معتز الخطيب ومأزق المنهج (1)
في دفاعه عن كتاب «الدولة المستحيلة» وقع الدكتور معتز الخطيب أستاذ المنهجية والأخلاق في عثرات منهجية لا يمكن تجاوزها في فقه المنهج، أدت إلى تناقض تأسيسياته التي يعمل عليها، وذلك بغض النظر عن صوابية أقواله في الدولة المستحيلة، وحقانية مآخذه على الدولة الإسلامية التي ينشدها الإحيائيون والإصلاحيون.
لكن لماذا يجب أن نقف وقفة مع الخلل المنهجي الذي وقع فيه الخطيب في سلسلة مقالاته التي ما زالت مستمرة؟ لأنّ المُخْرجات والنتائج إذا بُنيت على منهجيات مختلّة ومقدمات باطلة، وقفْزٍ على الحقائق، فلا يمكن وقتئذ أن تؤدي إلى نتيجة محكمة، بل تؤدي غالبًا إلى تناقضات من نفس القلم، كما سنجد عند الخطيب. وسنحاول رصد أبرز الكليات المنهجية التي تغافل عنها أو وقع فيها الخطيب، دون الخوض في الجزئيات والفروع التي نختلف حولها.
تحديد المرتكزات
أولاً: لم يُحدد الخطيب الوعاء الذي ينطلق منه، أهو الوعاء الفقهي الأصولي، أم الوعاء الفكري، أم الوعاء الفلسفي؟! فالدولة عند كلّ فريق من هؤلاء لها مداخل وأبواب مختلفة. فعندما يتحدث الفارابي وابن سينا أو غيرهما من الفلاسفة في فلسفة الدولة يتبعون منهجًا لا شكّ مغايراً لمنهج الجوينيّ والماورديّ والفقهاء الأصوليين في فقه الدولة، فكلّ فريق ينطلق من منطلقات مغايرة للآخر. ويبدو أن الخطيب نهجَ منهج رواد الفلسفة السياسية المعاصرة، رغم أنّه يدعو للعودة بالدولة إلى صورتها القديمة، وكان من المفترض أن ينطلق من الوعاء الفقهي والأصولي. وهذا هو نفس المأخذ الذي أخذه الشنقيطي على الحلاق بقلة ذكره واستشهاده بكتب السياسة الشرعية التراثية المعتمدة مقابل استدلاله بكتب الفروع التي لا علاقة لها بفقه الدولة، ولعل الخطيب يتدارك هذا الثغر في مقالاته اللاحقة، ويحدد طبيعة الدولة التي ينشدها، وماهيتها ومهمتها، وأن يخرج من دائرة نقض ونقد أسس الخصوم التي أخذت سلسلة من المقالات.
ثانياً: استعمل الخطيب عبارات لا تنتمي للحقل العلمي والمنهجي تقفز على قناعات خصومه، من قبيل وصفهم «بالجهل، السطحية، قلة المعرفة». وهذا ما جعل الخطيب يبدو في مقالاته التأسيسية كأنّه يردّ على الشنقيطي أكثر مما يدافع ويُنظّر ويرسّخ لدولة الحلاق المستحيلة.
ثالثاً: تناقضات الخطيب مع نفسه، فتارة يذكر شيئا ثم يخالفه مما يجعل القارئ في حيرة. فتارة يقول بأنّ كتابات الإسلاميين «لم تخرج في بنيتها ومفاهيمها عن تصورات الخلافة والإمامة التي خطّها الفقهاء الذين سبقوا نشوء الدولة الحديثة مع تعديلات طفيفة جزئية لم تكن لتمسّ أصل التصور». ثم يناقض نفسه فيقول مدافعًا عن حلاق: «فحلاق وجّه نقداً جذرياً لأيدلوجية الدولة الإسلامية ولمشروع التلاؤم مع الحداثة، المشروع الذي لا يعي التناقش الجوهري الذي يعيشه، وذلك لاختلاف البنى الدستورية لكلّ من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي». مع أنه قبل قليل أكد أنّ الإسلاميين لم يخرجوا عن نطاقات الدولة التقليدية وفقط قاموا بتغيير المصطلحات، ففقط بدلوا لفظ الخليفة بلفظ الرئيس ومصطلح أهل الحل والعقد بالبرلمان وهكذا. وكذلك بعدما يؤكد أنهم لم يأتوا بجديد يقرر بأنّ الدولة عندهم غامضة! فكيف تكون غامضة، وهو يؤكد أنهم على نفس النهج التقليدي القديم؟! ثمّ كيف تكون غامضة وهم أيضاً يمارسون المنهج الدمجي والتوليفي مع الدولة الحديثة؟! فسواء كانوا حداثيين أو تقليديين فكيف تكون دولتهم غامضة؟! وقول الخطيب بأنّ الإسلاميين لم يخرجوا في تصوراتهم عن الخلافة والإمامة يحتّم عليه إقراره بصوابية خيارهم نظراً لأنه يرى أنّ النموذج التقليدي القديم مثاليّ لا غبار عليه! فلماذا إذن يهاجم الإسلاميين الجدد وهم على نفس الدرب التقليدي؟!
ويبدو أنّ فكرة الخطيب جاءت من عبارة ساقها لرضوان السيد عندما قال بأنّه لم يتحدث أحدٌ من الإسلاميين في الخمسينيات والستينيات عن تنظيمات الدولة أو دستورها وقانونها! ومع أنّ الخطيب هو أستاذ المنهجية؛ فقد عوّل على ما قاله رضوان دون استقراء، والقاعدة تقول: عدم العلم ليس علماً بالعدم. فأين الغزالي وضياء الريس وحامد ربيع ومدرسته، ثمّ شمس الدين وسروش والشبستري وملكيان وكديفر، على اختلاف الوعاءات والمنطلقات التي انطلقوا منها؟! فمحمد الغزالي على سبيل المثال تكلّم في الدستور والقانون، ونظام الدولة فكيف يتمّ إغفاله وهو مجدد الفقه الدستوري بلا منازع في العصر الحديث؟! وهل يستقيم حصر الإسلاميين في كتابات البنا وعودة وقطب فقط؟! هل هذا إنصاف معارفي ومنهجي؟! وهذا ما فعله الحلاق عندما تجاوز وقفز على أو تجاهل جل فقهاء السياسة الشرعية في العصر الحديث، ولو افترضنا أنّ الإسلاميين لم يتحدثوا عن دستور الدولة وقانونها ونظامها فذلك لأنهم لم يغيروا من المفاهيم القديمة شيئاً ويعتنقوا ذات الأطروحات التقليدية كما رأى الخطيب في عبارته، فما وجه الإشكال إذن؟! يتأتي الإشكال فقط عند التسليم بأنّ الإسلاميين خرجوا عن التقليدية ومأسسوا لحالة جديدة ونموذج عصري جديد، وتبنوا المنهج الدمجي التوليفي بين النموذج الحداثي والإسلام.
الظاهرة الروائية والتاريخية
رابعاً: عدم تفرقته بين الظاهرة الروائية والتاريخية: فيذكر الخطيب مسائل مختلفًا عليها على أنها مسلّمات وبدهيات ثمّ ينطلق منها ليقرر أحكاماً في منتهى الخطورة. فهو يذكر أنّ الحلاق لجأ إلى فكرة النماذج لا البحث في المفاهيم المجردة للدولة أو الحكم. ويقول -تبعًا لحلاق- بأنّ «الحكم الإسلامي في هذه النماذج – شريعة ما قبل العصر الحديث – هو في الجوهر قانون أخلاقي متعارف عليه ومتفاعل مع الأعراف المحلية حتى غدا القوة العليا قانونياً وأخلاقياً وقبلته المجتمعات والسلالات تاريخياً كنظام مركزي فيما قبل الاستعمار». (دفاعا عن استحالة الدولة الإسلامية 1). فهو يذكر هنا أن القانون الأخلاقي متعارف عليه وكأنه بدهي من البدهيات، وأن المجتمعات قبلته بسلاسة بسبب كونه متعارفًا عليه. مع أنّ المجتمعات لم تقبله بسلاسة وأنّ الواقع التاريخي ليس بهذا النقاء، بل كانت هناك الحروب، والمعارك، ومن ثمّ لجأ الفقهاء إلى تبويبات فقهية تتناول أحكام البغي والبغاة الذين هم سلالات من المسلمين، وتناول علماء الكلام فرق الخوارج والمعتزلة، ولمح المؤرخون إلى الفتن، وأنه ما كان هناك تداول سلمي للسلطة، ولا تعددية سياسية، بل كانت الدولة لا تسقط إلا بفئة أشد وطأة منها، وهؤلاء الخارجون عن الدولة اسمهم مارقون بغاة، فإذا ما استتبت لهم الأمور صاروا هم الحكام أصحاب الشرعية! مما يدلل على أنّ التاريخ منقوص عند الخطيب، ففقط بالرجوع إلى النماذج القديمة تنحلّ المشكلة دون وضع تلك النماذج على المحك التطبيقي، وبكل بساطة فإنّ من يريدون تعلم الدرس من عثرات تلك النماذج ومواطن ضعفها سائرون على درب تشكيكات المستشرقين في نظر الخطيب!
ومع افتراضية التسليم بكلام الحلاق عن النموذج الأخلاقي المتعارف عليه وكلامه عن مقبولية ذلك النموذج عند كافة المؤمنين، بل وليس ذلك فحسب، بل إنّ الخليفة أو الإمام كان تحت القانون وتحت المؤسسات: «ظل الحاكم كبقية رعايا الشريعة العاديين عُرضة لأي دعوى مدنية.. وبالمثل كان يمكن عقابه على أي انتهاك لقانون العقوبات الشرعي والحدود القرآنية (ولم يذكر لنا مثالاً واحداً)» (الدولة المستحيلة، 140). لكن الخطيب يخالفُ أستاذه الحلاق ويرى عدم مثالية الحكم القديم -بالرغم من أنه ارتأى مثاليته من قبل-، ويرى أنّ صفات الحاكم التي اشترطها الفقهاء لم تتحقق عبر التاريخ في الغالب!. ومن ثمّ قدموا اجتهاداً للواقع العملي فيمن عَري عن هذه الأوصاف فشرعنوا ولاية العهد، وإمامة المتغلب، وإمامة الفاسق، بل حتى في الكفر اشترطوا أن يكون كفرًا بواحاً حتى يُخلع الإمام إن كان ذلك ممكناً!. (هل الدولة الإسلامية مطلب ديني 2). وهذا الكلام يناقض كليا كلام الحلاق القائل بأن الحاكم ظل كبقية رعايا الشعب العاديين عُرضة لأيّ دعوى مدنية! «فالحاكم إلهًا» لا يُسأل عما يفعل عند الخطيب، وانحصرت مهمة الفقهاء على شرعنة وجود هذا النوع من الحكام، وهو بشر عند الحلاق أفضل من حكام اليوم وكانت تحت طائلة القانون ويخضع للمؤسسات! ولا أدري من نُصدّق: الخطيب أم الحلاق؟! وهل هذه المسألة التي تدخل ضمن الظواهر التاريخية يُعتمد فيها منهجيًا قول الخطيب أو الحلاق أو غيرهما؟! أم أنّها من مسائل الواقع التي لا يمكن الاجتهاد فيها، فهي أحداث ماضوية إمّا حصلت وإمّا لم تحصل ففيم التفلسف هنا والاختلاف؟! ومن ثمّ تتجلى التفكيكية والتجريدية في فهم الوقائع! أو ربما الأحكام المسبقة التي تقتضي ليّ عنق الظواهر التاريخية!
وهنا نقاط لابد منها في التعقيب على عبارات الخطيب السابقة لأنها جِدّ خطيرة وتنبئ عن قراءة منقوصة للتاريخ وما هو كان واقعاً في نفس الأمر؛ فلقد استبعد منهجية الظاهرة التاريخية من حسبانه أو تجاهلها.
– فقوله بأنّ الفقهاء شرعنوا ولاية المتغلب وولاية العهد: ففارق بين الشرعية والمشروعية، فقد لا يتصف الحاكم بالشرعية لكن يتمّ الخضوع له والطاعة من باب المشروعية. ثمّ إن كلام الفقهاء ليس بهذا الاتفاق الذي توحيه العبارة السلسة والبدهية، فالخلاف مشهور بينهم حول عزل الفاسق، وإمامة المتغلب. ثمّ إن الفقهاء حتى ولو على فرض إجماعهم فالسياسة كلها منوطة بالمصالح والمستحسنات وليس بالقطعيات والضروريات، وهو ما نقله الخطيب نفسه عن الجويني، وهو ما جعل الجوينيّ يتنازل عن شرط القرشية، وهو ما جعل الفقه السياسي ديناميكيًا ومتحركاً، فلماذا إذن الوصاية على الإحيائيين والإصلاحيين بلغة الجزم والقطع، مع أنّ أفعالهم نابعة من منطلقات اجتهادية ظنية لم تتعارض مع قطعيّ أو ثابت.
– الواقع كذلك أنّ الفقهاء لم يتفقوا ولم يحدث إجماع منهم على شرعنة ما ذكره الخطيب، بل إنّ الواقع التاريخي والروائي ينقل غير ذلك، فكيف تجاهل الخطيب كل الثورات التي قام بها الفقهاء؟! وكيف يُكيّف انعزال الإمام مالك عن السلطة السياسية لأنه لم ير مشروعيتها ولا شرعيتها، وكيف يكيف مشاركة فقهاء المدينة في ثورة النفس الزكية، وابن الأشعث، وتزعّم بعضهم للثورات في مراحل مختلفة من التاريخ كالقاضي عياض، وغيره. بل إنّ الجويني نفسه لمح لنظام الملك بخلع الخليفة العباسي كي يحلّ محلّه! فأين تلك الشرعنة المزعومة؟! ذلك لأن الخطيب قرأ فقط في كتب السياسة الشرعية ولم يستصحب الواقع العملي والتطبيقي لفقهاء الأمة على مرّ التاريخ. أقل ما يمكن الخروج به أنّ المسألة لم تكن بهذه السلاسة والبدهية التي يريد الخطيب أن يقنع جمهوره بها.
– مقتضى كلام الخطيب يتفق مع المنهج المدخلي والبرهامي المعاصر، عندما يُتجاهل التاريخ بوقائعه برماله المتحركة، بفقه الفتن والثورات لصالح عبارات إنشائية جميلة من قبيل أن الخلافة كانت جميلة ومتفقة مع حقوق الإنسان والمعايير المثالية، وهذا في ذاته تأثر بالعنصر الحداثي، والعلماني، ومجرد رد فعل على السرديات الاستشراقية. فما من دولة قامت إلا على أنقاض أخرى، وما من خليفة من نفس الدولة تملّك إلا بالقوة والعصبية وكبح نفوذ مخالفيه بالقتل والتشريد! هذا واقع تاريخي وروائي لا يمكن تجاوزه بعبارة أو عبارات بل يجب الوقوف عنده وتحليله وتكييف مواضعه إن أراد تجازه أو أراد إقناع جماهيره!
– مهمّة الفقهاء في نظر الخطيب أنهم «لم ينشغلوا بتغيير الوضع القائم ولم يكن ذلك من وظائفهم الدينية»، ومن ثمّ فالثورة على بشار الأسد ومهمة مخالفته ومعارضته هو وأقرانه ليست من صميم وظائف الفقيه، ولا أدري لماذا إذن لم يقم الخطيب بشرعنة حكم آل الأسد في سوريا، ولماذا لم يحكم بكونهم متغلبين؟! على الأقل قد يسهم في تقليل بحور الدماء؟ ولماذا يعارض الخطيب موقف الشيخ البوطي وهو المتفق كل الاتفاق مع منهج فقهاء الأمّة السابقين برأيّ الخطيب!!
وفي مفارقة عجيبة فمقتضى كلام الخطيب كذلك أنّه لا يخالف المنهج الدمجي والتوليفي للإصلاحيين والإحيائيين فهو كفقيه ما عليه إلا أن يشرعن حكمهم في البقعة التي يحكمون فيها. فإذا التمس الفقهاء العذر للمغتصب والمتغلب والفاسق والكافر بغير البواح فلماذا لا يلتمسون العذر للإصلاحيين والإحيائيين الذين يريدون أن يكون الحكم للقانون لا للحاكم، وللدولة لا للسلطة، وللمؤسسات لا للأفراد؟! فإذا جاز الأول جاز الثاني، ومن ثمّ تعود المسألة إلى مبناها الظنّي والمتغير والديناميكي، فلا حاجة إذن للجزم والقطع، الذي يستخدمه الخطيب في لغته.
– دائما ما يُعول الخطيب على الأشخاص، وكأّنهم حجة لا يمكن الخروج على أقوالهم، فتجده يعضّد كلامه دوماً بأقوال رضوان السيد وحلاق وطه عبد الرحمن. ويتعجب من عدم اقتناع خصومه بهم. وبغض النظر عن منهج هؤلاء وصوابيته فكلهم أعلام كبار، لكن في المقابل فكلامهم ليس بحجة ملزمة، وهو مجرد طرح علمي فلسفي قابل للأخذ والرد شأنهم شأن الفريق الآخر الذي يتضمّن مجموعة كبيرة أيضاً من الفقهاء والعلماء والمفكرين. والذي يعنينا هو المرتكز المنهجي – أصوليًا «نسبة لأصول الفقه» ومنطقيًا – لا يمكن الجزم بصوابية أطروحات هؤلاء دون غيرهم، أو أنهم فهموا فقه الدولة وفلسفتها أكثر من أمثال عمارة والعوا مثلا، فالتناطح بين العلماء وضرب أقوالهم ببعض ليس من المنهج. وكل تلك الفقاعات حول كتاب الحلاق هي من ذلك القبيل، فما المشكلة في أن الحلاق يرى الدولة أو لا يراها، ففي كلتا الحالتين ليس الأول وليس الأخير! وستظل الردود والمماحكات بين الفريقين ليوم الدين، ما لم يفرض أحدهما واقعاً على الأرض.
– الأمر الأخير والمهمّ: أنّ كلام الخطيب عن الحاكم والدولة والسلطة والمتغلب، وولي العهد، ولا مكانة عنده للمؤسسات، ولا لمقبولية المؤمنين، ولا للانتخابات التي يعدّها ضرباً من الدولة الحديثة، وهذا خطابٌ يُشبه تماما الخطاب السلفي – وربما خطاب تنظيم الدولة – في فهم عناصر الدولة، وماهية الحكم. رغم أنه يقرر أنّها قائمة على المقاصد والمصالح إلا أنّه لا يقبل أبدًا أن تستفيد توليفًا ودمجاً، من الحداثة المعاصرة/ وهذا وضْعٌ للظنّ في موضع القطع!
الحاصل هنا: أن الخطيب لم يجمع بين المنهج الواقعي والمثالي، ولم يجمع بين الظاهرة الروائية والظاهرة التاريخية، بل كان انتقائيًا في خياراته، فتارة يدعو للرجوع إلى النموذج التقليدي بصفته نموذجاً أخلاقيًا مركزياً، تبعًا للحلاق، وتارة يقول بأنّ النموذج التقليدي كان عبارة عن «إمامة متغلب، وولاية العهد، وإمامة الفاسق» ولا ندري أين النموذج الأخلاقي في حكمٍ كهذا؟! وأين المفخرة التي يدعونا لاعتناقها في هذا النموذج؟! وتارة يدعو الخطيب للاجتهاد من أجل بلورة نموذج جديد، وتارة يدعو إلى الرجوع للخلف لتبني النموذج القديم في سلفية ظاهرية تجاوزها الزمن؟! وتارة يعترف بوجوب إقامة الدولة مع عدم ركنيتها، (بغض النظر عن الوجوب الشرعي أو العقلاني)، وتارة يلمح إلى أنّ إقامتها ليست مطلباً دينياً، ثمّ لا يبين لنا كيف يتمّ تطبيق القانون وتنفيذ الحدود والقصاص، في ظلّ غياب الدولة؟! إلا إذا كانت إقامة القوانين الإسلامية لا تعنيه تبعًا لعلي عبد الرازق الذي لم نفهمه جيدًا كما يرى الخطيب؟!
الخلفية المسيحية
عندما يتكلّم الشيعي عن الحكم الإسلامي فتكتنفه رؤية خاصّة، بحكم ذاكرته التراكمية، وبيئته الشيعية، حتى مع استعماله المنهج العلمي، والعلماني عندما يتكلم أيضًا في الحكم الإسلامي –أو أي مسألة- يكيف المخرجات من حيث لا يدري وفق ميراثه الثقافي ومخزونه الأيدلوجي. وعندما يتكلم الشنقيطي عن خلفية الحلاق المسيحية ربما ينطلق من هذا الجانب، فلا يمكن إغفال تنشئة الكاتب، وعمله، وبيئته، ومخزونه، وذاكرته وعقله، وكلّ المؤثرات من حوله، كما لا يمكن أن نغفل اشتعال معركة من اللا معركة، قد تمّ النفخ فيها بين الخطيب والشنقيطي بسبب عوامل قريبة مما نتكلم فيه.
لكن الخطيب اعتبر هذه مثلبة عند الشنقيطي لا يمكن تجاوزها، مستعملاً ومقترباً جدًا من المدرسة التفكيكية التي هي مقابل للمدرسة العرفانية. مع أنّ الخطيب هو أستاذ الأخلاق والعرفان، ويدرك أنه لا يمكن فهم الوحي إلا بالعقل والقلب، بالفقه والوجدان، فالتنظير المحض ممن لم يتذوق بالقلب، ويدرك بالوجدان لا يمكن أن يؤدي إلى مخرجات سليمة. والمنهج التفكيكي أثبت فشله بالتجربة في ميادين كثيرة فلا حاجة هنا لتتبعها.
الأمر الأخير الذي يُعدّ من الطرائف: أنّ الفاضل معتز الخطيب يقرّ بأنّ الحلاق يرجع عن أقواله كلّ فترة، ويقول بأنه لا ضير أن يجدد الرجل فكره وقناعاته كلّ خمس سنوات، أي أنّنا ربما نجد الخطيب نفسه بعد خمس سنوات يعتنق ذات الرأي الذي يهاجمه اليوم، كما فعل الحلاق من قبل! فلماذا إذن الزجّ بالمناهج وليّ عنق النصوص والروايات والتاريخ، وحشد الأتباع – من الفريقين – في معركة ربما تتغير تبعاتها ومفاصلها بعد سنوات، ليتم وقتها حشد نفس الأتباع، وليّ عنق نفس النصوص ليستدل على الرأي المخالف..! فهذا ليس منهجاً وليس علماً.