انتحار أم تصفية؟ موت غامض يحصد المقربين من بوتين
جثة معلقة على سياج حديدي في بلدة صغيرة. بنظرة أولية تعرف الأهالي أن الجثة لرومان ماليك. أحد الضباط الروس المسئولين عن حشد وتعبئة الروس للسفر لأوكرانيا. البيانات الرسمية قالت إن الرجل انتحر. لكن أقاربه شككوا في تلك الرواية فلم يبد الرجل أي علامات على رغبته في إنهاء حياته. وفاة ماليك كانت في أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
قبل ذلك التاريخ بشهر حدث أمر مشابه. حيث توفي أناتولي غيراشينكو، الرئيس السابق لمعهد موسكو للطيران. البيان الرسمي قال، إنه توفي جراء سقوطه على سلالم منزله.
بعد شهر من تلك الحادثة عُثر على جثة تطفو على شاطئ جزيرة روسكي. بعد البحث تبين أن الوفاة حدثت منذ يومين. الجزيرة كانت في هذين اليومين تستضيف منتدى الشرق الاقتصادي الروسي. ولم يكن من الصعب التعرف على صاحب الجثة. إيفان بتشورين المدير التنفيذي لشركة الخدمات اللوجيستية والطاقة للقطب الشمالي وأقصى شرق روسيا. الشركة تابعة للكرملين الروسي، وتم تأسيسها للاستفادة من تلك المناطق الحيوية.
قبل اختفائه بساعات كان إيفان، البالغ من العمر 39 عامًا، قد عرض خطة طموحة لتطوير المنطقة المُوكلة إليه، وكيفية التغلب على العقوبات الغربية التي لحقت بروسيا جراء الحرب على أوكرانيا. بعد ساعات اختفى الرجل، وأفادت وكالات الأنباء الروسية الرسمية أنه سقط من اليخت الخاص به وهو في حالة سُكر. وأفادت كذلك أن كافة محاولات إنقاذه قد فشلت، وأن الأمل هو أن يلقي الموج جثته. وهو ما حدث بعد يومين.
موت إيفان كان في سبتمبر/ أيلول 2022. لم تكن تلك هي الحالة الأولى في عام 2022، ولا حتى في نفس الشركة. ففي فبراير/ شباط 2022 توفي المدير العام للشركة نفسها، إيغور نوسوف. التقارير الرسمية قالت إن الرجل توفي بالسكتة الدماغية عن عمر يناهز 43 عامًا.
النفط يقتل عمالقته
نوسوف عُين بقرار مباشر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أغسطس/ آب 2021. وكان الرجل قبلها يشغل عديدًا من المناصب المهمة. مثل نائب حاكم إقليم نوفغورد. وقبل ذلك مديرًا لمنطقة ألابوجا الصناعية في جمهورية تتارستان التابعة للاتحاد الروسي.
إذا توقفنا عند هاتين الوفاتين قد يبدو الأمر له علاقة بالتنافس بين شركات الطاقة. وهو احتمال لا يمكن التغاضي عنه. خصوصًا أن الشركة تتقاطع أعمالها مع عديد من شركات الطاقة التي تتنافس على تحقيق أقصى استفادة من القطب الشمالي. خصوصًا مع التغير المناخي الذي أسهم في ذوبان الجليد، وفتح عديدًا من الممرات الملاحية، فأصبحت المنطقة كنزًا لم يمسسه أحد من قبل.
يتنافس في تلك المنطقة شركة روس نفت، الحكومية. الشركة يرأسها إيغور سيتشين، المقرب من بوتين. المنافس الأبرز هو شركة لوك أويل. شركة خاصة أسسها وحيد ألكبيروف في التسعينيّات. واضطر وحيد للاستقالة منها بعد الحرب الروسية على أوكرانيا بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليه.
كذلك تتنافس شركة غازبروم الحكومية مع الاثنين السابقين. الشركة يقودها أليكسي ميلر. كذلك دخلت شركة نوفاتك الخاصة على خط المنافسة. الشركة يملكها ليونيد ميخلسون، صديق بوتين في لعب الهوكي.
أسماء تلك الشركات مهمة، لا لأنها تتنافس على النفط فحسب. بل لأن أسماءها سوف تتكرر كثيرًا في حوادث الوفاة الغامضة التي عصفت بروسيا في الشهور القليلة الماضية. ففي بداية سبتمبر/ أيلول 2022 توفي رافيل ماغانوف. رافيل ملياردير روسي يبلغ من العمر 67 عامًا، ويشغل منصب رئيس شركة لوك أويل.
الوفيات بدأت قبل الحرب
لقي الملياردير مصرعه من خلال سقوط غامض من الطابق السادس في مستشفى كان يتلقى فيه علاجه من مرض القلب. وكالة الأنباء الرسمية الروسية قالت، إن الرجل مات منتحرًا بسب الاكتئاب، وكان قد تعاطى عددًا من أقراص مضادات الاكتئاب قبل أن يلقي بنفسه من الطابق السادس. لكن وكالة رويترز نقلت عن شخصين، قالت إنهما يعرفان الرجل جيدًا، قالا إنهما لا يرجحان انتحاره.
لم تكن المرة الأولى كذلك لشركة لوك أويل. في مايو/ آيار 2022 فقدت الشركة الرئيس التنفيذي السابق لها ألكسندر سوبوتين. عُثر عليه ميتًا في قبو الفيلا الخاص به في موسكو. وكالة الأنباء الرسمية قالت إنه فقد وعيه جراء نوبة قلبية. وقالت وسائل شبه رسمية إنه أصيب بنوبة قلبية إثر سعيه لعلاج غير طبي للقلب من مشعوذ مجهول. وقالت كذلك، إن الملياردير نُقل لمنزل المشعوذ في حالة شديدة من السُكر بالكحول والمخدرات قبل يوم من وفاته.
إذا تراجعنا خطوة للوراء، ونحيّنا مسألة التنافس بين شركات النفط جانبًا، سنجد أن شركة لوك أويل قد دعت بشكل علني وواضح في مارس/ آذار 2022 إلى إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا. الشركة في بيانها عبرت عن تعاطفها الشديد مع ضحايا تلك الحرب، التي وصفها البيان بالمأساة.
لكن بمزيد من التنقيب في الزمن سوف نجد أن بعض حالات الوفاة الغامضة قد بدأت قبل بدايات الحرب الروسية الأوكرانية. لكن لم يكن أيًا منها في شركة لوك أويل، بل كانت في شركة غازبروم. في 29 يناير/ كانون الثاني 2022 عُثر على ليونيد شولمان ميتًا في منزله الفخم في مدينة سانت بطرسبرغ. شولمان هو رئيس النقل في غازبروم.
وسائل الإعلام الرسمية قالت إنه عُثر على مذكرة انتحار جوار الجثة. لكن بعد الكشف عن المذكرة تبين أن الرجل كتب فيها أنه يعاني ألمًا لا يُطاق في قدمه التي كُسرت أثناء احتفاله برأس السنة في الفيلا الخاص به. لا يبدو سببًا مقنعًا، لكن الغريب أن محطة دوجد، التي نقلت خبر وجود مذكرة الانتحار ووضحت المكتوب فيها، أغلقت بعد بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
حبكة غير متقنة لوفاة رجل مهم
في نفس المدينة، ومن نفس الشركة، عُثر على ألكسندر تولياكوف ميتًا في مرآب منزله. الوفاة كانت في 25 فبراير/ شباط 2022. بعض الصحف الروسية المستقلة قالت إن الرجل، 61 عامًا، تعرض للضرب المبرح في الليلة السابقة لوفاته. ألكسندر هو نائب المدير العام لخزينة شركة غازبروم. وتتوافق البيانات المستقلة مع البيانات الرسمية في أن الرجل عُثر عليه مشنوقًا في المرآب. لكن الاختلاف في هل انتحر بشنق نفسه، أم قُتل شنقًا بفعل فاعل.
بضعة كيلومترات بعيدًا عن سانت بطرسبرغ، بضعة أشهر بعد وفاة الرجلين السابقين، وُجدت جثة يوري فورونوف. من الوهلة الأولى يبدو يوري بعيدًا عن هذه المشاحنات كلها. الرجل المدير العام لشركة أسترا للشحن. لكن البحث البسيط يخبرنا أن شركته كانت المسئولة عن تنفيذ عقود شركة غازبروم في القطب الشمالي.
كعادة البقية عُثر على جثته في الفيلا الخاصة به. لكن كانت وفاة الرجل أقل حبكة من باقي الوفيّات. عائم في مسبح الفيلا، ظهره للسماء ووجهه للماء. غرق تقليدي. لكن حين ينقلب ترى رصاصة واضحة تخترق جبهته. المسدس بجواره، فيبدو الأمر انتحارًا مرة أخرى. لكن بضع طلقات أخرى وُجدت في أطراف قدميه وفخذه. قصة تعذيب إذن وقتل بدم بارد.
زوجة يوري ظهرت في حالة الوفاة هذه المرة. المرأة منحت تفسيرًا تقول فيه إنه تنازع مع شركائه التجاريين بسبب خسائر ضخمة في الأموال. فربما كانت عملية القتل مدبرة منهم.
زوجة يوري ظهرت في تلك الحالة بتصريحات وهي حية. لكن في أبريل/ نيسان 2022 ظهرت أسماء زوجات رجلي أعمال آخرين، لكن كضحايا مع أزواجهن. في 18 أبريل/ نيسان عُثر على فيلاديسلاف أفاييف ميتًا في شقته في موسكو مع زوجته وابنته. الرجل كان النائب لرئيس مصرف غازبروم، الذراع المالية لشركة غازبروم. البيانات الرسمية قالت إنه عُثر على مسدس في يده، فهي حادثة قتل تبعها انتحار.
تخلصوا من الزوجات والأبناء
في اليوم التالي مباشرة تلقت الشرطة الإسبانية بلاغًا من فيدور، ابن سيرجي بروتوسينينا، أحد أكبر الأوليجاركية الروس. فيدور أخبر الشرطة أنه حاول الاتصال بوالدته ووالده المقيمين في إسبانيا ولم يتلق ردًا. بوصول الشرطة عُثر على الرجل مشنوقًا في حديقة المنزل. سيرجي كان وقت وفاته نائب رئيس شركة نوفاتك الخاصة للغاز. أما زوجته وابنته فقد عثر عليهما متوفيتين بعديد من الطعنات داخل المنزل.
مقتل سيرجي وعائلته كان خارج روسيا. ما يعني أن يدًا نافذة تستطيع الوصول لمن تشاء حتى خارج نطاق سيطرتها. تلك اليد استطاعت أن تصل إلى ميخائيل واتفورد في العاصمة البريطانية في فبراير/ شباط 2022. عثرت الشرطة على جثته مشنوقًا في منزله. بعد أيام قليلة من إعلان بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، عن عقوبات تشمل كبار رجال الأعمال الروس. وميخائيل من كبار رجال النفط الروسي.
بعد تلك الحادثة بشهر واحد، وبعيدًا نوعًا ما عن العلاقات بشركات النفط والغاز. عُثر على الملياردير الروسي فاسيلي مينليكوف ميتًا. وعُثر مع جثته على جثة زوجته وطفليّه، في مدينة نوفجورد الروسية. فاسيلي كان يرأس شركة ميدستوم، عملاق الإمدادات الطبية العالمية.
في الشهر التالي كان حظ أندريه كروكوفسكي عاثرًا إذ مات إثر سقوطه على صخرة عملاقة. أندريه عمره 37، وكان يعمل حتى وفاته مديرًا لمنتجع سياحي للتزلج على الجليد بالقرب من سوتشي. المنتج هو حيث يقضي بوتين إجازاته الشتوية، ويدعو ضيوفه الكبار هناك. ولم تتحدث أي من الصحف الرسمية أو المستقلة عن سبب تلك الوفاة ولا ملابساتها.
الولاء أو الموت
عام عجيب، مليء بالوفياة الغامضة، تقارب سقف الخمس عشرة وفاة، وقت كتابة المقال، ربما تزيد لاحقًا. منهم 11 على أقل تقدير يعملون في مجال الطاقة. أوضاعهم المالية ممتازة، وشلالات الأرباح لا تتوقف عن الانهمار عليهم حتى مع العقوبات الغربية على روسيا. ما يطرح السؤال حول الروايات الرسمية المتواتر أنها حوادث انتحار خوفًا من المستقبل، أم حوادث مدبرة.
خصوصًا أن حوادث الانتحار من نافذة المستشفيات ليست جديدة. ففي عام 2020، وقت ذروة انتشار وباء كوفيد- 19، سقط 3 أطباء من نوافذ مستشفياتهم حيث يعملون. التقارير الرسمية قالت إنها حوادث انتحار فردية بسبب ضغط العمل. لكن الصحف المستقلة كشفت أن الرابط بين تلك الحوادث، بجانب الطب، أنهم نشروا مقاطع مصورة على صفحات التواصل الاجتماعي توثق نقص المسلتزمات الطبية.
فربما الأمر لا يرتبط إذن بالخوف على المستقبل، أو الانتحار للاكتئاب. فمع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت صفوف الكبار الروس تتململ من تلك الحرب. ومع حدوث الضغط الغربي الضخم على روسيا وأموالها وتجارتها، ظهرت بعض الأصوات المطالبة بإنهاء الحرب. ربما كانت حوادث القتل لمنع مزيد من الأصوات من الظهور للمناداة بذلك المطلب.
أو إذا اقترضنا الروح السينمائية للتعامل مع تلك الحوادث، فربما تكون وفاتهم نتيجة فشلهم في اختبار بسيط طالب منهم الدب الروسي فيه أن يأكدوا ولاءهم له في وجه العالم الغربي. فبعض تلك الحوادث تلت اجتماعات خاطفة للموتى مع قيادات أوكرانية، أو زيارات ظنوا أنها سرية لأوكرانيا.