كوفيدرية طليطلة: مسلمون قاوموا التنصير بالصوفية والولائم
الأندلس لم يسقط من يد المسلمين دفعة واحدة، بل سقط إمارة وراء أخرى على مدار قرون، وكانت أول محطة فارقة في طريق معارك استرداد المسيحيين للإمارات الإسبانية هي سقوط مدينة طليطلة Toledo بيد مملكة قشتالة CASTILE المسيحية عام 1085م، حتى تم الاسترداد المسيحي الكامل لإسبانيا عام 1491م بسقوط غرناطة من يد المسلمين.
على مدار أكثر من 4 قرون كان هناك وجود إسلامي سياسي بجوار الوجود المسيحي في إسبانيا، وربما ساعد ذلك على عدم التنكيل الشديد بالمسلمين المقيمين بالإمارات التي يحكمها مسيحيون، بل كان هناك تضييق عليهم، وتنكيل أحيانًا ولكن ليس بالصورة التي حدثت بعد السيطرة المسيحية الكاملة على شبه الجزيرة الأيبيرية.
بالتأكيد كان هناك نزوح إسلامي من الإمارات التي سيطر عليها المسيحيون الأوروبيون إلى جاراتها التي ما زالت تحت الحكم الإسلامي، ولكن كثيرين رفضوا مغادرة تلك الإمارات، وفضلوا البقاء فيها تحت الحكم المسيحي، في تجمعات توزعت بين 100 مدينة إسبانية خضعت للحكم المسيحي، قبل سقوط غرناطة وطرد العرب نهائيًا من الأندلس.
ولكن المثير أن هؤلاء الذين فضلوا البقاء تحت الحكم المسيحي، ظلوا أيضًا متمسكين بدينهم الإسلامي، وبلغتهم العربية، وأطلق عليهم «المُدَجَّنين – Mudejars» تعبيرًا عن استئناسهم من الحكومة الإسبانية أو تطويعهم للعيش كأقلية بين مجتمع يختلف عنهم ثقافيًا، يدينون لنظام حكمه بالولاء السياسي مقابل السماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية الإسلامية.
واللافت أيضًا هو تأثرهم بالثقافة الإسبانية، لا سيما في ما يتعلق بلغتهم، بتعريب مصطلحات لاتينية كثيرة؛ فقد كانوا يعيشون بنصف ثقافة عربية، ونصف لاتينية، يتحدثون الإسبانية ويقرؤون القرآن ويمارسون شعائرهم الدينية بالعربية، يعربون اللاتينية أحيانًا، ويلتنون العربية أحيانًا أخرى.
يكتبون بالعربية ويكتبون أيضًا باللاتينية، وأحيانًا بلغة هجين بين العربية واللاتينية، ليس لها قواعد واضحة، ولكن سموها لغة ألخميادو Aljamiado، والاسم مشتق من كلمة Aljama الخاما. وتعني Aljama الخاما بالنسبة للإسبان الحي الذي يسكن به العرب المدجنون في بلادهم، فكانوا يطلقون على لغة أهل هذا الحي ألخميادو Aljamiado، أي لغة العرب المدجنين.
في هذه المقالة نستعرض بعض مظاهر عيش المسلمين تحت الحكم المسيحي الإسباني، من خلال إلقاء الضوء على مسلمي مدينة طليطلة، في الفترة بين 1402م و1414، معتمدين بشكل أساسي على دراسة بعنوان: «A SUFI CONFRATERNITY IN MUDEJAR CASTILE – أخوية صوفية بين مُدَجَّني قشتالة»، لم تترجم للعربية قبل ذلك، وتعتمد على مخطوطات ومصادر تاريخية للمسلمين في الأندلس.
الدراسة للبروفيسور آنا إتشيفاريا Ana Echevarria، وهي من أهم المتخصصات في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين داخل إسبانيا الأندلسية، ولها مؤلفات عديدة في هذا المجال.
كذلك نستعين بدراسة «النثر الموريسكي، الأصول والموضوعات: نماذج مختارة» للدكتور قصي عدنان سعيد الحسيني، ودراسة «المدجنون في الأندلس»، للدكتور حسين يوسف دويدار.
أخوية صوفية توحد المسلمين: كوفيدرية جامع ديل سولاريخو
تجمع المسلمون بمنطقتين في المدينة، في ما يشبه حارة اليهود في القاهرة، حيث تكتلوا في حي سانت إيزيدور أو القديس إيزيدور Saint Isidore، وجزء من حي سانشو مينايا Sancho Minaya.
إلا أنهم اختلفوا عن اليهود المقيمين في أن حيهم لم يكن مغلقًا عليهم، أو خارج المدينة، بل كان في وسط المدينة، منفتحًا على الأحياء المسيحية، على عكس اليهود الذين كان لهم جيتو خارج أطراف المدينة مغلقًا عليهم.
كان مسجد (جامع) ديل سولاريخو del Solarejo هو الوحيد المسموح للمسلمين أن يمارسوا شعائرهم به في طليطلة، وفي هذا المسجد نشأت رابطة صوفية بين المسلمين، أطلق عليها «كوفيدرية» أو «أخَوِيّة»، وكانت هي الكيان الذي يدير شؤونهم الاجتماعية والروحية.
ولا يوجد تأكيد إن كان هذا الجامع قد بني قبل استرداد المسيحيين طليطلة أم بني بعد ذلك، ولكنه كان موجودًا حتى القرن الخامس عشر، أي بعد خروج طليطلة من حكم المسلمين بأكثر من 4 قرون، أي يحتمل أن يكون قد بني في ظل الحكم المسيحي، أو على الأقل حدثت له ترميمات سمحت بها الحكومة المسيحية.
الجامع كان ملحقًا به محلات موقوفة عليه، كانت تقع أسفله على عادة العمارة الإسلامية في القرون الوسطى، وكانت تُستَأجر وينفق من ريعها عليه وعلى كوفيدرية المسلمين.
ونلاحظ هنا بعض الدلالات اللغوية، أولها: أن «كوفيدرية» تعريب لكلمة إسبانية هي cofrad، ويتبين منها كيفية تطويع المسلمين المدجنين اللغة اللاتينية الإسبانية إلى اللهجة العربية. وكذلك نلاحظ براعتهم في اختيار كلمة ذات وقع صوفي، فلـ cofrad وقع رومانسي، لأنها تحمل معنى الإخوة المتحابين، وليست أخوة عادية، وهو ما ينطبق على السياق الصوفي.
كذلك لم يستخدموا مصطلح «الطريقة» الذي كان شائعًا في الأندلس، وشائع بين الصوفية في عموم العالم الإسلامي وقتها، رغم أنهم كانوا متصوفة بحسب ما يفهم من المصادر التاريخية على الطريقة الشاذلية، بل استخدموا مصطلح «الأخوية»، ما يعطينا دلالة على مدى تعبير رابطتهم عن المعنى الذي كانوا يحتاجون إليه، كونهم أقلية بين مجتمع وسلطة أقل ما توصف به أنها مختلفة عنهم إن لم تكن تكرههم.
ملحوظة أخرى مهمة، وهي أنهم لم يسموا مسجدهم أبدًا سوى «جامع»، في دلالة على اجتماعهم وتوحدهم به، وكذلك لأنهم يُصلون به في جماعة، ويصلون به الجمعة أيضًا.
عمومًا كان التكتل مسألة تعني الأقلية المسلمة في طليطلة جدًا، ولذلك نشأت في داخلهم روابط أخرى أسرية ومهنية، فهذه رابطة للتجار، وأخرى للحرفيين، وغيرها، وكانوا في الغالب يورثون مهنهم لأبنائهم.
الرابطة كانت تحتاج إلى التكافل في ما بينها ماديًا، ولذلك حرصوا على تجميع الصدقات بشكل شبه إجباري، في ما بينهم؛ ذلك لأن أداء فريضة الزكاة للحكومة الإسلامية لم يعد متوفرًا لديهم، وأصبحوا يؤدون بدلًا منه ضرائب للحكومة المسيحية.
ولذلك أوجبت الكوفيدرية على أعضائها وهم كل المسلمين في طليطلة التصدق لها، ومن خلال ما تحصله من الصدقات، بجانب ما تجمعه من ريع إيجارات المحلات الملحقة بالمسجد كانت تنفق على المحتاجين من المسلمين، وتصون الجامع، وتنفق على أي أنشطة خيرية تخص الطائفة المسلمة.
المصادر تشير أيضًا إلى أن الكوفيدرية كانت تجمع أموالاً من المسلمين خلال الاحتفالات بالزواج والعرس، وكانت تضاف إلى ما تتحصل عليه من الصدقات والإيجارات لتمويل الأنشطة الخيرية.
الطعام والصلاة: مناسبات اجتماعية تجمع الإخوة
تشير المخطوطات التي عثر عليها، التي ترصد نشاط أعضاء الكوفيدرية، أن عدد أعضائها في هذا التوقيت (بداية القرن الخامس عشر) تراوح بين 300 و500 شخص، ويحتمل أن تكون هذه الأرقام هي كل عدد المسلمين هناك وقتها، باعتبار أنها الرابطة الأساسية والوحيدة بالمدينة التي تجمعهم جميعًا، رغم أنها كانت صوفية، وليس بالضرورة أن يكون كل المسلمين متصوفة لكن هذا كان الواقع.
أعضاء الكوفيدرية كانت لهم تجمعات كثيرة، تساعد على بناء وتماسك هويتهم، سواء كانت ذات طابع ديني تعبدي أو اجتماعي.
أهم تجمع دوري لهم كان لتناول الطعام، وكانوا يختارون عضوين كل 4 أشهر لتولي مهمة إعداد ولائم ضخمة، يحضرها كل الإخوة، ولم يتبين إن كانوا يعدون الولائم على نفقتهما الخاصة أم من أموال الكوفيدرية، لكن يرجح أنها كانت من أموالهما الخاصة.
كانت هذه الولائم فرصة للتجمع ومناقشة أمور الإخوة، وإطعام الفقراء منهم، وكانت في الغالب تحتوي صنفين من اللحوم، وهما الدجاج، واللحم المتبل، بجانب الخُبز، ودون أرز أو فاكهة على الأرجح.
هذا التجمع كان ينظم كل يوم أحد، وليس كل جمعة، تماشيًا مع قانون الدولة المسيحية، الذي يجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد للصلاة في الكنيسة، وبالتالي كان المسلمون أيضًا يستريحون من أعمالهم يوم الأحد وليس الجمعة كما عادة المسلمين.
في العادة كان التجمع لهذه الولائم يقام في بيوت الأغنياء من المسلمين في طليطلة، الذين تولى بعضهم زعامة الأخوية الصوفية، ومنهم: عبدالله بن سعيد، محمد بن السيد إبراهيم، عبدالله بن محمد الشرقي، علي بن الصفار، محمد بن عبدالله الرندي.
في الأعراس كان من الواجب أن يتجمع الجميع ويساهموا في تزويج العريس، سواء بمساهمة عينية، أو بدفع أموال نقدية، ونفس الأمر في مناسبات مثل ختان الأطفال، وهي مناسبة كانوا يحتفلون بها.
لكن المناسبة الأهم من حيث الطابع الديني كانت الجنازة، التي لا بد أن يجتمعوا فيها جميعًا، ويغسلون الميت ويكفنوه ويصلون عليه في الجامع، ثم يحملون نعشه ويسيرون به إلى مقابر المسلمين لدفنه، وفقًا للشريعة الإسلامية.
وقد كانت المقابر الإسلامية والجنائز الإسلامية عمومًا وطقوسها من علامات الهوية في مجتمع مسيحي، وحرصت الكوفيدرية على مشاركة كل أعضائها به، ومن لم يحضر توقع عليه غرامة مالية.
الفقه المالكي والطريقة الشاذلية: مذاهب المدجنين
تشير المخطوطات إلى ارتباط متصوفة طليطلة بالطريقة الشاذلية، نسبة إلى أبي الحسن الشاذلي المدفون بمصر، وتعد طريقته من أكبر الطرق الصوفية المنتشرة بالعالم، إن لم تكن أكبرها في تقدير البعض، هذا من الناحية الروحية، أما من الناحية الفقهية فقد ارتبطوا كأغلب بلدان شمال أفريقيا بمذهب الإمام مالك.
كان الاحتكاك بين مدجني طليطلة ومسلمي غرناطة قائمًا في هذا التوقيت، حيث كان المدجنون يسافرون إليها لأغراض مختلفة، وقد كانت غرناطة متصوفة.
كان أمراء غرناطة من بني سعيد يعتنقون الطريقة الشاذلية، ويحتفلون بموالدها، وكثير من مدجني طليطلة كانوا يسافرون إلى هناك ويعيشون هذه الأجواء، وقد كانت غرناطة بمثابة مرجع ديني لهم، باعتبارها البلد المسلم الأقرب لهم.
وكان الاحتفال بالموالد يتم بين مسلمي قشتالة عمومًا في هذا التوقيت، لا طليطلة فقط، وفقًا لما جاء في المخطوطات والوثائق المكتوبة بلغة ألخميادو التي عثر عليها، وهي لغة عربية محرفة، تجمع اللاتينية بالعربية وتكتب بحروف لاتينية نشأت في الأندلس، وكان يستخدمها المسلمون في ما بينهم، كنوع من مراوغة الحكومة الإسبانية.
الطقوس الصوفية الدينية للمدجنين واضحة في المصادر، فقد كانوا يجتمعون في المسجد ويذكرون الله بشكل جماعي، ويمدحون النبي ويصلون عليه من خلال أشعار يحفظونها، وبعد ذلك يلقي شيخهم خطبة ويتناولون الطعام، وهذه الطقوس معروفة وشائعة جدًا بين المتصوفة في كل العالم الإسلامي، وتسمى بـ«الحَضْرة».
حتى بعد أداء الصلوات الخمس، كانوا يجلسون لختم الصلاة بشكل جماعي جهري، في طقس صوفي معروف، غير شائع لدى السلفية على سبيل المثال.
وعمومًا أكثر الشيوخ نفوذًا على صوفية طليطلة بهذا التوقيت، بدايات القرن الخامس عشر، هو الصوفي الشاذلي المالكي عيسى بن جابر الشيقوبي، شيخ مسجد شيقوبيا Segovia، وهي إحدى مقاطعات مملكة قشتالة، وقريبة جدًا من طليطلة.
الشيقوبي ترجم القرآن إلى اللغة القشتالية بالتعاون مع اللاهوتي المسيحي يوحنا الشيقوبي، وكان الأخير يدعو للتعايش مع المسلمين.
عيسى الشيقوبي أيضًا هو مؤلف كتاب «مختصر سني: تذكرة في أهم واجبات ديننا المقدس وسنتنا» أو ما يعرف بـ«الكتاب الشيقوبي»، وقد كتب الكتاب بحروف لاتينية، لكن بكلمات عربية تختلط باللاتينية أحيانًا، ربما تكون لغة ألخميادو التي أشرنا إليها، وعمومًا كان الكتاب مرجعًا لأهل طليطلة في ما يتعلق بأمور دينهم.
لماذا رضي المسلمون بالتدجين؟
ظل المسلمون في الممالك المسيحية الإسبانية على هذا الحال «مدجنين»، حتى سقطت غرناطة عام 1492م فصار يطلق عليهم «موريسكيون»، حيث ساءت أحوالهم، فبعضهم تنصر رغمًا عنه، وبعضهم أظهر المسيحية ومارس إسلامه سرًا، حتى صدر قرار طردهم كما هو معلوم عام 1613، بعد تخييرهم بين أن يعتنقوا المسيحية أو يغادروا الأراضي الإسبانية.
وعمومًا كان الأغلب من المسلمين يهاجر سواء في عصر التدجين إلى غرناطة أو في العصر الموريسكي إلى المغرب، نتيجة الفتاوى التي أصدرها عديد من الفقهاء بعدم جواز المكوث في أرض الكفر، وممن أفتوا بذلك كان الفقيه المغربي أبوالعباس الونشريشي، الذي ألف رسالة بعنوان: أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب على ذلك من العقوبات والزواجر».
وقدرت أعداد المسلمين الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس إلى المغرب، بين 1492م إلى 1615م بحوالي ثلاثة ملايين شخص.
ولكن في الفترة التي سبقت التهجير قبِلَ المسلمون وقبِلت أيضًا الحكومات المسيحية بالتدجين لمجموعة أسباب، بالنسبة للمسلمين كانوا يطمئنون لوجود سند إسلامي لهم في غرناطة يجعل الحكومات المسيحية تحسب الحسابات قبل التنكيل بهم، إضافة إلى مصالحهم الاقتصادية وارتباطهم بالأرض التي ولدوا عليها.
أما الحكام المسيحيون فكانوا يأملون في ذوبان هؤلاء المدجنون في المسيحية، بخاصة وأن منهم من تزوج من مسيحيات.
كذلك كانت الممالك المسيحية في حاجة إلى كثير من المسلمين الذين يعملون في مهن يأنف منها الإسبان، كالزراعة والحرف الصناعية والمعمارية؛ فالإسبان في البداية كانوا رجال حرب، وكل واحد منهم جندي في الجيش الذي يسعى لاستعادة كل الأراضي الإسبانية من يد المسلمين.
هذه الأسباب جعلت الاستعانة بالمسلمين وتدجينهم داخل المجتمعات المسيحية الإسبانية مرغوبًا، حتى هدأت طبول الحرب، وبدأ الإسبان ينخرطون في المهن والحرف التي يحتاجها المجتمع، فكان قرار طرد المسلمين والمجازر التي طالتهم.