رحلتي من المنبر إلى روتانا: «عدنان إبراهيم» وخيانة المثقفين
قبل أكثر من ثمانين عامًا، وتحديدًا في عام 1927م، صدر كتاب الروائي الفرنسي جوليان بِندا: «خيانة المثقفين»، هذا العنوان الصادم لخص مأساة قرنين. بحسب بندا، وبحسب كثيرين ممن احتفوا بكتابه. تتلخص تلك المأساة في حكمة أثبتت صدقها على مر الأيام: عندما يتعلق الأمر بالسياسة، يعجز المثقف عن التفكير بتجرد، ويتحول إلى محامٍ للشيطان.
لم يكن «عدنان إبراهيم»، الذي كان يومًا يستحق بجدارة أن نسميه: «الداعية ابن الربيع العربي»، استثناءً عن هذه الحكمة الأزلية. فالخطيب الذي هرع آلاف من الشباب المتشوق لـ «الإسلام الأحمر»، إذا ما أتحنا لأنفسنا استعارة التعبير الخاص بالمفكر الإيراني الثائر علي شريعتي في وصف الإسلام الثوري في مقابل إسلام السلطة، إلى قناته اليوتيوبية؛ ليستمعوا إلى صولاته المنبرية ضد شيوخ السلاطين، مفتي الفضائيات، خصوم الثورات، أولئك الذين يخافون الفكر الحر والنقد، ثم ما لبث هو أن تحول بمرور الوقت إلى أحد نجوم ذات الفضائيات، وخصوم الثورات، وأصدقاء السلاطين. كيف حصل ذلك؟ هذه هي رحلة عدنان التي سنحاول أن نتتبعها.
من فلسطين مع الحلم
ولد عدنان في مخيم النصيرات بقطاع غزة قبل أن تحتله إسرائيل بعامٍ واحد، حيث درس في مدارس الأونروا قبل أن يغادر لتعلم الطب في يوغوسلافيا. لكن يبدو أن الحروب كانت تتبع عدنان حيثما ذهب، فبعد وصوله يوغوسلافيا بمدة ليست بالطويلة اندلعت فيها الحرب الأهلية؛ لينتقل عدنان إلى فيينا، حيث أتم دراسته للطب. لكن شغف عدنان بالعلوم الدينية والعقلية (كالفلسفة والمنطق وعلم الكلام) لم يفارقه؛ مما دفعه إلى العودة إلى لبنان للدراسة في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الشرعية، ويبدو أن الإقامة في لبنان كان لها عظيم الأثر في حياة عدنان.
تكمن المفارقات في كل محطة من محطات رحلة عدنان، فالأوزاعي الذي جمعته كفقيه شامي علاقة قوية ببني أمية، كانت الدراسة في الكلية التي سميت باسمه تخليدًا لذكراه، سبيلًا إلى التضلع من الفكر الشيعي المعاصر لدى عدنان. ففي بيروت الحافلة بدور النشر الشيعية، وبين مراجع لبنان ذوي الإنتاج الثري كـ «محمد مهدي شمس الدين» و«محمد حسين فضل الله»، كان طبيعيًا جدًا أن يتعرف عدنان على الدرس الفلسفي لدى الشيعة، والذي يبدو أنه هيمن عليه، ولا زال يعتمد في محاضراته التعريفية بالفلسفة على مصطلحات المدرسة الشيعية المعاصرة في الفلسفة، كـ «محمد رضا طباطبائي» و«محمد رضا مظفر» و«مرتضى مطهري» و«محمد باقر الصدر»، وحججها ومفاهيمها الأساسية.
وعلى الرغم من أن عدنان واصل لاحقًا دراسته في فيينا حيث حصل على الماجستير والدكتوراه في الدراسات الإسلامية، إلا أنه ظل مهجوسًا كما يبدو بالصراع الأموي الشيعي، الذي يحمّله عدنان مسئولية انحدار التاريخ الإسلامي كله؛ إذ يجعل من تأسيس ملك بني أمية «بداية لكارثتنا» التي استمرت حتى الربيع العربي. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إن عدنان قد أفرد للهجوم على معاوية بن أبي سفيان وحده سلسلة «معاوية في الميزان» التي امتدت إلى ما يقارب الثلاثين محاضرة.
لكن امتياز عدنان لم يتوقف عند حدود اطلاعه الفلسفي وجرأته النقدية، بل نبع أيضًا مع ذلك من اتجاهه إلى الانغماس في الكوزمولوجيا المعاصرة (التصور العلمي للكون كما تدرسه الفيزياء) والأحياء التطورية؛ الأمور التي خصص لشرحها سلاسل من المحاضرات، حيث أبدى عدنان أيضًا قدرة على توظيف الكوزمولوجيا المعاصرة ضد الإلحاد، واستعدادًا للقبول بنظرية التطور الداروينية مع تعديلات بسيطة؛ وهو الموقف الذي سبقه إليه عدد من المفكرين والكتاب المسلمين كـ «نديم جاسر» و«عمرو شريف».
أن تلعن معاوية من على منبر يزيد
اعتاد أن يقف على منبره، مرتديًا إحدى بزاته الأنيقة التي تضفي على حضوره وموقفه المنبري طابع المثقف المعاصر، وأن يتلو آيات القرآن بصوتٍ عذب وتجويد متمكن وخشوع ظاهر، قبل أن يشرع في مهاجمة شيوخ السلاطين ومفتي الفضائيات، «أولئك الذين يقدون الفتاوى على قد هوى السلطان». اعتاد أيضًا أن يهاجم دول النفط ومشايخها، كان هذا مواكبًا ومناسبًا لموجة المد في الربيع العربي، لكنه لم يكن يدري أنه بعد عام سيشارك مشايخ الفضائيات مقاعدهم التلفزيونية، بل ويشاركهم في أموال أثرياء النفط أيضًا.
ففي 2012م، قدّم عدنان إبراهيم برنامج «في الله» على روتانا الفضائية، ولم تنقطع تلك العادة على مدى الرمضانات التالية، فيبدو أن العلاقة مع روتانا قد تعمقت؛ إذ ظهر عدنان إبراهيم وهو يتناول الغداء بصحبة مالكها، الثري الخليجي، «الوليد بن طلال». كما يدعم مركز سلطان بن زايد الإماراتي عدنان إبراهيم، يطبع كتبه ويوزعها مجانًا.
استمرت مفارقات عدنان، بل وغدت تناقضات وتحولات جذرية تحتاج إلى تفسير. فالرجل الذي لطالما هاجم مشايخ النفط الذين يدعمون أنظمتهم الملكية، تحول إلى محام للشيخ السوري «محمد سعيد رمضان البوطي»، والمعروف بتأييده المطلق للنظام السوري، لينعيه بخطبة عشية اغتياله.
هذا وإن فُسر في إطار وفاء التلميذ لأستاذه، فلن ينطلي التأويل ذاته على الموقف الآخر الأكثر غرابة وهو موقف عدنان من الثورة السورية، حيث ظل عدنان إلى ما يقارب منتصف 2013 مؤيدًا للثورة، وإن بانتقادات وتلميحات ضمنية ضدها، رافضًا تبريرات النظام بوجود مخططات، مصرحًا بأن النظام «لم يطلق طلقة واحدة على إسرائيل منذ أربعين سنة»، ومصرحًا كذلك بأن بشار الأسد دمر سوريا، وأن إسرائيل أحيانًا كانت أهون من ذلك النظام. ليعود عدنان لاحقًا ويؤكد على قناة الميادين الداعمة للنظام السوري، مطلع 2015م، أنه لم يؤيد الثورة يومًا ولم ينخدع فيها، وأنه على الرغم من نقده للنظام، إلا أنه كان يرى أن توقيت الثورة غير مناسب نظرًا لما أسماه: «المؤامرات الاستعمارية».
عدنان إبراهيم مؤيدًا الثورة:
https://www.youtube.com/watch?v=Vpx8fGV5vu8
عدنان إبراهيم يتحدث عن موقفه «الذكي» من الثورة:
https://www.youtube.com/watch?v=dwz-vgj52Gg
لم تنحصر مفارقات عدنان في الشأن السوري، بل شملت أيضًا موقفه من الأحداث في مصر بعد 30 يونيو/حزيران، وتحديدًا فض اعتصام رابعة. إذ لم يصمد إيمان عدنان بالحرية أمام أول لحظة اختبار فيما يبدو. ففي 23 أغسطس/آب 2013م، وفي خطبته للجمعة في ذلك اليوم عشية فض اعتصام رابعة العدوية، والتي عنونها بـ «لا للحرب الأهلية في مصر»، انطلق عدنان محذرًا من دعاة الفتنة الذين يريدون أن يشعلوا حربًا أهلية في مصر على غرار سوريا، متحوِّلا إلى سياسي محافظ يحذر من «الحرية»، قائلا:
السيسي «الطاغية» وتناقض عدنان:
كيف أمكن للرجل الذي رأى في معاوية بن سفيان «بداية كارثتنا»، كما عنون محاضرته بذلك في 2011م، أن يرى أن الثورة على النظام جاءت في توقيتٍ غير مناسب؟!. تحول عدنان بمرور الوقت من داعية مثقف يتحدث في الفلسفة والتطور والفيزياء، ببراعة استعراضية يُحسد عليها، ويخلب الألباب بمواقفه النقدية المتماسكة، إلى اسمٍ خافتٍ يشبه أولئك الذين يبحثون عن الشهرة عبر الهجوم على البخاري أو على واحد من الصحابة.
التجديد الموءود فضائيًا
تأطّرت ولادة عدنان إبراهيم الرمزية بثورات الربيع العربي، وعبر الخطابة المصورة والمذاعة شبكيًا عبر الإنترنت. لم يكن عدنان لذلك بعيدًا عن المشهدية التي طبعت عالم الشيوخ أو الدعاة الدينيين ونقادهم على حد سواء ممن ارتبط حضورهم بالشاشات الفضائية؛ أي أن عدنان لم يقدم نفسه عبر مواد مكتوبة أو أبحاث معرفية، بل اعتمد أساسًا على قناة توصيل تتناسب غالبًا مع الوعظ الدعوي أو الدعاية الأيديولوجية أكثر مما تتناسب مع السعي المعرفي.
نجح عدنان مع ذلك في أن ينأى بنفسه عن المشهدية التي كان بالإمكان أن تهيمن عليه عبر اعتماده على الفيديو المبثوث شبكيًا؛ لأنه اعتزل الظهور الفضائي إلا في مناسبات قليلة اتسمت بالرصانة، كما أن مادته المعرفية لم تتلوث في ذلك الوقت بتوازنات السياسة التي تؤطر المشهدية الفضائية، وقد استمر رهان عدنان على تجديد الخطابة والمحاضرة كأدوات لتوصيل المعرفة والفكر بدلًا من المادة المكتوبة، صامدًا لمدة طويلة بفضل ذلك.
لكن صمود عدنان كان قد تقوَّض تدريجيًا بظهوره في روتانا، وانخراطه في السجالات المشائخية، ليسقط تدريجيًا في المشهدية التي سقط فيها سلفه من «أصحاب المشكلات مع البخاري» كما وصف نفسه في عنوان إحدى خطبه «مشكلتي مع البخاري». القصة صارت محفوظة ومتكررة، رجل يفترض به أن يكون باحثًا، يحل محل المذيع، ويحاول أن يشرح للناس «مشكلته مع البخاري» دون أن يفكر: هل يتسق مع تصوره للدين الذي يراه بسيطًا وقد عقّده الفقهاء، أن يكون الخطاب الديني المقدم إلى الجماهير مشحونًا بالخلافات العلمية الدقيقة.
يجد المثقف/الإعلامي نفسه بمرور الوقت مرتبطًا بعلاقات مادية ومعنوية مع شبكات مصالح معينة وضد شبكات أخرى، يتعرض لانتقادات، ويدخل في منافسة في سبيل الاستحواذ على المشهد، يتحوّل إلى باحث عن شهرة عبر إثارة قضايا غريبة وتبني آراء أغرب. هي في الأخير قصة السقوط في المشهدية، التي تحوّل باحثًا أو مفكرًا واعدًا إلى داعية مشهدي، وأداة إعلامية في يد شبكات ضد أخرى.