قبل كولومبوس بسنوات: رحلات المسلمين لاكتشاف الأمريكتين
نُسب اكتشاف العالم الجديد، والمسمى بالأمريكتين، إلى البحارة الإيطالي كريستوفر كولومبوس عام 1492، رغم أن هناك مصادر تشير إلى أن العرب سبقوا في هذا الاتجاه عبر محاولات عدة، بعضها نجح في الوصول إلى هذه الأراضي المجهولة، بل وترك بصمة عربية إسلامية بها.
ويذكر لطف الله قاري في كتابه «العرب قبل كولومبوس.. رحلات عرب الأندلس وشمال أفريقية إلى جزر الأطلسي والأمريكتين»، أن المحيط الاطلسي عُرف عند قدامى الجغرافيين بالبحر المحيط أو بحر الظلمات، لاعتقادهم بأنه ليس بعد شواطئه أرض مسكونة.
محاولات عربية سابقة
بحسب «قاري»، اشتُهر أن كولومبوس هو الذي اكتشف العالم الجديد سنة 1492، ثم توالت اكتشافات بقية القارتين في السنوات التي تلت، واعتبر الغربيون أن جزر المحيط الأطلسي مثل الكناري والأزور لم تُكتشف إلى ما قبل كولومبوس بفترة وجيزة.
لكن التراث العرب الإسلامي في الجغرافيا والتاريخ منحنا إشارات مقتضبة إلى رحلات قام بها رواد مسلمون إلى جزر المحيط الأطلسي والكاريبي، ومحاولات للتوغل في بحر الظلمات انقطع أهلها ولم يعودوا إلى أرض الوطن، كما تشير دراسات إلى وجود صلة لبعض آثار وتقاليد وثقافة الهنود الحمر في الأمريكتين باللغة العربية والإسلام.
وليس العرب المسلمون فقط هم الذين وصلوا إلى الأمريكتين قبل كولومبوس، وإنما سبقت شعوب أخرى إلى استكشاف المحيط الأطلسي والوصول إلى القارتين عدة مرات. يذكر «قاري»، أن علماء الآثار عثروا على نقود قرطاجية في جزيرة بأقصى غرب جزر الأزور التي تبعد 1300 كيلومتر عن شاطئ البرتغال، وكذلك في أركنسا وألاباما.
والقول نفسه ينطبق على قدماء المصريين، وعلى الكلتيين «Celts» الذين ازدهرت لغتهم وثقافتهم بغرب أوروبا ما بين القرنين الخامس والأول قبل الميلاد، كما أن «الفايكنج» قراصنة شمال أوروبا في القرون الوسطى وصلوا إلى منطقة البحيرات العظمى وجزيرة نيوفاوندلاند وكرينلاند وآيسلاند.
وبحسب «قاري»، إذا كان أولئك القوم قد وصلوا إلى النصف الغربي أو العالم الجديد، فلا يُستبعد أن يصل العرب والمسلمون إليها، وهم كانوا أكثر تفوقًا علميًا بما أضافوه من ابتكارات.
كروية الأرض واكتشاف الأمريكتين
اكتشاف العرب للأمريكتين ارتبط بشكل وثيق بنظرية كروية الأرض التي أكدها الجغرافيون العرب والمسلمون. يذكر عدنان خلف سرهيد في كتابه «التأثير الحضاري المتبادل بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية»، أن الجغرافيين العرب أكدوا كروية الأرض قبل الأوروبيين بمئات السنين، وصرحوا بذلك في مؤلفاتهم، وكان الجغرفي العربي أبو عبدالله محمد الإدريسي أول من صاغ ذلك على خارطة، فصنع كرة أرضية من الفضة أهداها إلى ملك صقلية روجر الثاني سنة 549هـ/ 1154م، وتصور فيها وجود القارة الأمريكية لحفظ توازن الأرض.
ومن قبله صرح أبو القاسم عبيدالله بن خرداذبة (ت 300هـ/ 912م) في كتابه «المسالك والممالك» بكروية الأرض، فقال «إن الأرض مدورة كتدوير الكرة، موضوعة في جوف الفلك كالمحة (الصفار) في جوف البيضة». وفي مؤلفه «الأعلاق النفيسة» أشار أبو علي أحمد بن رستة (310هـ/ 922م) إلى ذلك بقوله «إن الله عز وجل وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة.. والأرض مستديرة أيضًا كالكرة مصمتة في جوف الفلك».
وذكر ذلك أبو الحسن المسعودي (ت 346هـ/ 957م) أيضًا في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، فقال إن «الحكماء ذكروا أن الأرض مستديرة ومركزها في وسط الفلك، والهواء محيط بها من كل الجهات». ثم يسهب بذكر معلومات مهمة قائلًا «الشمس إذا غابت في أقصى الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة (أي الموجودة في المحيط الأطلسي)، وإذا غابت في هذه الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين».
وأشار أبو عبيدة عبدالله البكري (ت487هـ/ 1094م) لهذا الموضوع أيضًا في كتابه «المغرب في تاريخ بلاد إفريقية والمغرب» قائلًا «وأقيانس البحر المحيط لا يدرى ما وراءه غربًا إلى اقصى عمرن الصين شرقًا، والشمس إذا غابت أقصى الصين طلعت في الجزائر (الخالدات) وبالضد».
ويذكر «سرهيد»، أنه منذ أعلن المسلمون أن الأرض كروية وأثبتوا ذلك بالبراهين العلمية والفلكية، ابتدأت الإشارات في كتبهم إلى أنه لا بد من وجود جزر معمورة في الوجه الآخر من الكرة الأرضية لم تُستكشف بعد، فقد بينت هذه النظرية أنه ليس من المعقول أن يكون سطحي الكرة كله أرض جبلية بينما الجانب الآخر كله ماء، لأن هذا الأمر لا يؤدي إلى توازنها وانتظام دورتها، لذلك ذكروا تلك الأرض التي عبروا عنها بـ«الجزر الخالدات» التي تعرف اليوم بجزر «كناري»، الذي أطلقوا عليها «أوقيانس»، وهي في الحقيقة الأمريكتين وجزرها.
رحلات عربية لاكتشاف العالم الجديد
وبناء على ما توصل إليه الجغرافيون العرب والمسلمون من وجود لتلك الأراضي، فقد أشارت المصادر التاريخية إلى قيام المسلمين بالعبور إليها قبل كولومبوس. ينقل فؤاد سِزكين في كتابه «اكتشاف المسلمين للقارة الأمريكية قبل كريستوفر كولومبوس» عن العالم المسعودي (ت 345هـ/ 956م) في كتابه «مرآة الزمان»، أن بحارين من الأندلس خاطروا بحياتهم مرارًا وتكرارًا، إذ قاموا برحلات عبر المحيط نحو الغرب «ومن بين هؤلاء كان هناك رجل من قرطبة يدعى حيخش، أبحر في المحيط مع عدد من الشبان على متن بعض السفن التي كان هيأها هو. وبعد فترة عادوا بغنائم كثيرة». وهناك قوم غيرهم لم يعودوا أبدًا، وكان المقصود البحث عن الشواطئ البعيدة من المحيط أو الكتل الأرضية الأخرى الواقعة فيه، وكان ذلك أمرًا معروفًا في البلاد.
وروى الإدريسي (548هـ/ 1154م) في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، خبرًا مفصلًا عن محاولة فاشلة، ومشهورة في وقته على ما يبدو، قام بها ثمانية أفراد من أسرة واحدة لعبور المحيط نحو الغرب على متن سفينة صُنعت لهذا الغرض، وسُمي شارع قريب من ميناء لشبونة قبل سقوط الأندلس بـ«درب المغرورين» أو «المغرورين»، نسبة إلى هؤلاء.
وفي كتابه «تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس»، يذكر حسين مؤنس، أن أفراد هذه الرحلة اتجهوا غربًا 11 يومًا، وسارت بهم الرياح في اتجاه الشمال الغربي، ثم تحولوا إلى الجنوب أو الجنوب الغربي مدة 12 يومًا، حتى وصلوا جزر الأزور The Azores، ثم اتجهوا بعد ذلك جنوب شرق حتى وصلوا لجزيرة ثانية، والأرجح أنها إحدى جزر الكاريبي. ويفترض «مؤنس» أن رحلة هؤلاء «المغررين» تمت حوالي سنة 403هـ / 1013م.
ولا يستبعد مصطفى الشهابي في كتابه «الجغرافيون العرب»، أن يكون الشاطئ الذي رسا فيه المغرورون إحدى جزر أمريكا الجنوبية الواقعة شرق البرازيل، لأن المدة التي قطعوها تحملهم إلى تلك المنطقة، ثم يقول «ولا يُستبعد أن يكون هؤلاء العرب قد استوطنوا هذه الجزيرة، ثم توغلوا في القارة الجنوبية».
ويرى شكيب أرسلان في كتابه «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الاندلسية»، أن المغررين وصلوا في رحلتهم إلى جزر الأنتيل الواقعة بين خطي عرض 10 – 27 شمالا، و62 – 87 غربا، وأنهم اتجهوا في المرحلة الأخيرة للرحلة إلى جزر الكناري.
ملك المغرب والجزائر الخالدات
ويروي «قاري» في كتابه المذكور نقلًا عن الإدريسي،، أنه في عهد السلطان علي بن يوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين في المغرب والأندلس (حكم في الفترة من 500هـ / 1107م – 537هـ/ 1143م)، سمع أمير البحر أحمد بن عمر المعروف بدقم الأوز، الذي كان واليًا على جملة من أسطول المرابطين، أن جزيرة تقع قبالة ميناء آسفي بالمغرب، يظهر دخانها عند صفاء البحر، فعزم على الدخول إليها بما معه من المراكب، لكن الموت أدركه قبل الدخول إليها، ولم يبلغ أمله في ذلك.
وفي سنة 740هـ/ 1339م، كان ملك المغرب أبو الحسن بن سعيد المريني بمدينة سبتة، وهناك أخبره عدد من بحارة جنوة برحلة قاموا بها إلى الجزائر الخالدات (تُطلق على جزر الكناري أو الأزور)، وأن أهلها عراة لا يستترون إلا بشيء تافه يستر عوراتهم، وقد احتل الجنويون الجزيرة بعد معركة قصيرة مع أهلها البدائيين الذين فروا من السهام، ولم يجدوا فيها من الحيوان إلا الماعز فقط، وقد جلبوا عبيدًا من أهلها، وقدموا منهم رجلين إلى سلطان المغرب. ولما تعلّم الرجلان العربية أخبرا أن أهل الجزائر الخالدات لم تبلغهم قط خبر دعوة الإسلام، ولا سمعوا له ذكرًا.
ولما توفي أبو الحسن وقام ابنه «أبو عنان»، تاقت نفسه إلى فتح تلك الجزائر، فجهز قائد الأسطول بميناء أزمور المغربي سفينة وشحنها بالرجال، وغاب في البحر شهرين، لكنه عاد من غير أن يعرف لها خبرًا، وفق ما رواه تقي الدين المقريزي في مخطوطة فريدة عنوانها «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة»، نقلًا عن ابن خلدون الذي عاصر الحادثة.
ويبدو أن الأخبار المتعلقة بمثل هذه الرحلات الاستكشافية كان لها انتشار ما في غرب العالم الإسلامي، إذ جرت محاولات أخرى انطلاقًا من مالي، في غرب إفريقيا. يروي «سزكين» في كتابه، أنه قبيل سنة 712هـ/1312م، أمر السلطان محمد أبو أبكر بإرسال أسطول بهدف الوصول إلى الجانب الآخر من المحيط.
وذكر ابن فضل الله العمري في كتابه «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، أن الأسطول أقلع بعد الاستعدادت اللازمة، وتوجه إلى عرض البحر، فجرفه هناك تيار خطير فغرقت كل السفن سوى سفينة واحدة، وبعد هذا ركب السلطان نفسه البحر على رأس أسطول بنفس الهدف، دون أن يتيسر له الرجوع.
أدلة وجود المسلمين في الأمريكتين قبل كولومبوس
ويستعرض «سرهيد» دلائل تؤكد أن العرب اكتشفوا أمريكا قبل كولومبوس، منها ما ذهب إليه باحثون من أن الشعوب الأمريكية القديمة كالأزتيك Aztecs والمايا Maya كانت حضارتهم ذات طابع عربي خالص، وأنه من المرجح أن هذين الشعبين كان يعيشان في مستعمرتين عربيتين أُسستا على الشواطئ الأمريكية في النصف الأخير من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وأن العمران العربي بلغ أوجه في أفريقيا، ومن هناك وصل إلى شاطئ خليج المكسيك، وأنه لما انقطع اتصال العرب بأمريكا اختفى عمران الأزتيك والمايا لأنه كان مبنيًا عليهم، وكان أساسه تجاريًا.
دليل آخر يرتكز على شهادة أدلى بها كولومبوس نفسه لدى رجوعه من رحلته الثالثة، حيث وجد زنوجًا في البلاد التي اكتشفها، وذكر أيضًا أن الهنود الذين لقيهم في رحلته الأولى أهدوا له شيئًا من «الجوانين»، وهو نوع من الذهب الأفريقي الممزوج بالنحاس.
وبحسب «سرهيد»، إذا كان كولومبوس وجد في أمريكا زنوجًا وذهبًا أفريقيًا، فلا بد وأن يكون قد سبقه إليها أناس معهم الزنوج وشذور الذهب الأفريقي الممزوج بالنحاس. وفي أثناء رحلة كولومبوس الثانية أخبره هنود هاييتي أن أناسًا سودًا جاءوا إلى الجزيرة قبل وصوله، ولإثبات ذلك أحضروا له رماحًا لهؤلاء المسلمين السود.
وفي عام 1961 نشر هوي لين، وهو عالم نبات أمريكي من أصل صيني، بحثًا في مجلة «نيو ويك» الأمريكية، بعد إعلانه في مؤتمر الجمعية الشرقية الأمريكية في فلادلفيان، أكد فيه أن الملاحين العرب عبروا المحيط الأطلنطي قبل كولومبوس بثلاثة قرون، بعد أن أمضى ثمانية أعوام في دراسة انتشار السلع الزراعية والنباتية وأنواع الحيوانات في شتى أنحاء العالم، ليعرف الطرق التجارية القديمة والتيارات الحضارية التي شقت طريقها على الدنيا الجديدة، مستندًا في ذلك إلى وثائق صينية من القرنين السادس والسابع الهجري/ الثاني عشر والثالث عشر الميلادي.
وذكر «لين»، أن مدينة تدعى «مولان بي» على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية كانت مصدرًا لمحاصيل يتاجر بها التجار العرب، ومنها الذرة الصفراء والقرع العسلي والفواكه التي نعرفها باسم الجوافة والباباي والأناناس. وأثبتت الوثائق أن هذه المحاصيل كانت معروفة للبحارة العرب الذين قاموا قبل عام 1100 من ميناء الدار البيضاء في المغرب، ورسوا في عدة مواضع في الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية.