المسلمون وعلم الحرارة: أوروبا المتأخرة 900 سنة
الحرارة هي من أهم موضوعات العلوم لارتباطها بأصل الحياة؛ فلا يمكن للحياة على كوكب الأرض أن تستمر دون حرارة ملائمة. وللحضارة العربية الإسلامية إسهام في دراسة هذا الموضوع، إلا أن علم الحرارة لم يحظَ بالاهتمام الكافي في الكتابات المتعلقة بتاريح العلوم في الحضارة الإسلامية، أو على الأقل لم يُتناول كما تم تناول مجالات أخرى مثل الرياضيات والكيمياء والطب.
وفي كتابه «تاريخ علم الحرارة. مراحل تطور مفاهيم الحرارة وتطبيقاتها وإسهامات العلماء العرب والمسلمين فيها» يؤكد الباحث سائر بصمة جي أن البحث في تاريخ علم الحرارة لم يُدرس كما ينبغي ليس فقط من جانب الكُتَّاب والباحثين العرب المعاصرين، بل أيضاً قد أهملت الدراسات الاستشراقية المعنية بتاريخ العلم عند العرب هذا الموضوع.
حرارة جوية وحرارة لغوية
يوضح بصمة جي أنه «اجتمع أمران في بلاد العرب؛ الحرارة الشديدة، والثراء اللغوي الهائل؛ لذلك لن نستغرب أن تأتي ألفاظهم المتعلقة بالحرارة غنية غنى لم نجده لدى أية أمة سابقة أو لاحقة؛ إذ يزخر قاموس مفردات الإنسان العربي بالكلمات التي ترتبط بالحرارة سواء من ناحية درجاتها، أو أنواعها أو تغيرها مع الزمان والمكان». فإذا نظرنا في المعجم الوسيط تحت مادة «حرر» فسنجد أن «حرارة: اسم فاعل من حرَّ، والجمع حُرُورٌ … وتأتي الحرارة بمعنى السخونة، وإذا أُضيف حرف الجر (بحرارة) فإنها تعني: بعاطفة مُلتهبة وحماسة، وإذا أضيفت كلمة حرارة إلى كلمة الشباب أصبحت تعني فورته واندفاعه، وحرَّ الرجل: عطش وشعر بالحرارة، وحرَّت كبده: يبست من عطش أو حزن. وحرَّ النهار: اشتدَّ حرُّه، سَخُن، وارتفعت درجة حرارته، وحرَّ الماءَ: سخَّنه، وحرَّ القتالُ: اشتد، وحَرَّ الماءَ: سخَّنه، وحرَّ القتالُ: اشتد».
البداية عند جابر بن حيان
بدأت دراسة الحرارة دراسة علمية في الحضارة العربية الإسلامية من أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وبالتحديد في زمان جابر بن حيان (ت. 200هـ/815م) أقدم من تكلَّم عن الحرارة في الحضارة العربية الإسلامية: «وأما حد الحرارة في التدبير أن يُبلغ بها أن تصير جسماً شفافاً له بريق أحمر شديد الحمرة صافياً غير كمد فهذا حد الحرارة».
كما نقرأ في مختارات من رسائل جابر بن حيان التي نشرها بول كراوس (ص 474). وفي كتاب الحدود الذي تتضمنه تلك الرسائل (ص 104) أيضاً نجد أن جابراً قد وضع تعريفاً لعلم الحرارة: «وحدُّ علم الحرارة هو العلم بجوهرها وأثرها وما تأثَّرت منه إذا كان علماً بها على التفصيل، فأما إذا كان علماً بها على الجملة فهو العلم بأثرها الخاص بها». ووضع تعريف لعلم الحرارة، وفقاً لبصمة جي، يعني معرفة حدود واضحة لهذا العلم وقواعده والمساحة المعرفية التي يتحرك فيها. فتعريف جابر بن حيان لعلم الحرارة يمثِّل «خروجاً واضحاً عن الفكر اليوناني، والبدء بالتحضير لمرحلة تأسيسية جديدة سيبني عليها جابر تعريفه لعلم الحرارة».
يضيف بصمة جي: أنَّ إخوان الصفا هم من تأثر بتعريف جابر في القرن الرابع الهجري. أما باقي علماء الحضارة العربية الإسلامية منهم من تأثر في تعريفه لعلم الحرارة بأرسطو مثل الكندي (ت. 428هـ/1274م) وابن سينا (ت. 428/1036م) وغيرهما، وبعضهم حاول شرح ظاهرة الحرارة بأسلوبه الخاص بعيداً عن أرسطو مثل الفارابي (ت. 339ه/950م) وابن رشد (ت. 595ه/1198م).
إخوان الصفا يشرحون انتقال الحرارة
تنتقل الحرارة وتنتشر من خلال طرق ثلاث: إما بالتوصيل بأن يتعرض للحرارة أحد أطراف جسم موصِّل للحرارة فتنتقل الحرارة إلى الطرف الآخر. وتنتقل الحرارة أيضاً بالحَمْل الحراري، وذلك يحدث عندما تنتقل الحرارة من خلال تحريك جزيئات الشيء السائل أو المائع مثل انتقال الحرارة عبر الهواء من مكان حار إلى مكان بارد، ومثل ما يحدث عند غليان الماء وينتقل الجزء الساخن من الماء إلى أعلى لقلة كثافته ويهبط الجزء البارد إلى أسفل لارتفاع كثافته. أما الطريقة الثالثة التي تنتقل بها فهي الانتقال بالإشعاع، ومثال ذلك انتقال الحرارة من أشعة الشمس أو من المِدْفأة وهذا الانتقال الحراري مختلف عن الانتقال بالتوصيل أو بالحَمْل كما أوضحنا سابقاً.
درس علماء الحرارة المسلمون وفي مقدمتهم إخوان الصفا ظاهرة التوصيل الحراري كما نفهم من رسائلهم عندما يتحدثون عن الجسم «إذا لاقاه جسم آخر، فلا يخلو أن يكون ذلك الجسم أشد حرارةً من البدن أو أشد برودةً منه، أو مساوياً له في ذلك؛ فإنَّ عند ملاقاته إياه، وإن كان أبرد منه، زاد برودةً ما كان أشد حرارةً منه، زاد سخونةً … وإن كان ذلك مساوياً لمزج البدن في الحرارة والبرودة جميعاً، فلا يُغيِّر منه شيئاً»[1]
وأوضح إخوان الصفا في رسائلهم أيضاً انتقال الحرارة عن طريق الحَمْل الحراري: «وأما الحرارة في بعض الأجسام فهي من أجل غليان أجزاء الهيولى (أي مادة الشيء) وفورانها بالحركة الخفيفة. وأما البرودة في بعضها فهي من أجل سكون تلك الأجزاء أو جمود ذلك الغليان».[2]
تناول العلماء المسلمون انتقال الحرارة بالأشعة الناجمة من مصادر مختلفة، فمنهم من ركَّز على الأشعة الحرارية الصادرة من النار، ومنهم من اهتم بالأشعة الحرارية الآتية من الشمس وأثرها في الأوساط التي تنفذ فيها. تناول إخوان الصفا الأشعة الحرارية الشمسية:
«الشمس إذا طلعت بالمشرق أضاء الهواء من المشرق إلى المغرب دفعة واحدة، فإذا غابت بالمغرب أظلم الهواء دفعة واحدة، فالحرارة إذا بدت تدب أولاً فأولاً يُحمى الجو بزمان، وكذلك إذا طلعت الشمس يُحمى الجو أولاً فأولاً بزمان، وكذلك إذا غابت الشمس برد الهواء أولًا فأولاً بزمان».[3]
جابر بن حيان سبَقَ هرشل وريتر
يقول بصمة جي إنَّ جابر بن حيان قد ربط بين «لون الأشعة الحرارية المتولدة والمادة الصادرة عنها». وفي ذلك يقول جابر: «فأما الحرارة فإن لونها إنما يتبيَّن لك كلون الجوهر. واعلم أنَّ الذي ذكرناه من لون الجوهر ليس هو لونًا له، وإنما هو المتولِّد بينه وبين الشمس، وليس في إمكان أحد المخلوقين إظهار الجوهر بغير ما أوريتك إيَّاه، فأما لون الحرارة فهي الحمرة الصافية، وهي التي تظهر في أعالي النار كأحمر الألوان، فتلك حرارة بلا رطوبة ولا يبوسة، بل الجوهر فقط. وليس يمكن أحداً أكثر من هذا».[4]
ويعلِّق بصمة جي على كلام جابر بن حيان: «ولعلنا نجد من كلام جابر هذا – ربما لأول مرة – الربط بين الإشعاع الحراري والطرف الأحمر منه فقط، فهذه الحقيقة لم يتم الكشف عنها إلا في القرن ١٩م، على يد الفلكي «وليم هرشل – W. Herschel» والفيزيائي الألماني «يوهان فيلهلم ريتر – J. W. Ritter» (1776-1810م)؛ أي بعد ألف سنة من تقدم علم الحرارة وأدوات قياسه».
الكندي والمسعودي يتحدثان عن تغير حالات المادة بفعل الحرارة
تؤثر الحرارة على المادة بشكل من ثلاثة: تغيير حالة المادة من صلب إلى منصهر أو من سائل إلى غاز … إلخ، أو رفع حرارة جسم محدد عند تعرضه للحرارة، أو جعل المادة تتمدد. وقد تطرق الكندي (ت. 256 هـ/873م) لظاهرة تقلص الأجسام بالبرودة وتمددها بالحرارة مما يتسبب في إزاحة الهواء أمام المادة المتمددة: «وكل جسم برد انقبض واحتاج إلى مكان أصغر من مكانه قبل برده وكل جسم حمي انبسط واحتاج إلى مكان أعظم من مكانه قبل حَمْيه؛ فسال الهواء من جهة الموضع المنبسط الحار إلى جهة الموقع المنبسط البارد».[5]
أما المسعودي (ت. 346هـ/957م) فقد سجَّل ملاحظته عن تمدد الأجسام الطولي عند تعرضها للحرارة: «وأن الأجسام إذا حميت احتاجت إلى موضع أوسع من المواضع التي كانت فيها فما تحدثه الحرارة فيها من تباعد نهاياتها عن مركزها، وأنها إذا بردت صارت بضد ذلك لأن البرد يفعل تقارب نهايات الأجسام من مركزها فتحتاج إلى مواضع أصغر من مواضعها».[6]
الكندي والكونت رمفورد
تُدرس العلاقة بين الحركة والحرارة في إطار علم الديناميكا الحرارية. ودرس الكندي العلاقة بين الحرارة والحركة من خلال تجربة نجد وصفه لها في رسائله:
«فعملنا آلة كالسهم، موضع نصلها كرة من قرن (أي من قرن البهائم) وثقبناها ثقباً خارقة إلى الكرة موازية لطول السهم، وأمكنَّا (أي ملأنا) بواطن الثقب برصاص رقيق، ثم رميناها في الهواء عن قوس شديدة، فوقعت السهام إلى الأرض، ولا رصاص فيها. وليس بمدفوع (أي ليس بباطل أو مستحيل) أن يكون جَرَى الهواءُ في تلك الثقب بالخفز (أي بالاندفاع والانطلاق السريع في الجو) الشديد فقشر الرصاصَ، وقلعه من غير إذابة، لأنا وجدنا رائحة ما حول تلك الثقب، رائحة القرن الذي مسته النار. فتبين بما قلنا – وأشياء كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها فيما قلنا من الكفاية عن إبانة ما أردنا إبانَته – أن الحركة محدثة حرارة».[7]
ويرى بصمة جي أن الكندي بهذه التجرية يسبق الفيزيائي البريطاني بنيامين طومسون الملقب بالكونت رمفورد (ت. 1814م) في تجاربه في مجال صناعة المدافع ، فبينما وجد الكندي الحرارة من «الاحتكاك بين الهواء والسهم المُحمَّل بالرصاص» فقد وجد الكونت رمفورد هذه الحرارة من «الاحتكاك بين المثقاب والكتلة الحديدية للمدفع».
ابن سينا والبيروني يطوران القياس الحراري
علم القياس الحراري هو العلم الحديث الذي يعتني بقياس درجة الحرارة. تطورت مقاييس الحرارة عبر قرون طويلة. في بداية الأمر استخدم العرب والمسلمون أشياء بدائية مثل حاسة اللمس لتحديد ما إذا كان الجسم حاراً أو بارداً ولكن تطور الأمر بعد ذلك.
ويبين الباحث روبرت بريفولت في كتابه The making of Humanity أن هناك زعماً بأن ابن سينا (427هـ/1037م) هو صاحب فكرة مقياس الحرارة الهوائي the air thermometer، إلا أن بريفولت يرى أن هذا اختراع ابن سينا الذي أعاد تقديمه جاليليو ليس بالاختراع الفارق في مسيرة العلم. وهنا يتعجب الباحث في تاريخ العلوم بصمة جي:
ومع عمل البيروني في مجال القياس الحراري فإن الأمور تتطور أكثر، فقد تمكن أبو الريحان البيروني مثلاً من قياس درجة حرارة الماء.
أوروبا تتجاهل جهود الحضارة الإسلامية فتتلكأ علمياً
لم يتأسس علم الحرارة في أوروبا إلا في الستينيات من القرن الثامن عشر الميلادي، أي بعد حوالي 900 سنة من جهود جابر بن حيان، وهو ما يصفه بصمة جي بأنه «تلكؤ علمي أخَّر تَقَدُّم البشرية كلها، لا نجد له أي مُبرِّر». ومن مظاهر هذا التأخر أن الأوروبيين قد عزلوا في وقت سابق الإشعاع الحراري كطريقة مستقلة لتحويل الحرارة عن التوصيل الحراري، ولكنهم استغرقوا وقتاً طويلاً للفصل بين ظاهرة التوصيل الحراري وظاهرة الحَمْل الحراري التي أوضحناها سابقاً في هذا المقال.
قدَّم علماء الحضارة العربية الإسلامية إسهامات علمية في مناطق معرفية متعددة في مجال علم الحرارة منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. استعرض هذا المقال جملة من هذه الإسهامات العربية الإسلامية في مجال الحرارة. ورغم هذه المساهمات المبكرة فإنها لم تلقَ الاهتمام الكافي من الأوروبيين الذين بدأوا بتأسيس علم الحرارة في القرن الثامن عشر الميلادي.
- رسائل إخوان الصفا، ط. هنداوي، ج2، ص 288.
- المرجع السابق، ص 286.
- المرجع السابق، ص 17.
- رسائل جابر بن حيان، نشرة بول كراوس، ص ص 429-430.
- رسائل الكندي، تحقيق أبوريدة، ج2، ص 71.
- المسعودي، التنبيه والأشراف، طبعة ليدن، ص ص 11-12.
- رسائل الكندي، تحقيق أبوريدة، ج2، ص 118.