«مصطفى أمين»: استعادة الروائي الكلاسيكي المتميز
يبدو أن للحياة الأدبية والثقافية في مصر حساباتها الخاصة، فهي ترفع بعض الأسماء وتبرزهم في مجالٍ من المجالات، بينما تضع آخرين وتغض الطرف عنهم وعن جوانب هامة من إسهاماتهم في الحياة، يحدث ذلك كثيرًا لا سيما مع الكتّاب الذين ذاع صيتهم في مجالٍ من المجالات، فترى الناس لا يعرفون عن ذلك الكاتب إلا ما اشتهر به، فروائي غزير الإنتاج مثل «إحسان عبد القدوس» ذاع صيته، واستطاع أن يمتلك قلوب ووجدان الكثير من القراء لما له من إنتاج أدبي غزير، وربما لحسن حظه حيث تحول عدد من رواياته إلى أفلام سينمائية بل ومسلسلات تليفزيونية هامة، في حين يندر أن نجد من يعرف أديبًا وصحفيًا بارزًا مثل «فتحي غانم» رغم ما له من إسهامٍ في الحياة الثقافية والأدبية بشكلٍ كبير
اقرأ أيضًا:فتحي غانم .. الروائي الثري متعدد الأوجه
لا شك أن اسم «مصطفى أمين» يُعد علمًا بارزًا في مجال الصحافة، لا سيما أنه قد أسس بالتعاون مع أخيه «علي أمين» أهم مؤسسة صحفية في مصر هي «مؤسسة أخبار اليوم» التي أنشأها عام 1944 بإيعاز من أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ولكن ربما يجهل الكثيرون إسهامه الهام في الكتابة الأدبية الروائية على سبيل التحديد.
وحسنًا فعلت دار «نهضة مصر» حينما قررت استعادة نشر عدد من روايات الأديب والروائي الكبير، لتعريف الأجيال الجديدة بإنتاجه الأدبي من جهة، ولاستعادة التعريف بقيمته وإنتاجه الأدبي الهام من جهةٍ أخرى، إذ تخرج بها أخيرًا إلى النور في الوقت الذي تزدحم فيه المكتبات ودور النشر بكثيرٍ من الإصدارات الحديثة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس رغم أنها ليست أكثر من فقاعات سرعان ما يختفي أثرها.
والمطلع على سيرة «مصطفى أمين» وحياته يدرك على الفور أن هذا الرجل كان الأدب والكتابة الأدبية والروائية قدره، كما كانت السياسة والصحافة قدره كذلك، فهو ربيب أسرة الزعيم الكبير «سعد زغلول» من جهة، وهو صاحب تلك المؤسسة الكبرى فيما بعد، والتي عرّفته على نماذج بشرية كثيرة ومختلفة، وجعلته قادرًا على التعبير عن الكثير من الطبقات الاجتماعية المصرية في ذلك الوقت، إلى الحد الذي جعل بعض رواياته بمثابة المرجع للتاريخ الاجتماعي والسياسي للفترة الزمنية التي دارت أحداثها فيه.
في كتابه «مسائل شخصية» يتحدث مصطفى أمين عن نفسه فيقول:
«مصطفى أمين» الأديب
كتب «مصطفى أمين» عددًا من الروايات الهامة، التي امتازت كلها بحجمها الكبير، وشخصياتها الثرية وقضاياها المتشابكة والمعقدة. ربما يذكر الكثيرون له رواية «سنة أولى حب»، تلك الرواية التي يصح أن نطلق عليها أنها صالحة لكل زمان ومكان كشأن الأدب الإنساني كله عادةً، فهي روايةٌ تحكي قصة حب أيام الثلاثينات، ولكنها غير متكافئة الأطراف بين محمد الشاب الفقير، ونجوى سيدة المجتمع ابنة عائلة المانسترلي، وفي التفاصيل نرى صورة كاملة للمجتمع المصري في تلك الحقبة الزمنية شديدة الخصوصية.
كذلك كانت روايته «لا» من الروايات الشهيرة، لا سيما لمحتواها السياسي الهام، حيث تتناول قصة «عبد المتعال محجوب» الذي كان رفيقه في السجن وتعلق به، وحكايته التي تشبه كثيرًا حكايات كل المعذبين والمقهورين في سجون الأنظمة العربية على اختلافها، وعلى الرغم من أن الرواية تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني عام 1994 بطولة «يحيى الفخراني» ومن إخراج «يحيى العلمي» إلا أنها لم تحظَ بانتشارٍ كبير.
ولا شك أن حياة الصحافة وعلاقتها بالسياسة وما تحويه من كواليس ودهاليز خاصة جدًا تدفع كل كاتبٍ إلى الكتابة حولها، كما فعل «فتحي غانم» في روايته «زينب والعرش»، وكما نجد عند مصطفى أمين في رواية «الآنسة هيام» التي تدور أحداثها عن العلاقة التي تربط أحد كبار الصحفيين بممثلة مصر الأولى «هيام» وما يدور في كواليس تلك العلاقة من أحداث وما دار في أثنائها من أحداث في مصر أيام الثلاثينات وما دار فيها، وكيف كانت العلاقة بين الرجل والمرأة في ذلك الوقت، وكيف أثّرت عليهم الأحداث السياسية.
كما يعود إلى مصر في أيام الملكية، ليكشف عن طبيعة المجتمع المصري في ذلك الوقت، بشكلٍ بالغ الجمال والتفاصيل الدقيقة في روايته «الآنسة كاف» حيث حكاية المهندس وزير النساء «عادل علاء الدين» وأخبار غرامياته في أوساط مصر الراقية، وكيف تتغير حياته بعد تورطه في علاقة عاطفية مع الأميرة «فضيلة» ثم تنقلب حياته بسبب تعلقه «بقسمت شاهين» الفتاة الدميمة البسيطة، التي تتغير من أجله وتتحول بعد ذلك إلى «الآنسة كاف».
وكشأن كل مبدعٍ أصيل، يرى شعاع النور مهما كان الظلام محدقًا به، نراه في كتابه ذائع الصيت أيضًا «سنة أولى سجن» متحدثًا عن ذكرياته الخاصة في السجن أيام عبد الناصر، ولكنه مؤمن أيضًا في الوقت نفسه بقدر الشعب على الخروج من هذا النفق المظلم، وقدرته على صنع التغيير!
يغلب على كتابة «مصطفى أمين» بشكلٍ عام الأسلوب البسيط والسلس في رواياته، ذلك الأسلوب الذي يجذب القارئ إلى عالمه وعالم أبطال حكاياته، مهما بعدت المسافة بينهم زمنيًا أو اجتماعيًا، ذلك أنه قادر في كل رواية على الغوص في نفسيات أبطاله والتعبير عنهم بكل صدقٍ وشفافية، وربما ذلك ما جعل رواياته كبيرة الحجم نسبيًا، وإن كانت في الوقت نفسه شديدة التشويق.
مصطفى أمين في مرآة القراء
وكشأن الكثير من كلاسيكيات الأدب الحديث يبقى أثرها مهما تقادم عليها الزمن، والجميل أننا رغم بعد الزمان والمكان عن مصطفى أمين نجد له قراءً لرواياته وأعماله الأدبية في كل الوطن العربي، قرأوا رواياته وأعجبوا بتفاصيلها الشيقة، فهذه الصديقة «ريم الخلف» من الكويت تكتب عن روايته «سنة أول حب» على موقع «جود ريدز» فتقول:
ومن اليمن تكتب الروائية «شذا الخطيب» عن روايته الشهيرة «لا» فتقول:
على هذا النحو سيكون من حسن حظ القارئ اليوم أن يستعيد اكتشاف قيمة أدبية وثقافية كبرى مثل «مصطفى أمين» من خلال الطبعات الحديثة لرواياته تلك التي تعزم دار «نهضة مصر» على إصدارها تزامنًا مع معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام، ولا شك أنه سيجد في هذه الروايات قيمة أدبية كبرى، وانعكاسًا صادقًا واقعيًا لحال وطبيعة المجتمع المصري في تلك الفترة.