضافراً من الأسرة، وكان عليه حمل مسئولية زواج إخوته البنات، وتفكيره هو نفسه في الزواج.
هل يمكن لحلم ساذج بالتجول بين النجوم بالتليسكوب قيمة كبيرة إلا على أنه بهجة الصبا الغض وقد رحلت إلى حالها؟
اختفي الأمر وأصبح مجرد فكرة حزينة بأنه لو عاش مع الفلكيين القدامى، لو وُلد في عصر آخر، ربما كان له شأن، ربما أنجز شيئاً.
الآن هو مجرد موظف في شركة الأسمدة والكيماويات بكفر الزيات، كل يوم يركب نفس القطار. أول القطارات. لم يُغيِّره طول عشرين عاماً. هل لهذا علاقة بحبه للفلك؟ هل لهذا أي دلالة على كون الفلكي لم يمت؟ يستيقظ عند اللحظة التي تدور الأرض حول محورها وتستدير ناحية الشمس.
حافظ على هذه العادة، و«نهى» زوجته التي تعمل في مكتبة مدرسة البنات وأنجبت منه أربع بنات، تُجبِّر نفسها يومياً أن تقوم في الفجر معه. كان يشعر بألمها لكنه لم يكن قادراً على التخلي عن رفقتها في تلك اللحظة من ميلاد اليوم الجديد، كأنما عليها أن تعاني بجسدها يقظة الفلكي القديم. لقد أحب تلك اللحظة من أجل يقظتها معه. هل أحب تعذيبها؟
في رحلة القطار التي تستغرق أقل من نصف ساعة، يراجع حركتها وتمتمتها وإيقاظها للبنات، يستعيد سعي جسدها الثقيل في أرجاء الشقة، ولومها له أنه يبقى طويلاً في المساء عند إخوته في الشقة التحتانية. يريد أن يتحدث معها يخبرها بأن حلم الفلك مثل القيد الذي يُسمِّر جسده وينبهه كل يوم الفجر إلى حركة الأرض؟
لو عاش منذ مائتي عام، لو عاش في مرصد، ربما أمكنه أن يتحدث معها. يحزن على أنه يواصل تعذيب زوجته باليقظة كل يوم في الفجر مع استدارة الأرض، يقوم من الفراش، وتقوم «نهى» وراءه وتواصل الزحف في الشقة.
الصباح
رغم أن الأيام تُكرِّر نفسها، رغم أن الصباح له نفس الطقوس، والأداءات، غير أن به شيء مختلف. تغير طفيف في نوع الطقس، ربما لأنه ثابت معظم فترات السنة، ولكن رغم ثباته به شيء آخر؛ أمل مراوغ.
في كل صباح ينبعث، يعرف المرء أنه أمل لن يتحقق، فقاعة سوف تنفثئ بعد أن يُوقِّع المرء في دفتر الحضور في الإدارة، لكن رغم ذلك لا يكف هذا الأمل أن يُولد كل صباح مثل ذبابة عنيدة، يقول بصوت خافت: «ربما في هذا اليوم يحدث شيء مختلف».
هاجس خافت يتوارى سريعاً تحت نفس الطقوس الصباحية والأداءات والواجبات التي على المرء إنجازها. من أين يأتي هذا الأمل؟ هل هو نزوع فطري كالتنفس والعمليات الحيوية لأجهزة الإنسان؟
في لحظات يفتح المرء عينيه في الصباح ولا يكون راغباً في رؤية وجه الحياة، يكون راغباً أن يعود إلى ظلمات النوم، ينغمر في الموت اليومي الصغير، ورغم ذلك لا يكف هذا الطائر الطنّان عن الهمس، ربما… ربما… ربما….
شقة على مناور
كنت أدرك المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها «سعيد»، بسبب سكنه في شقة صغيرة في إحدى القري القريبة من المدينة، على مناور، لا يدخلها الضوء. لم يكن معه ما يكفي من النقود لوضع لمبات نيون، تهبها ملمحاً من ضوء النهار، فتظل الشقة طول النهار والليل ينتشر فيها الضوء الأصفر الشاحب الذي يوحي للمرء -لو عايشه فترة طويلة- بأنه يعيش خارج الزمن.
حقيقة الأمر أن الشقة الصغيرة تشبه القبو، لذلك لم يكن يقضي فيها غير الليل، بعد لقائنا في القهوة. يقول إن الجدران مثل الكرتون وهو يسمع ما يحدث في الشقق المجاورة حتى لقاءات السرير يسمع تفاصيلها. أعرف أن هذا يُعذِّبه لأنه ظل وحيداً، غير قادر على الزواج، فهو مجرد موظف صغير في مكتب من مكاتب أملاك الدولة.
في الفترة الأخير راحت بشرته تشحب ونحوله يزيد عن الحد، وصدره يضيق بمداعبات الرفاق في المقهى، ويصبح عصبياً، حتى أنه في بعض الأحيان يتشدّد في النقاش حتى يترك المقهى غاضباً ويرجع إلى شقته. يغيب فترة وعندما يظهر يقول إنه كان مشغولاً، فقد كُلف بالمرور على القرى ليحصل متأخرات أملاك الدولة من الفلاحين.
هذه المرة غاب طويلاً. لا أحد يعرف بيته غيري. زرته مرة أو مرتين وكرهت المكان، حتى لو أردت الذهاب لزيارته فإنه يفتح الباب تبعاً لمزاجه، قد تقطع مشواراً طويلاً وتركب سيارات الأقاليم القديمة ينحشر فيها الناس، ككتل من اللحم، ثم تغوص في قلب حارات ريفية متشابكة متسخة وتشم روائح العطن تفوح من كل مكان، وتقف أمام الباب وتطرقه ولا يفتح لك، رغم علمك بوجوده.
وعندما حمل أخيراً تليفوناً محمولاً قديماً، كان هذا حلاً لنا جميعاً، لكنه أيضاً لا يرد في كل الأوقات، وإن ظل على الأقل هناك نوع من الصلة بيننا وبينه، فقد كان أمر وجوده وغيابه يخضع لحساباته هو، ولكن موضوع الموت أو المرض بدا مُرعباً، خصوصاً أن ذلك الشتاء كان قارصاً وخُيِّل إليّ في آخر ليلة رأيته فيها وهو يمد الخطي في طريقة لموقف الأقاليم، أنه في طريقه ليذوب ويتلاشى في شقته.
لم يرجع سعيد إلى المقهى، عرفنا من جيرانه خبر موته بعدها بأسبوع. بعد ذلك، ونحن نلعب أدوار الدومينو يتردّد صوته في سمعي لكني لا أستطع تذكر وجهه مهما حاولت، وغلبني الظن أنه تلاشى في تلك الشقة الكئيبة، امتصه ضوء الشقة الأصفر الشاحب، الذي لا بد لمن يعايشه فترة طويلة أن يقضي عليه.
ما يظهر في خيالي في بعض الحيان، كلما أمعنت في التصور، هو ذلك الضوء الأصفر الشاحب ينطرح ساكناً على الكنبة البلدي في الصالة، وعلى السرير المُلقاة فوقه ملاءة قديمة مُتسخة، وفوق صفوف الجرائد والمجلات القديمة في طرقة المطبخ. وفوق المنضدة الصغيرة، أمام كرسي قديم من الخيزران، كوب شاي يتصاعد منه البخار، وطفاية تميل فيها سيجارة مشتعلة يتصاعد من طرفها الدخان ولا أثر لوجود «سعيد».
نصيبي
عادت الست «رتيبة» من السوق، تحمل في يدها حقائب الخضار، وقفت أمام باب الشقة تلتقط أنفاسها بصعوبة، تبحث عن المفتاح في البوك، في نفس اللحظة رأت الباب ينفتح قبل أن تتمكن من وضع المفتاح في الكالون.
قابلها زوجها الأستاذ «سيد محروس» بالسباب ولعن الأهل، لأن البيت خال من البن، لم يجد تلقيمه يعمل بها فنجان الصبح، ويبدو أنه كان ينتظرها حتى يفش غله فيها، وما إن رآها لم يتمالك نفسه ودفعها حتى سقطت على الأرض وتناثرت محتويات حقيبة السوق، الخس والباذنجان والكوسة، والطماطم نزلت تتدحرج على السلم ووراءها البرتقال.
ازدادت عصبية الرجل بعد خروجه إلى المعاش، يُعنِّف زوجته لأوهى الأسباب، كل يوم يفتعل مشكلة جديدة، جلباب صلاة الجمعة غير مكوي، زرار ناقص من القميص الكحلي، الأكل مالح، سجادة الصلاة في غير مكانها.
في نهاية الأسبوع تأتي ابنته «هدى» وبنتها الصغيرة لكي تُهدِّئ الجو في البيت، وتحاول ترضية الأب، و«باهر» في كل مساء يطلع إلى شقة والديه، لكي يطمئن على أمه.
صعد «باهر» من شقته بسرعة عندما سمع الزعيق، أخذ يسند أمه ويدخلها إلى غرفتها، وعاد يجمع الخضار من فوق البسطة ويلاحق البرتقال والطماطم.
لم يتمكن باهر من أن يحبس غضبه، ولأول مرة يرفع صوته على أبيه قائلاً:
– خلاص، سوف آخذها لتعيش معي لتستريح منك.
ونادى:
– ماما جهزّي شنطتك… وتعالي ننزل شقتي.
– شقتك؟
وقف الرجل مذهولاً في الصالة:
– ليست شقتك… أنت ساكن في بيت أبويا.
قال باهر منفعلاً:
– نأجر شقة وآخذ ماما لتعيش معي.
نظر الرجل العجوز إلى ابنه كأنه يفيق من غفوته، وتراجع متحسساً بيديه مكانه على الكنبة. بدا مذهولاً، فلم تخطر له هذه الفكر قط، وفجأة راح الجسد الضخم والصوت الغليظ يجهش بالبكاء مثل الطفل.
– هي نصيبي… عاوز تأخذ مني نصيبي؟!
غص البيت الذي تُدخله الشمس من نافذة الصالة وتغمره بضوء نقي لصباح من شهر فبراير بالشهيق.
بعد قليل رأى «باهر» أمه تأتي مُتساندة على نفسها، وتجلس بجانب زوجها على الكنبة وتربت على كفه مثل طفل صغير حتى يكف عن البكاء.
أماني
قالت «أماني» إنها تريد أن تسافر إلى مكان بعيد جداً، ومعزول، وتقضي وقتاً مع شخص تحبه.
حملت الكلمات معنى أنها تريد أن نكون في علاقة، وحدنا في مكان بعيد معزول.
بدأ الجهاز الغامض داخل النفس يعمل على إنتاج الأمنيات، وكعهده دائماً يلف الرغبات في كسوة من الحرير، ويُزيِّنها ويقدمها لي. يخفي خشونتها حتى لا أرى الحقيقة. إنه خائف عليّ، يصونني من التألم. ينتج أماني بارقة من موقف مثل ذلك الموقف. يلف الحوادث برداء ملوّن ناعم فيساعدني على الحياة بضعة أشهر، وعندما يحدث العكس وتظهر الحقيقة بكامل خشونتها، وأعرف أنها سافرت فعلاً إلى مكان معزول في سيناء مع شخص تحبه، يظهر الحدث الذي خلق سعادتي وقد سقطت عنه المساحيق.
في تلك اللحظة قد يصاب المرء بالمرض، أو بالحزن، وأحياناً بألم شديد، لكنه بعد فترة -تطول أو تقصر- يبدأ جهاز آخر داخل النفس، في إزالة الحراشف عن الألم، ويمنحه نعومة أليفة؛ لمعاناً يجعل المرء قادراً على رفقته، بل أحياناً، كلما تقادم ومرّ عليه الزمن، يكسوه بطبقة رقيقة من دفء حنون، ويُظهِره بعيداً وخافتاً، كأنه كان لحظة من اللحظات العادية، لا يدل عليه -مثله مثل جروح الجسد القديمة- غير ندوب صغيرة تبقى إلى الأبد في القلب.