«صاحبي» أبو خليل: «جدع بلا جاه مَرسَى الهموم قلبه»
هذا الشاب «الحليوة أبو شعر أصفر وعيون خضرا» في الصورة أعلى المقال هو «صاحبي»، ربما تعرفه أو لا تعرفه، لكن دعني أخبرك بداية أنك لست في حاجة إلى معرفة هذا الشاب معرفة شخصية، حسبك كمدخل للحكي عنه أن أخبرك بأن هذا الشاب «صاحب جدع»، صفات «الجدعنة» متأصلة فيه، لذا، لنقل إن هذا المقال بعنوان: «3 مقاصد للصداقة: أحمد أبو خليل نموذجًا»، قد يكون هذا العنوان البحثي مدخلًا مناسبًا لحدوتة «هحكي فيها عن واحد صاحبي»، أتفهّم أنك قد لا تعرفني وقد لا تعرف «صاحبي»، لكن من سمات قصص «الجدعان» أنه يمكنك تجريدها من الأسماء والأحداث، لكن المواقف والأحاسيس لا تُجرّد، وأثق أنك عشت مثلها مع صديق لك، يمكنك تبديل أسماء شخصيات الحدوتة بأسماء الشخصيات التي تخصك وستشعر بالحالة تسري في نبضاتك، جرّب ذلك، قد يعود بك الحنين إلى صديق قديم أو آخر دائم، فتحادثه تليفونيًا أو تراسله «سوشياليًا»؛ لتتذكرا أيامًا ومواقف أو تُعيدا وِصالًا قطعته «زحمة الأيام»، هذا هو المغزى الآخر من هذه «الحدوتة»؛ إذ إن مغزاها الأول هو الحديث عن الشاب الجدع أحمد أبو خليل.
لذا..
صلِّ ع النبي.. وكان ياما كان..
«سكشن أ»
دعنا نبدأ بداية سينمائية؛ فالحياة «فيلم سيما».
مشهد 1: نهار داخلي، مدرج 6 بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، شابّان في «أولى جامعة» جمعهما «سكشن أ»؛ لأن الأول اسمه أحمد والثاني اسمه أحمد كذلك.
أحمد وأحمد خرجا من المحاضرة لا يعرف أحدهما الآخر، وعلى الرغم من ذلك اختلف تعليقهما على الأستاذ الشيخ الذي ألقى محاضرته الأولى عن ذكرياته ومواقفه دون أن يتطرق لمادة المحاضرة، وهي النحو.
– قال أحمد متذمرًا: «واحد بيحكي عن حياته أنا استفدت إيه بقى؟»
– فقاطعه أحمد مبتسمًا: «ما هي حكايات نتعلم منها برضه».
– التفت أحمد إليه، وقال مستنكرًا: «أنا جاي أتعلم نحو مش أتعلم حياة «الليثي» (أستاذ المادة رحمه الله)».
– فعقّب أحمد بالابتسامة ذاتها: «النحو جاي كتير متقلقش».
انتهى الحوار بينهما، لا يهم أن تعرف من هو أحمد المتذمر المستنكر ومن هو أحمد المبتسم، سأترك ذلك لانطباعك ومخيلتك كقارئ للمقال ومشاهد للقطة ومستمع للحدوتة، لكن دعني أخبرك أن أحمد وأحمد صارا صديقين منذ حينها، لا يعرفان لماذا حدث ذلك؟ ومتى؟ وكيف تنامت بينهما «صحوبية» ممتدة لما يقارب عقدين؟ ربما تشابها فقط في أنهما جوزائيان يسعيان لتجسيد أهدافهما في الحياة، على الرغم من اختلاف اهتماماتهما وأهدافهما ومجالاتهما وخلفياتهما التربوية، وهنا المقصد الأول لرباط «الصحوبية» مع أحمد، أن جُل أصحابه لا يعرفون كيف ومتى صاروا أصحابه، ولمَ صاروا مقربين منه إلى هذه الدرجة، ولم صار أحمد ملهمًا ومؤثرًا في حياتهم العملية، ربما كان ذلك بسبب حبه لأصحابه الخالي من المصالح والنفعيّات إلى الحد الذي يمكن أن تعد أحمد دليلًا على كذب مقولة: «مفيش حد صالح كله بتاع مصالح».
«تحت الياسمينة»
لنقفز بالزمن ست سنوات بعد المشهد الأول.
مشهد 2: ليل خارجي، أحمد وأحمد عائدان من كتب كتاب أحمد المتذمر في سيارة صديقهما، بعد أن ظل أحمد المبتسم مع صاحبه طوال اليوم ليكون أحد الصديقين اللذين شهدا هذا اليوم معه. وفي طريق العودة ليلًا يتسلّى الأصحاب بأغاني إذاعة «نجوم إف إم»، حتى تُذاع أغنية «تحت الياسمينة» لمحمد منير:
تحت الياسمينة في الليل
نسمة والورد محازيني
الأغصان عليّا تميل
تمسحلي في دمعة عيني
تحت الياسمينة اتكيت
عدلت العود وغنيت
وتناطر دمعي وبكيت
فكّرتك كيف كنت تجيني
فجأة، اعتدل أحمد المبتسم الذي كان مسترخيًا على المقعد الخلفي للسيارة، مال بجسده ناحية الراديو، أمسك مؤشر الصوت ليُعلي صوت الأغنية، وعاد لتمدده، هنا تعجّب أحمد المتذمر، فليس من عادة صديقه أن يستمع للأغاني؛ فهو يهوى الإنشاد استماعًا وإلقاءً، لكن هذه الأغنية مختلفة، هي تعبر عن أحمد المبتسم كثيرًا، وتصف حياته وحيرته وحبه، ترسم صورة لإحساسه بالكون وما يختلج في نَفْسِه وأنفاسه، فهو كالحادي في الليل يغني لليلاه، وليلاه دينه وفلسطينه وحبه، ينتقل في الحياة كالطائر الباحث عن عش، وبمجرد أن يجده ويهيئه لا يسكنه بل يبحث عن غيره وغيره، ومن ثم يحلق عاليًا ليجد أعشاشه مضيئة كالنجوم، فهذا العش مقال، وذاك العش كتاب، وثالث أنشودة، ورابع موقع كتابة، وخامس مدونة صوتية، وسادس وسابع وثامن… إلخ.
وبين كل ذلك لا يزال يبحث عن ليلاه وهو مبتسم، يُتهم دينه بالإرهاب فيزأر، وتُستباح فلسطينه فيهمّ أن يثأر، ويتأخر حبه فبالعشق يجأر، رغم الابتسامة تلمح من عينيه شغفًا وحنينًا في المطلق، «حنينًا فيروزيًا» مغزاه: «عندي حنين ما بعرف لمين»، وسط كل دوائره ومعارفه وأصدقائه تشعر بوحدته، كأنه يسير في طريق لا آخر له لكنه يؤمن بأن له نهاية وسيبلغها مهما كلّفه ذلك، وهنا مقصد ثانٍ للصحوبية، أن تُرزق بصاحب تتيقن من سيره معك مهما كلّفه ذلك، سيكون إلى جوارك في فرحك وحزنك وضيقك وكربك، تجده في كل تفصيلة بحياتك، تثق أنه لن يخذلك أبدًا، تجده شغوفًا لقصة حبك مهما كثر منتقدوها، فرحًا لتكليلها بالزواج في آخر الأمر، تجده معك بعد إنجابك يساند ويبارك، في ضيقك يقرضك مالًا وروحًا، يسافر مئات الكيلومترات ليقف إلى جوارك في عزاء، ستأمنه على حياتك، وتثق فيه لدرجة أن تقول له: «لو جرالي حاجة مراتي وبنتي مسؤولين منك»، ليربت على كتفك بابتسامته المعهودة التي ترد عليك دون كلام.
«جدع بلا جاه»
حانت نهاية الفيلم، لكنها نهاية حزينة.
مشهد 3: أحمد المتذمر يجلس وحيدًا يتذكر صاحبه الغائب، يرن هاتفه ليرد على صديق يستفسر عن توقفه عن كتابة المقالات، فيرد بحزن: «أنا كنت بكتب المقالات علشان أحمد، كنت بستنى رأيه، دلوقتي مش عارف أكتب وهو مش موجود.. مش متخيل إني هكتب حاجة مش هيقرأها، وكمان هكتب عنه.. الموضوع صعب».
يُنهي أحمد المكالمة ليأتيه صوت محمد منير يغني:
جدع بلا جاه مرسى الهموم قلبه
دايمًا يقول الآه والذنب مش ذنبه
دانا لو شكيت وبكيت جبل الحديد حيدوب
الأولة غربتي والتانية المكتوب
بلدي قصاد عيني بحلم اعدي لها
يا مراكبي رسّيني ويا رب عدّلها
تذكّره كلمات منير بصاحبه المبتسم الجدع الذي لا ترسو الهموم إلا في قلبه، ليس كئيبًا لكنه بالتعبير الشعبي البليغ: «فرحته عزيزة»، ربما طغى انشغاله بمطاردة الأحلام على شعوره بالسعادة، ربما جعله الأمل البعيد ينشد الشجن نشدًا وإنشادًا، وعلى الرغم من ذلك فهو صديق يحب الضحك والإيفيه، ليس الصديق الذي يكمل لك «قفشات» الأفلام -ربما تحسّن في ذلك مؤخرًا- سيضحكك ويضحك معك كثيرًا، يحب «الإيفيهات» ولا يغضب أن يكون هو الإيفيه، يتذكر أحمد المتذمّر ضحكة صديقه المبتسم عندما قال له بعد إنجاب ابنته «ورد»: «بعد ما كنت أبو خليل بقيت أبو ورد.. لئيم انت برضه.. مسمّيتهاش وردة علشان متكونش «أبو وردة» ويبقى إيفيه شباشب».
كما يتذكر المتذمّر أن صاحبه المبتسم أجاب عن سؤاله: ليه سمّيت ابنك «يمان»؟
بقوله: علشان يتقال له: «بيس يا مان»!
قد يكون الإيفيه بسيطًا وبدائيًا، هو لا يتقن «الإيفيهات»، لكنه يجتهد، وإن كان اجتهاده من عينة: «حدايق حلوان.. حتدايقها ليه بس؟»، لكن «الجدعنة» مع الصاحب حتى في إلقاء الإيفيه هي المقصد الثالث لصحوبية أحمد، «الجدعنة» مع أصحابك فيما لا تجيده، يجاريك حتى لو لم يكن يدري كيف يصنع ذلك، يجد رباطًا بينكما يقوي «الصحوبية» وإن أجهده ذلك، يُبقي هذا الرباط قويًا بمواقفه العديدة المعبرة عن «جدعنته».
نعود لنهاية الحدوتة..
يتذكر أحمد المتذمر أن صديقه «جدع بلا جاه مرسى الهموم قلبه»، لا يحب المناصب والمسمّيات الوظيفية، يحب الإنجاز والعمل، يهتم حتى يُصاب بالهمّ، يهتم بأهله وأصحابه ويصيرون همّه وشغله الشاغل، يهتم بدينه وفلسطينه فيُصاب بالهمّ والحزن مع كل اعتداء أو تطاول عليهما، يهتم بمسؤولياته حتى يتحول أصغر نقص إلى همّ لا يزول إلا باكتماله، يحمل همومًا فوق هموم لا تزول، يئن لها جبل من حديد، يبحث عن «مراكبي» يعبر به ليرسو على شاطئ غزاه بهمته، ليس للراحة لكن للنظر إلى شاطئ آخر ليبدأ رحلة أخرى، وهكذا تتوالى الرحلات ولا يتوقف «الجدع» عن الاهتمام بأصحابه على الرغم من انشغاله، لا ينساهم في ضيقه وكربه، يعلو صوته وهمته لتتخطى الأسوار المحيطة به إلى حيث أصحابه؛ ليطمئنهم ويصبّرهم ويحمسهم، وهو في غيابة الجُب لا يُرى إلا في منامات قصيرة، كان آخرها ما أيقظ أحمد المتذمر من نومه ليكتب عن صديقه الغائب مقتبسًا قول «الرافعي» بتصرّف يسير؛ لأنه يعلم أن صاحبه يحب الرافعي وقلمه وكتاباته: «الصديق هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسست أن جزءًا منك ليس فيك، فسائرك يحن إليه… وإذا [غاب].. يومئذٍ لا تقول: إنه [غاب] لك [غائب]، بل [غاب] فيك [غائب]؛ ذلك هو الصديق»، ذلك هو أحمد أبو خليل.
وهنا يتزامن تتر نهاية الفيلم مع آخر صفحات الحدوتة التي يختمها راويها بقوله:
«واحشني يا صاحبي».