خالد حماية يكتب: لغز السعادة المحيّر
لدي سؤال بسيط وشخصي لك: هل تريد أن تكون من السعداء؟ هل لديك أمل في مستقبل أفضل تكون فيه أكثر سعادة وراحة بال؟ لو أتيحت لك الفرصة لتستثمر أعظم استثمار في مستقبلك لتكون سعيدًا بقية عمرك متمتعًا بصحة جيدة وعمر مديد.. ماذا ستفعل؟
استطلاعات رأي كثيرة توصلت لنتائج متشابهة تقريبًا، مفادها: أن 80% من الناس أجابوا بأنهم سيسعون للحصول على المال بكل ما يملكون من قوة ليؤمّنوا لأنفسهم مستقبلًا أكثر سعادة، وأجاب نصف هؤلاء بأن هدفهم الثاني الكبير نحو تحقيق السعادة هو الوصول للشهرة. هذا هو الذي يجيب به الناس دائمًا وأبدًا عند الحديث عن مستقبلهم وحياتهم السعيدة في قابل الأيام.
ولكن هل هذه هي الحقيقة، وهذا حقًا هو سبب السعادة؟ اكتشاف ليس سهلًا بالطبع، والتأكد من صحة هذه الإجابات بطريقة ترضي الباحثين في العلوم الاجتماعية صعب للغاية. فهو يحتاج لاسترجاع تفاصيل حياة من هم أكبر منا سنًّا على مدار سنوات العمر الطويلة لنبني صورة حقيقية عن أسباب السعادة كما هي، لا كما يتصورها الناس، والحقيقة أن الذاكرة البشرية تنسى كثيرًا من هذا ولا تتذكر منه سوى القليل والقليل جدًا فقط.
ألم تقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖلَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». (المؤمنون)
نحتاج إذن لدراسة حياة البشر في أنماطهم المختلفة وطبقاتهم المادية والاجتماعية المتنوعة لنتأكد ما إذا كان سبب السعادة بالفعل هو المال والشهرة كما هي نتائج استطلاعات الرأي، أم أن هناك سبباً آخر؟ وهذا ما قامت به دراسة طويلة أعدّها أربعة أجيال متعاقبة من الباحثين في جامعة هارفارد، تناولت تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة منتقاة مكونة من 724 شخصًا يمثلون جميع شرائح المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية. لا يزال لدينا من جملة هؤلاء المشاركين في الدراسة 60 رجلًا على قيد الحياة، أكثرهم قد تجاوز التسعين من العمر.
ضمت تلك الدراسة العجيبة التي بدأت في صمت في ثلاثينيات القرن الماضي مجموعتين من الناس:
الأولى: طلاب في السنة الثانية في جامعة هارفارد، تخرجوا بعد ذلك وشارك أكثرهم في الحرب العالمية الثانية. أما المجموعة الثانية: فكانوا مجموعة من الأطفال الذين عاشوا في أحياء شديدة الفقر في ضواحي مدينة بوسطن، حيث عاش هؤلاء حياة بائسة تفتقر لكثير من المقومات الأساسية للعيش.
تنوعت الوظائف التي شغلها أفراد هذه المجموعة تنوعًا شديدًا، ما بين العمل في مصانع الصلب أو في مجال البناء والمقاولات، كان منهم أيضًا الطبيب والمهندس والمحامي، كما أن أحدهم قد أصبح واحدًا من رؤساء الولايات المتحدة السابقين. وبالتبعية فقد تنوعت الحالة المادية لهؤلاء تنوعًا شديدًا ما بين الفقر والغنى، وكان منهم من ترقى في سلم الحياة الاجتماعية من الفقر الشديد وحتى الثراء الفاحش، وآخرون حصل لهم عكس ذلك تمامًا. عاش أكثرهم حياة طبيعية، وعانى بعضهم من الإدمان والأمراض النفسية وتعاطي المخدرات.
وخلال السنوات الطوال للدراسة، كان الباحثون يتوجهون لهم بمجموعة من الأسئلة والزيارات الميدانية بشكل دوري يتفقدون أحوالهم الاجتماعية والمادية والصحية، ويناقشونهم في تفاصيل حياتهم اليومية.
تذكر معي أن هذه الدراسة الضخمة التي رُصِد لها ميزانيات تكفي لأن تستمر كل هذه السنوات الطوال كانت ولا تزال تبحث عن الأسباب الكامنة خلف سعادة الناس وراحتهم في حياتهم، وكانت الدروس المستفادة التي خرج بها هؤلاء الباحثون عجيبة للغاية؛ إذ لم تكن الثروة أو الشهرة سببًا من أسباب السعادة التي نسعى لها جميعًا! لقد كانت الخلاصة هي: العلاقات الإنسانية الطيبة هي السبب في السعادة والصحة الجيدة والعمر الطويل.
لقد تعلم الباحثون من ذلك درسين عظيمين:
- الروابط الاجتماعية ضرورية لصحة وحياة الإنسان لأبعد الحدود.
- الوحدة قاتلة لصاحبها.
فقد أثبتت الدراسات أن أولئك الذين يحتفظون بعلاقات طيبة بأسرهم وجيرانهم وأصدقائهم يكونون أكثر سعادة ويتمتعون بصحة أفضل، مقارنة بأولئك الذين فضلوا الوحدة والعزلة نمطًا لحياتهم، وأن من يعيش منعزلًا عمن حوله يكون عرضة بشكل أكبر للعديد من المشاكل الصحية والنفسية المبكرة التي تبدأ مع منتصف العمر. بل إن دراسة أخرى خرجت من الدنمارك تقول إن الضرر الذي تسببه الوحدة لصحة الإنسان قد يعادل تأثيرها الضرر الحاصل من تدخين 15 سيجارة يوميًا، ومما يفاقم الأزمة في هذه المجتمعات أن الدراسات التي أجريت في بلد كالولايات المتحدة قد أظهرت آن واحد من بين خمسة أشخاص يشعر بالوحدة أكثر مما يجب.
ما الوحدة، وكيف تكون؟
قد تكون وحيدًا بينما أنت موجود بين الناس، وقد تكون وحيدًا حتى وأنت تعيش مع زوجتك وأولادك، فليس المهم هو عدد الصداقات أو الروابط الاجتماعية من حولك، فحسن اختيار رفيق الدرب وشريك الحياة أمر مهم للغاية، وحسن اختيار الصديق أمر مهم أيضًا، إذ قد تكون أسرتك الصغيرة أكبر مأوى وملجأ لك من ضغوط ومصاعب الحياة، وقد يكون لديك صديق وفيّ واحد أفضل من مئات بل آلاف صداقات الفيس بوك الوهمية، أو علاقات المجاملات الاجتماعية التي لا قيمة لها في الحقيقة، كما أن العيش في جو من الصراعات المستمرة حتى داخل الأسرة أو على مستوى الأصدقاء يؤثر سلبًا بالطبع على صحتك حتى ولو كانت داخل صداقات وعلاقات تلتزم من الناحية الاجتماعية الحفاظ عليها.
يقول القائمون على الدراسة: وبعد أن تتبعنا هذه المجموعة من المبحوثين حتى بلغوا سن الثمانين أردنا أن نعود بتفاصيل حياتهم للوراء عندما كانوا في سن الخمسين لنحاول إدراك المؤشرات الإيجابية التي تتنبأ بأن شخصًا ما سيعيش سعيدًا فيما بقي له من حياته، وكانت المفاجأة أن هذه المؤشرات لم تكن من نوعية: معدل الكوليسترول في الدم مثلًا، بل كانت مدى شعورهم بالرضا والحب عن علاقاتهم بمن يعيشون حولهم. لقد أثبتت الدراسات أن هؤلاء الراضين المحبين كانوا أكثر صبرًا وأكثر احتمالًا لآلام المرض في رحلة نهاية العمر، وعلى الناحية الأخرى فقد تعاظمت آلام أولئك الذين عاشوا حياتهم في وحدة أو في صراع مع من حولهم.
الآن ورغم كون هذه الحقيقة قد تبدو سهلة ومفهومة فإن كثيرًا منا لا يبالي بها في زمن المغريات المادية التي صبغت كل جوانب الحياة من حولنا، حتى خُيّل لكثير من الناس أن تكوين الأسرة والاهتمام بصناعة الحب والألفة بين الخلق هو مضيعة للجهد وللوقت.. ألا يذكرك هذا بشيء ما؟
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».
هل عرفت معنى الزيادة في الرزق وطول العمر الذَين تكلم عنهما نبينا، صلى الله عليه وسلم؟
لقد أخبرنا نبينا، صلى الله عليه وسلم، عن صفات المؤمنين فيما رواه أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكمل الناس إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»، رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.
وحذرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من رفقة السوء فقال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».
كثير من الناس لا يستوعب معنى هذه الفضائل وتلك الصفات حتى يسمع بدراسة هنا أو بحث هناك يدله على الشيء نفسه ويخبره بلغة الأرقام والحقائق العلمية صدق كلام ربنا، سبحانه وتعالى، وصدق ما بلغنا به رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
لماذا إذن لا نستبدل شيئًا من أوقات التصفح في عالمنا الافتراضي بأوقات طيبة نقضيها مع أبنائنا وزوجاتنا ومن نحب من صحبة الخير التي نتواصى فيها بالطاعات والباقيات الصالحات.
ابحث عن قريبك الذي لم تتواصل معه منذ سنوات أو عن صديق لك وقعت بينكما خلافات لتستبدل تلك المشاعر السلبية بأخرى طيبة محبة دافعة للخير.
هيا بنا لنكون كهذا الصحابي الذي بشّره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالجنة، ولم يكن كثير التعبد لله بصلاة نوافل وصيام، ولكنه كان يبيت وصدره خالٍ من كل حقد أو حسد على مسلم.
العلم الحديث يؤكد كما يؤكد ديننا أن هذا هو باب السعادة والفلاح في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى.