بدي أحكي قصة يا إخوان
مواويل الغربة والحنين بصوت أبي راتب تنسكب أبدا على موطن الجرح الأليم، فيها عذوبة الترياق، ولهيب يكوي الجرح بوهج نار الأسى منذ تفتّحت أحاسيسه على الحب.. ومنذ كان الحب، كانت بلاده ودعوته..
حلقات الأحبة ساعات عصاري أيام الجُمع بصحن المسجد القريب.. الهمس العذب بأذكار الصباح يردده الصوت الشجي.. الخطوات المتسللة في عتمة الليل والتفاتات الرأس واختلاسات العيون الراصدة لوقع أقدام المخبرين خلف الشباب الغض يحثّون الخطى إلى بيت صديق منزوٍ في نهاية الحارة القديمة سعيا للقاء الأسرة زاد الروح الأسبوعي..
وِرد الرابطة المختلط بالوجدان، يرسم بالصوت ظلال شفقٍ مشفقٍ كالجراح، كأنه منساب مع الكون أبدا لحظة مغيب الشمس وعودة الطيور إلى أوكارها حول العالم!!
لم يكن سوى حلم البسطاء برغيف طازج نظيف من أسباب الذل والهوان، مغموس في صحن بطعم حرية، رشفة من كوب شاي على مقهى المدينة حيث لكل الرواد نفس الحقوق موزّعة بالتساوي والعدل!
لم تكن ثمة جريمة، فالحلم بملاحقة لصوص الأوطان وعصابات الاتجار في البشر، وفضحهم، وكشف زيف باطلهم لم تكن جريمة ذات يوم، إلا في قوانين زعماء تلك العصابات!
لم تكن ثمة مغانم منذ كان القسم والعهد على العطاء المستديم، والإيثار المطلق، إنها حياة واحدة فهي لله خالصة له من دون الناس!
لسع الكهارب، الخِرقة العفنة التي أصابت العين بالعشى جراء إحكامها طوال الليالي المخيفة لتحقيقات لا تنتهي عن جرائم لم تقع إلا في أضغاث أحلام الفرعون.. سنوات السجن!!
صراخه المحفور في ضميري ينزع عني النوم إلا لماما،رغم مرور السنين: (حتى حلمنا في الخلاص من طغيانكم لم يتحول أبدا إلى خطوات إجرائية.. أموت الآن بين أيديكم ولا أملك ولو خطة في خيالي للخلاص)..
آخر كلماته المفهومة قبل أن يتحول الصوت إلى أنين مكتوم، فحشرجة، فخوار كخوار ثور مذبوح.. ثم.. ثم صمت كل شيء.. حتى جوارحنا كفّت عن الأنين!!
سنوات الهجرة، رغم خلاص البدن لم تُطلق أسر روح مرتهنة بحب وطن مجروح!
وهل يتوب المرء من الحلم المشروع؟!!
أخذني في جولة عبر التاريخ.. طوّف بي حول الواقع، كلمني عن تجربة بديع الزمان سعيد النورسي، مراجعات جاسم سلطان والنفيسي، وعن شهادة الترابي، وممارسة أردوغان، آخر ما توصل إليه الغنوشي ومورو، رأي الريسوني، استدراكات خالد مشعل، مذكرات القرضاوي، رؤى عمرو دراج وجمال حشمت، ومضات الزعفراني..
سهرنا ليالي طويلة متصلة نقرأ ونسمع ونناقش ونراجع.. تجشمنا طويلا عناء تدقيق المصطلحات، التمييز الدقيق بين بيعة الإسلام العامة، وبيعة خاصة على العمل، منطلقات العمل التطوعي والحسبة، بذل مجهودا مضنيا ليفرّق لي بوضوح بين العمل الإسلامي والعمل الإصلاحي، شرح لي تفاصيل كتابه «مصلحون لا إسلاميون» كلمة كلمة، مستعينا بالقرآن والسُنة ودروس التاريخ وتجارب الواقع.
هذا الكتاب تحديدا مشروع حياته، يصفه بأنه رحلة عمره وعصارة سنوات معجونة بالألم ومغموسة بالعمل، رغم هذا الإلحاد التام بالفكرة أصولها ومنابعها ومناهجها، لم أستطع تصنيفه في خانة المتساقطين، الرجل يعمل بدأب على شاكلته!!
أنافح عنه، وأدافع عن لقاءاتي الطويلة المتوالية معه أمام نظرات شك تصفني كمتساقط محتمل، لا أملك دليلا سوى ضمة حضنه التي تقسم لي أنه ما زال أخي!
شيء داخلي يرفض الاعتراف بالوهم.. لا يمكن أن أعترف أن حياتي كلها كانت وهما، تضحيات السابقين.. عذاباتنا وعذاباتهم.. دماء الشهداء.. أنتظر وداعه اليومي لي بعد صلاة الفجر، لأهرع إلى صوت أبي راتب أحتمي فيه وبه، أختبئ وراءه وهو يشدو:
تترآى لي الصور وتتداخل، كيف لي أن أصدق كل هذا وأكذّب رائحة الجنة التي شممتها بأنفي حين انكببت على الأرض أشم رائحة دماء الشهيد أمام المنصة في طريقي إلى ميدان رابعة قبل الفض.. دماء ابن أخي!!
أفاقتني رنات هاتفي.. أُخفض صوت أبي راتب.. يأتيني صوته مُروَعا يغالب بقايا بكائه:
-إخوانك طردوني من السكن يا أبي.. طردوا المطارد..
-أرسل لي أي نقود حالا.. السكن في السودان باهظ جدا..
-أبي، أبي.. هل تسمعني؟ أما زلت معي على الخط؟
هل أظلمت الدنيا في وجهي أكثر؟ هل ضاقت عليّ الأرض بما رحبت أكثر؟ هل ضاقت عليّ نفسي حتى كتمت أنفاسي؟!
أريد هواء..
ما زال صوت أبي راتب يترنم: