انفجار الهامش: المسلمون في فرنسا من المصنع إلى المسجد
من جديد ننخرط في أزمة جديدة. هذه المرة مع سيناريو مُكرّر لما عشناه في السنين الأخيرة من حوادث تقع في فرنسا يقف وراءها متطرفون إسلاميون بسبب تطاول فنّي على شخص النبي، وتحديدًا برسومات الكاريكاتير. تفتح تلك الحوادث الباب لجدل بيزنطي لا ينتهي حول الطرف الذي يستحق اللوم في النهاية.. القاتل المتطرف في عُنفه أم القتيل المتطرف في سخريته للآخرين؟
البعض حاول نفي تُهمة السخرية عن الكاريكاتير بالأساس، واعتبر أنها وسيلة غير تقليدية للدفاع عن الإسلام ضد جهاد الدواعش، وهو التفسير الذي لن يروق أبدًا لأغلبية المسلمين الذين يشعرون بالإهانة لمجرد تجسيد نبيهم على الورق، حتى لو كان الهدف نبيلاً.
أما نحن فقد اعتبرنا أن الأزمة التي يعيشها المسلمون في فرنسا والأجواء المستعرة حاليًا لم تنتج عن هذه الرسمة ولا سابقتها وإنما لهذه المشكلات جذور أكبر وأعمق. واخترنا أن نُعبِّر عن أزمة «الرسومات» بعدم الحديث عنها تمامًا وتركيز جهودنا على ما أهو أقدم.
يقول دكتور محمد حصحاص في بحثه «الإسلام الأوروبي: من الفهم إلى المفهوم»، إنه قد يبدو للكثيرين أن المشكلة مع الإسلام المتشدد على شاكلة القاعدة وداعش، وهو تحليل صحيح لكنه غير كافٍ، فالمسلم المعتدل أصبح مشبوهًا عند الفرنسيين بسبب هستيريا الإسلاموفوبيا التي تصيبهم عقب كل حادثٍ دموي يقع داخل أوروبا وأمريكا.
ويُحاول حصحاص في بحثه تحليل هذه الظاهرة، ويُعيدها إلى عدة أسباب بالغة القِدم؛ الأول النظرة الأوروبية الحديثة التي تُعادي الأديان في العموم، وتعتبرها أدوات للاستبداد السياسي وقهر النساء والإقطاع الاقتصادي.
وثانيها، أن الذاكرة الأوروبية العميقة المحملة بمعارك القرون الوسطى لم تُمح منها صورة الغازي المسلم إلى الآن، وحتى النهضة الحضارية التي دشنها المسلمون في إسبانيا وأناروا بها أوروبا فهي أمر مُغيّب عن الإعلام والبرامج التعليمية الأوروبية.
ما يُزيد من عوامل الرفض الأوروبي للإسلام بِاعتباره خارجًا عن التقاليد الأوروبية، وهو ما يتسق مع ما قاله المستشرق البريطاني بيرنارد لويس بأن الإسلام «يجب استئصاله» لأنه لا يُمكنه التأقلم مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان الغربية ذات الجذور المسيحية- اليهودية.
ثالث هذه الأسباب الرافضة هو انتشار المسيحية التي تراقب الإسلام بعينٍ المُنافس المحتمل، فالكاثوليكية (65% من مسيحيي فرنسا، وفقًا لإحصاء 2011م) لم تعترف بالإسلام كدين إلا خلال اجتماعات المجمع الفاتيكاني الثاني خلال سنوات 1962 وحتى 1965، أما البروتستاتنية (4% من مسيحيي فرنسا، وفقًا لإحصاء 2011م) فهي على عهدها الرافض لجميع غير المسيحيين.
مسلمو فرنسا الأوائل
تكثر في كتب التاريخ إشارات وجود علاقات متميزة جمعت فرنسا بالعالم الإسلامي في بعض الأوقات، بعيدًا عن الحروب والصراعات، مثل الهدايا التي تبادلها الخليفة العباسي هارون الرشيد مع الإمبراطور شارلمان.
وهو ما استفاض في تبيانه الباحث الفرنسي آلان شينال في بحثه «الإسلام والمسلمون في فرنسا»، إن علاقة فرنسا بالإسلام أقوى من أي دولة أوروبية أخرى ما عدا إسبانيا.
فجامعة السوربون كان تُدرِّس أعمال ابن رشد بدءًا من عام 1230م، كما أن بعض الجامعات الفرنسية كانت تدرّس الطب بالعربية حتى القرن السابع عشر، وفي القرن السابع عشر تحالفت فرنسا مع العثمانيين المسلمين من أجل مواجهة خطر الإمبراطورية النمساوية التي سعت لتحويل البحر المتوسط لبحيرة تابعة لها، وكانت باريس تبتهج كلما اقترب الأتراك من فيينا.
باختصار كان الإسلام يُعامل كأداة للسياسة الخارجية.
لم يتغير هذا الوضع كثيرًا في العصر الحديث، بعد ما جرى تشجيع هجرة المسلمين إلى فرنسا لتجنيدهم في صفوف الجيش الفرنسي خلال معارك الحرب العالمية الأولى.
وتعتبر منى فياض أستاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية في بحثها «الإسلام المهاجر في الدولة القومية: النموذج الفرنسي»، إن هؤلاء المهاجرين هم اللبنة الأولى لوجود إسلامي في فرنسا.
أسهمت هذه الجهود في تدشين معلم ديني كبير، لا يزال حتى الآن يُعتبر أحد أهم المراكز الإسلامية في فرنسا وهو مسجد باريس الكبير، والذي تعتبره تحنان طلعت في أطروحتها «الشباب المسلم في فرنسا»، بأن تأسيسه عام 1922م مثّل البداية الحقيقية للإسلام كدين رسمي في فرنسا.
وتضيف، أن هذا المسجد سُمح للمسلمين بإنشائه كمكافأةً لهم على مساندتهم الجليلة لجيوش الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، بدعم سياسي من الرئيس الفرنسي غاستون دومرغ ومالي من السلطان المغربي يوسف بن الحسن.
على الرغم من أهمية هذه الخطوة، لم يلعب هذا المسجد دورًا كبيرًا في زيادة أعداد المسلمين في فرنسا، كما فعلت الظروف الاقتصادية التي دفعت العمّال العرب إلى الهجرة أفواجًا إلى فرنسا، والتي أدّت دورًا رئيسيًا في زيادة حجم الكتلة الإسلامية داخل المجتمع الفرنسي، وهو ما حاولت السُلطات حينها تحجيمه بفرض المزيد من القيود على حركات الهجرة هذه في أواخر السبعينيات، بعد ما فاقت أعداد المسلمين داخل المجتمع الفرنسي قُدرة باريس على استيعاب هذا التطور الديموغرافي بالغ الخطورة.
وهو ما يُمكننا تفهمه من خلال التدني الكبير في أعداد المساجد في فرنسا، ولكَ أن تتخيل أنه على الرغم من كثرة أعداد المسلمين في البلاد فإنه حتى بداية السبعينيات لم يتوجد في فرنسا بأسرها إلا 10 مساجد فقط، أصبح عدد المساجد الآن 1500 تقريبًا إضافة إلى 2100 مُصلّى صغير.
ويشرح آلان شينال لنا المزيد من أسباب المعضلة الفرنسية، فيقول، إنه خلافًا للولايات المتحدة لا تعتبر فرنسا «بلد هجرة»، على الرغم من أنها أكثر الدول الأوروبية استقدامًا للعمال من الخارج، فإنها كانت تنظر إلى هذا الاستقدام على أنه حدث طارئ يجب التخلص منه فور انتهاء أسباب وجوده.
ويحكي أنه في ظروف مماثلة جرت عمليات استئصال حقيقية حيال الإيطاليين جنوب فرنسا في بداية القرن التاسع عشر، وغُطيت بحججٍ مُشابهة لتلك التي تُستخدم حاليًا ضد المسلمين.
وهو ما كانت فرنسا تطمح لفعله مع المسلمين إلا أنها لم تتمكن من ذلك، فلم تفق إلى حجم كثافة وجودهم في نسيجها المجتمعي إلا بعد فوات الأوان.
عمالة رخيصة، مطيعة، خانعة
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهرت الحاجة الفرنسية الماسة إلى عددٍ كثيف من العمال قليلي الرواتب ليساهموا في عمليات إعادة الإعمار التي اجتاحت البلاد فور التخلص من الخطر النازي.
ولهذا، فُتحت أبواب البلاد على مصراعيها لهجرة المسلمين الراغبين في العمل داخل المصانع بدءًا من عام 1945م، وهي العملية التي لم تنقطع حتى عام 1974م حين أوقفت فرنسا الهجرة إليها بسبب رغبتها في فرض المزيد من القيود على الساعين في التدفق على أرضها.
كان معظم هؤلاء العمال من أصولٍ ريفية، فلم يقدموا إسهامات بارزة داخل المجتمع الفرنسي، وذابوا كالملح فيه بلا أثر.
بمرور الوقت، لم يعد يعتبر المهاجرون، الذين طابت فرنسا لهم ولم يعودوا إلى بلادهم مجددًا، أنفسهم مجرد مقيمين أتوا لمهمة مؤقتة يجمعون فيها أكبر قدرٍ من المال ويرحلون، وإنما اعتبروا أن وجودهم عشرات السنين على الأرض الفرنسية كفيل بأن يحوّلهم إلى فرنسيين هم وأولادهم الذين أنجبوهم على الأرض الفرنسية واكتسبوا لغتها وجنسيتها، لذا لم يتوقفوا عن المطالبة بعدم اعتبارهم أجانب وإنما أحد مكونات المجتمع، وهو ما لم يتحقق أبدًا فلاحقتهم النظرة الدونية أينما ذهبوا وهمّشوا مجتمعيًا واقتصاديًا إلى أكبر حدٍّ ممكن.
أما أبناؤهم فإن طموحهم الأول هو أن يعيشوا حياة سوية، بالرغم من الصعوبات الكبيرة التي يمرون بها في تأمين السكن والعمل (معدل البطالة وسط المغاربة يتجاوز الـ50%) والترفيه، وكذلك تعرضهم لعددٍ من المضايقات الإدارية والبوليسية لمجرد كونهم مهاجرين مسلمين.
يقول الباحث رابح الصادق في أطروحته «الإسلام في فرنسا»، إن الأقلية الإسلامية في فرنسا هي «أقلية مشكلة»، فإذا كان الخطاب المؤسساتي يواجهها بما يمكن أن نُطلق عليه «استراتيجية التحاشي» التي لا تحمّلها وِزر صعوبات فرنسا لكنه لا يبذل أي مجهود للدفاع عنها أو دعمها إزاء بعض الخطابات الأخرى مثل التي تقدمها الجبهة الوطنية الفرنسية وتعتبر فيها أن الجالية الإسلامية مسؤولة عن كافة الأزمات التي يعاني منها المجتمع الفرنسي، لدرجة أنه ذات يومٍ أُطلقت على الكتلة الإسلامية لقب «آخذة خُبز الفرنسيين».
في الوقت نفسه اتّخذ الإعلام الفرنسي موقفًا شديد السوء من أبناء الجالية الإسلامية فحوّلهم جميعًا، إلى «مجاهدين ومتطرفين»، على الرغم من أنهم يتعرضون يوميًا لكل أنواع الإقصاء والإذلال من طرف مجتمع يُكابر ويحرمهم من ممارسة كثير من الحقوق السياسية والاجتماعية والدينية.
ويرى الصادق، أن المسلمين تقمّصوا منذ عهودٍ طويلة الدور الذي لم يكف المجتمع الفرنسي عن إسناده لهم، وهو دور الرجل الخانع الذي يرضى بأي عملٍ يُكلّف به، وهو الأمر الذي استمر حتى مع ظهور الأجيال التالية من الأبناء والأحفاد الذين امتلكوا شرعية وجود قانونية أتاحت لهم مساحات من التواجد في المجال الاجتماعي والسياسي، وهو ما دفع المسلمين بين عامي 1983م و1984م إلى تنظيم مظاهرات أطلقوا عليها اسم «المسيرة من أجل المساواة والعدالة»، وبدوا بحسب عبارة الصحفي بيير ففيانسون بونتي Pierre Viansson-Ponté كأنهم «جماعة شفافة، نصادفهم ولكن لا نراهم».
ويعتبر الباحث أن هناك لحظتين ساعدتا في تعميق نظرات الشك تجاه المسلمين، وهما «اللحظة الإيرانية» والتي نجح فيها الإمام الخيمني ذو النظرات المخيفة في الإطاحة بالشاه، ولحظة الوهن الهوياتي التي مرت بها فرنسا نفسها والتي نتج عنها ما عُرف بـ«عصر الريبة»، والذي ضاعف من معاناة الجالية الإسلامية في فرنسا.
وتضيف عليها فياض عاملاً ثالثًا، هو حرب أكتوبر (حرب تشرين) وما نتج عنها من زيادة في أسعار المحروقات زادت من ثروة بلاد النفط، ما جعلها تستخدم جزءًا من هذه الثورة لنشر الإسلام في أوروبا، ومن ضمنها فرنسا التي تدفقت عليها الأموال لتمويل المراكز الإسلامية والدعوية، ما منح التيارات الإسلامية القدرة على الظهور أكثر في الساحة المجتمعية الفرنسية.
ومع بداية الثمانينيات مزّقت الجالية الإسلامية الانطباع العام عنها بأنها فئة خاملة منكفئة على نفسها، بعدما أضرب العمال المسلمون في مصانع السيارات بين عامي 1982م و1983م بسبب رغبتهم في تخصيص قاعات لهم لأداء الصلاة.
مثّلت هذه المطالب صدمة لرجال الأعمال الفرنسيين، وكأنهم اكتشفوا وجود المسلمين داخل مصانعهم لأول مرة فرفضوا هذه المطالب لكن بعد شهورٍ من التظاهرات والاستنزاف المالي انصاعت الشركات لرغباتهم، على الرغم من التصريحات المتتالية لعددٍ من المسؤولين الفرنسيين التي اتّهمت العمال بأنهم «مُجنّدون لضرب الاقتصاد الفرنسي من طرف جهاتٍ أصولية»، وكان أبرزها ما قاله جاستون ديفيري Gaston Defferre عُمدة مارسيليا، التي يقطنها أغلبية إسلامية كبيرة، بأن «كل مسلم يتردد على المساجد هو متطرف محتمل»، أو ما قاله جان لوبان رئيس الجبهة الوطنية الفرنسية بأن «العمال المهاجرين هم طليعة البربرية في هجومها على الغرب».
شكّل هذا الانتصار صدمة لفرنسا كلها، لأنها أظهرت الإسلام كقوة متصاعدة في المجتمع قادر على التحدّي والانتصار، وبعد ما اكتشفت الدولة فجأة أنه الدين الثاني في الجمهورية الفرنسية، وهي الحقيقة التي لم يُسمح بتداولها لسنواتٍ عدة ولم تُعرف إلا في أوساط الباحثين ومراكز الدراسات، لتكون واحدة من أمارات عادة دفن الرأس في الرمال التي تتقنها فرنسا إزاء مشاكلها مع العالم الإسلامي، كما فعلت السينما الفرنسية حينما تجاهلت الحديث عن حرب الجزائر وكأنها لم تحدث.
التحول الإسلامي
وخلال هذه الفترة كانت فرنسا تعيش توابع الدوي الذي أحدثته الثورة الإيرانية الإسلامية في العالم، والتي تم تصنيفها كـ «خطر إسلاموي» مُحتمل على فرنسا والغرب بأسره، ولهذا لم يكن غريبًا أن يربط بعض المحللين الفرنسيين إضرابات «عمال السيارات» بإيران، على الرغم من أن جميع العمال المضربين كانوا من السُنّة وليسوا من الشيعة، وهو ما سيُعرف لاحقًا بـ «الخطر الأخضر»، كإشارة للإسلام كعدوٍ محتمل للغرب بديلاً عن الاتحاد السوفيتي المنهار والذي كانوا يُكنّون مخاوفهم منه بـ«الخطر الأحمر».
عندما شهدت فرنسا عام 1986م، انفجار عدة قنابل في الشانزليزيه أوقعت 13 قتيلاً و303 جرحى، لم تقدم الشرطة الفرنسية أي دليل على تورط مسلمين فيها، واعتبر أغلب الباحثين أن مَن قاموا بها هم جماعات غربية مناهضة للمجتمعات، وعلى الرغم من ذلك فإن المسلمين وحدهم من حملوا ذنب هذه التفجيرات أمام المجتمع الفرنسي.
وفور وقوع هذه الأحداث وصل فيها الهذيان الإعلامي إلى أقصاه، وصارت كلمات كالتطرف، والأصولية، والإرهاب، والإسلاميين مرتكزات أساسية في الإعلام الفرنسي.
جرت عمليات منظمة لاغتيال المسلمين معنويًا بلا رحمة بعدما سُنّت عليهم سكاكين المانشيتات، ومنها العناوين الرئيسية التي رفعتها الجرائد الفرنسية الكبرى مثل «الإسلام وغزاته الجُدد» الذي تصدّر صفحات مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور (L’Obs)، و«هل يجب الخوف من الإسلام؟» على مجلة لو بوان (Le Point)، ناهيك عن صحيفة لوموند (Le Monde) التي رفعت عنوان «القنبلة تحت الجلابية»، وجميعها تعبيرات تبدو بجوارها رسومات شارلي إيبدو غاية في البراءة.
وفقًا لقانون تشرين الأول/ أكتوبر 1981م، تسمح الدولة الفرنسية للأجانب بتشكيل جمعيات بمجرد الإخطار، وهو المنحى الذي شهد تكالبًا إسلاميًا فور تفعيله وتجاوز عدد الجمعيات الألف سعت لتوفير بنية دينية للمسلمين لا يجدونها في المدارس ولا مؤسسات الدولة مثل تعلم اللغة العربية ومبادئ الإسلام وحمايتهم من الثقافة الغربية التي تغمرهم مظاهرها في الشوارع.
وهي الظاهرة التي زادت من إسلام «مسلمي فرنسا»، فتحوّلت قناعتهم الدينية من مجرد خلفية ثقافية إلى سلوكٍ يحرصون على ممارسته بل ويتعمدون المجاهرة به في الشوارع.
يقول رابح الصادق: اعتبر هؤلاء الشباب أن الوسيلة الوحيدة لتجاوز معاناتهم في التهميش المجتمعي والثقافي هو التشبث بالإسلام ورفعه كمرجعية يواجهون به الفئات الأخرى التي لا تقدم لهم إلا الإقصاء.
ويضيف تقرير أعدّه أحد مركز بحثي فرنسي عن الشباب المسلمين المنخرطين في صفوف القوات المسلحة الفرنسية «الشباب الفرنسي من أصل مغاربي يحسُّ بالأمان عندما يرتكز على المرجعية الإسلامية، ومرد ذلك إلى أن الإسلام يمنحهم بُعدًا اجتماعيًا في عملية الانتماء، وهذا بغض النظر عن الممارسة الدينية الحقيقية لهؤلاء الشباب».
وتتابع الباحثة الفرنسية ماغالي مورسي: المسلم الفرنسي يعيش في وسط معادٍ، بحيث يتعرض للإقصاء والإهانة ونكران حقوقه، وهذا الجفاء الذي يُعانيه يظهر جليًّا في حياته الدينية والاجتماعية، كما أنه يصبغهما ويلقي بظلاله على كل ممارساته الحياتية، وتخلق هذه الحالة لدى الفرد المسلم نوعين من ردود الفعل، فهناك من يتجه إلى الانزواء وتثمين ذاته من خلال التشث بالإسلام الذي يجد فيه عزاءً ومواساة، أما النوع الثاني، فعادةً ما يكون رد فعله على هذه الوضعية، أن يلجأ إلى تأكيد هويته وانتمائه حتى يتمكن من التقوقع داخل المجتمع ولو بالإقدام على أكثر الأفعال تهورًا.
يقول الصادق، إنه عادة لا يُسمح لأكثر من 85% من المسلمين المجندين في الجيش الفرنسي بتجاوز رتبة جندي من الدرجة الثانية، ونادرًا ما ينال أحدهم رتبة ضابط.
وخلال عام 1989م، بدا أن الحضور الإسلامي في الشوارع الفرنسية قد بلغ ذروته، بعد ما دشّنت الجالية الإسلامية مظاهرات كبيرة ضد رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية»، وبرزت قوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، أكبر مزوِّد للجالية الإسلامية في فرنسا بالأفراد، وجرت معركة «حجاب التلميذات».
فعلى الرغم من أن مجلس الدولة الفرنسي أكد في فبراير/ تشرين الثاني عام 1989م، حق كافة الطالبات المسلمات بارتداء الحجاب باعتبارها ضمن «حرية المعتقد التي يجب أن تكون مضمونة لكل فرد»، فإن عددًا من المدارس شنّت حربًا لا مبرر لها على الحجاب، فتم طرد الفتيات اللاتي أصررن على ارتدائه، كما وُضعت بعض القوانين المدرسية الداخلية التي تمنع دخولهم بغطاء رأس، وصرّحت الفيلسوفة الفرنسية إليزابيث بادنتر بأن قبول الحجاب في المدارس يُشبه التساهل مع هتلر في بدايات الحرب العالمية الثانية!
وللمفارقة فإن أحدًا من هؤلاء لم يعترض على التنكيل بالإسلام في الكتب الدراسية داخل تلك المدارس، فمثلاً كتاب التربية الوطنية في عام 1984م، كان يحتفي بمعركة بواتييه (بلاط الشهداء)، ويؤكّد للطلبة أن هذه المعركة منعت المسلمين من احتلال الشمال، كما يتعلّم طلبة ثانوي أن الإسلام هو «رد فِعل» ابتكره النبي محمد لمحاربة نمط الحياة البدوي ودفع مواطنيه إلى التجمّع والحداثة.
وفي عام 1995م، عندما تعرضت فرنسا لسلسة من العمليات الإرهابية أسندت مسؤوليتها كلها فورًا إلى «جهات إسلامية متطرفة» حتى قبل الانتهاء من التحقيقات، وكالمعتاد نُصبت المشانق للمسلمين على الشاشات وصفحات الجرائد بسبب الهجمات التي حاولت عبرها بعض الجماعات الجهادية الجزائرية مد رقعة العشرية السوداء في بلادهم لتشمل فرنسا أيضًا، إلا أن أحدًا لم يتلفت إلى انتقادات المسلمين أيضًا لهذه الجرائم، بمن فيهم قياديون في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولم تدخر وسائل الإعلام وسعًا في تصديرها للمجتمع بأسره لإضفاء المزيد من اللمسات الشيطانية على الجالية المسلمة في البلاد.
ظهر جاك شيراك الرئيس الفرنسي في التلفاز، وعلّق على هذه الهجمات قائلاً: «إن فرنسا في مواجهة أشخاص مصابين بالجنون، المُتولّد على الكُره، والذين لا يُكنّون أي احترامٍ للكائن البشري، وهم بهذا التصرف عبارة عن حيوانات متوحّشة»، أما الجبهة الوطنية المعروفة بعدائها للمسلمين فقد وصفت المسلمين بـ«الطابور الخامس» الذي يضع أمن البلد في خطرٍ كبير، فيما تحدّث المدير العام للشرطة الفرنسية عن «مخططات لاستقطاب شباب الضواحي الموجود في وضعية سيئة».
كما رفعت الصحف الفرنسية عناوين «شبكات الله الإسلامية» و«رجال يُقدّسون الحرب» و«رجال الأدغال».
وهي ذات السيناريوهات الكربونية التي لا يزال يعيشها مسلمو فرنسا كلما طفت على السطح حادث إرهابي أو ذكرى تفجير قديم، يجعلهم محصورين في زاوية رد الفعل، والتي تجعلهم لا يتوقفون عن الدفاع عن أنفسهم وعن نبيهم كلما سمعوا صوت تفجيرٍ قادم من بعيد.
يتمنّون أن يقنعوا رفاقهم في الوطن، أنه من الممكن جدًا أن يرتكب مخبولٌ ما عملاً إرهابيًا دون أن يكون مسلمًا.
لكن هذه آراء لا يهتم الإعلام الفرنسي بنقلها.