حجوا إلى دير المغطس: مشاركة المسلمين في الأعياد المسيحية
قديمًا، اعتاد المصريون– أقباطًا ومسلمين- الاحتفال معًا بـ«الأعياد الوطنية» مثل عيد وفاء النيل، إذ كان النيل بمثابة المؤشر لما ستكون عليه حياتهم جميعًا فإما أن يسود الحزن والخوف من المجاعات والأوبئة، وتشح السلع الغذائية وتخرب الأسواق، وإما أن تعم الخيرات والرخاء بوفائه، وتعلن الاحتفالات والأغاني، ويغلق الأهالي الأسواق في مصر والقاهرة ويتوجهون في أفواج نحو مقياس الروضة كأنهم الحجاج، كما نعرف من «السيوطي» في كتابه «بلبل الروضة»، وهي الحالة التي يمكن أن نستنتج منها طبيعة الاجتماع العمراني الذي عرفه أهل مصر سواء كانوا من سكان الريف أو المدينة، وكيف شكل أقباط مصر على تنوع انتمائهم الديني نسيجًا اجتماعيًا اختلطت فيه عادات قديمة مع ممارسات جديدة، بل يصل بنا المقريزي إلى أبعد من ذلك، ويخبرنا عن اختلاط أنساب المسلمين والمسيحيين.
وإن كان لا يمكن إنكار التمايز السياسي الصارخ الذي عانى منه المسيحيون في دولة سلاطين المماليك، وإن ارتبط هذا التمايز السياسي بضغط اجتماعي كبير، بخاصة في حالة تصدر واحد من المتشددين المشهد السياسي أو الإداري، كمنصب نائب السلطان أو المحتسب وربما والي القاهرة، كما نعرف من كتاب «أهل الذمة في مصر»، لقاسم عبده قاسم، إلا أن ذلك لا يتعارض مع كون المجتمع المصري زمن حكم المماليك قد عرف الاختلاط بين الطوائف الدينية المختلفة في جميع أوجه الحياة اليومية والممارسات الاجتماعية، وبخاصة الاحتفالات السلطانية عند عودة الجيوش منتصرة، فتجتمع المَغاني والمعازف من جميع أقاليم مصر في مشهد صاخب يصوره المقريزي في كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك»، ويخرج الناس في استقبال السلطان، «المسلمون بالختمات واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل والشموع الموقودة»، وفقًا لتاريخ ابن الفرات.
احتفال المصريين برأس السنة
إن كانت المصادر التاريخية قد حفظت لنا أنواع الأعياد المسيحية في المجتمع المصري زمن المماليك، فإن المصادر ذاتها تزخر بتفاصيل عن شكل تلك الاحتفالات، وقد جاء يوم النيروز في مقدمة تلك الاحتفالات وهو رأس السنة القبطية، وفيه تتعطل الأسواق عن البيع وتغلق المدارس، ويخرج عامة الناس إلى البرك والخلجان يتراشُّون بالماء والخمور، ويصل الأمر إلى نزع ملابسهم فيصبح أغلبهم عرايا، والمحتشم منهم بقميص رقيق.
نعرف من كتاب «المدخل» لابن الحاج، أن المسلمين شاركوا المسيحيين كل ممارستهم، و«اتخذوا طعامًا يختص ذلك اليوم، فلا بد من عمل الزلابية والهريسة كل على مقدار حالته»، ومن المسلمين من يأتي بالحلواني يصنعها له في بيته، فيرسلون منها مع طلوع الشمس إلى الأقارب والجيران، إضافة إلى البطيخ والخوخ والبلح، وغير ذلك مما يلزمه النساء لأزواجهن حتى صار كأنه فرض عليهن اكتسبوه من مُخالطتهن نساء المسيحيين.
ويأتي عيد الشهيد كواحد من أهم الأعياد القبطية المرتبط بالنيل التي شارك فيها المسلمون المسيحيين، واعتاد المصريون الاحتفال بذلك اليوم بإلقاء تابوت في نهر النيل، معتقدين أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فإن النيل لن يزيد، نتيجة عادة توارثوها عن أجدادهم.
يسجل العيني في «عقد الجُمان» كيف كان يخرج عامة أهل القاهرة ومصر على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم ينصبون الخيام على شاطئ النيل ناحية شبرا، ويركبون الخيول ويلعبون بها، وفي هذا اليوم يغالي الناس في شرب الخمر، حتى يباع في ليلة واحدة ما يصل إلى مائة ألف درهم من الفضة، وإن كان السلطان بيبرس قد منع الاحتفال بهذا العيد عام 702هـ/ 1303 م فإنه ما لبث أن عاد من جديد ولم يمتنع المصريون مسلمين ومسيحيين من التوافد نحو شبرا بالمراكب والخيول، ويفسر المقريزي ذلك، مشيرًا لارتباط هذا العيد بإتمام الفلاحين خراج أراضيهم وعصرهم الخمور.
المسلمون و«ميلاد المسيح»
ميلاد المسيح أكبر الأعياد المسيحية يتنافس الناس في شراء الشموع والفوانيس فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم، مسلمًا كان أو مسيحيًا، حتى يشتري منها لأولاده وأهله، وفي خميس العهد «خميس أبريل»، يتشارك الأقباط مسلمين ومسيحيين في طبخ العدس المصفى وصبغ البيض بالألوان، وفيه كما يسجل لنا المقريزي، أن مسيحيي مصر كانوا يهادون مسلميها بالسمك المنوع مع العدس والبيض، وتمتلئ الأسواق بنساء المسلمين اللاتي اعتدن الخروج لشراء الخواتم من الصاغة والبخور من العطارين، ويتخطونها سبع مرات حتى تصرف عنهن وعن رجالهن «العين والحسد والوعكة من الجسد»، أما في سبت النور فتشتري النساء الريحان وينقعن أوراقه في الماء ثم يغتسلن بها في اليوم التالي، معتقدين أنها تزيل عنهم الأمراض والحسد، ومن ذلك أيضًا ما نعرفه من ابن الحاج، اكتحالهن صبيحة هذا اليوم بالسَّذَاب والكحل الأسود لاكتساب النور للعيون، ثم الخروج إلى شواطئ النيل.
كذلك، كان عيد الغِطاس في مصر «موسمًا عظيمًا عند أهلها لا ينام الناس فيها»، وهي الليلة الحادية عشرة من شهر طوبة، وهي أحسن ليلة فى مصر وأشملها سرورًا فلا تغلق فيها الدروب، ويحضر فيها إلى شاطئ النيل، وفقًا لخطط المقريزي، آلاف الناس من المسيحيين والمسلمين، فى المراكب النيلية وفي الدور القريبة من النيل، وتوقد المشاعل والشموع، وتضرب الخيم وبها الملاهي والمغنون وأفخر أنواع المآكل والمشارب، ويغطس الناس في النيل ويظنون أنه أمان لهم وشفاء لأمراضهم.
كان المسلمون يغطسون مثل المسيحيين في هذه الليلة، ويتخذون منه موسمًا فيزيدون فيه النفقة، ويتهادون بأطنان القصب، ويُدخلون السرور على أهلهم، كما نعرف من ابن الحاج، وكذلك في عيد الزيتون «الشعانين» يجتمع الأقباط مسلمين ومسيحيين للاغتسال من بئر البلسم في المطرية، وهي بستان ضخم محاط بسور وفيها ينمو شجر البلسم ويتدفق في بئرها الماء الذي اغتسلت به السيدة مريم كما يذكر «طافور» الرحالة الإسباني الذي زارها في النصف الأول من القرن الخامس عشر.
ونعرف من العسقلاني في كتاب «إنباء الغمر بأبناء العمر»، عن حج المسلمين إلى «دير المغطس» بالقرب من بحيرة البرلس، ويجتمع عنده ما لا يحصى من المسلمين والمسيحيين رغبة في التبارك والتجارة، «حتى صاروا يضاهون بذلك أهل عرفة».
محاولات فاشلة للمنع
ويبدو أن مشاركة المسلمين في الممارسة المسيحية والطقوس القبطية فترات الأعياد قد شكل قلقًا كبيرًا للنخب الدينية في دولة المماليك، فأفتى الفقهاء بضرورة هدم الدير، وبالفعل نزل السلطان إلى قولهم وأمر بهدمه سنة 841هـ / 1438م، لكن لا يتجاوز هذا الهدم كونه عملًا سلطويًا يشير إلى تصور النخبة الحاكمة سواء كانت نخبًا دينية ممثلة في قضاة ومُحتسبي المذاهب الأربعة أو النخب العسكرية المتمثلة في الأمراء المماليك وسلطانهم، إلا أننا نرى لأهل مصر من الأقباط المسلمين رأي آخر، و«انظر إلى الخصال الفرعونية كيف بقيت في القبط فسرى ذلك منهم إلى المسلمين.. لمجاورتهم ومخالطتهم، فأنست نفوسهم بعوائد من خّالطوهم، ووضعوا تلك العوائد موضع السنن»، حتى يومنا هذا.
ولو كان ابن الحاج وهو الفقيه المالكي في كتاب «المدخل»، يستنكر انخراط المسلمين في أعياد المسيحيين، بل وزادوا على ذلك أنهم يُهادون المسيحيين في أعيادهم بما يحتاجون إليه من البلح والبطيخ وغيرها، «وهم يعلمون أنها مواسم خاصة بأهل الكتاب»، فإذا ما حلت أعيادهم فإنهم يُهادون المسلمين من أصحاب المكانة الاجتماعية العالية بعضًا مما يصنعونه في بيوتهم من الطعام والحلوى، وعليه فإن ابن الحاج يحث سلاطين المماليك على أن ينهوا المسلمين عن الانخراط في احتفالات المسيحيين، إلا أن ابن تغري بردي المؤرخ المملوكي، يسجل لنا في كتابه «النجوم الزاهرة»، ما كان من اندماج أغلب السلاطين والأمراء مع تلك الاحتفالات بمجالس السمر والشراب، كذلك نعرف من المقريزي في كتاب «السلوك»، محاولات بعض السلاطين نزولًا لطلب الفقهاء بمنع المسلمين الانخراط في الاحتفالات المسيحية قد انتهت جميعها إلى لا شيء، إذ نظر أغلب المسلمين على اختلاف مذاهبهم إلى هذه الأعياد باعتبارها مواسم مصرية في المقام الأول ومتنفسًا لهم من ضغوط ومفاسد أهل السلطة.
«المواسم التي اعتادها أكثرهم وشاركهم في تعظيمها، وهم يعلمون أنها مواسم مختصة بأهل الكتاب، يا ليت ذلك لو كان في العامة خصوصًا ولكنك ترى من ينتسب إلى العلم يفعل ذلك في بيته ويعينهم عليه ويدخل السرور على من عنده بتوسعة النفقة والكسوة، وزاد بعضهم أنهم يُهادون بعض أهل الكتاب في مواسمهم ويرسلون لهم ما يحتاجونه لمواسمهم»، المدخل، ابن الحاج ، المدخل
وإذا كان ابن الحاج أيضًا يستنكر اشتراك المسلمين مع المسيحيين في اللهو وشرب الخمور، واختلاط النساء والبنات في هذه المواسم بالرجال والشباب كأنهم عرايا، فإنه أولًا، يقدم لنا تصورًا فقهيًا للنخب الدينية في هذا العصر الذين اقتصر دورهم السياسي من خلال وظائفهم على تقديم مقترحات شرعية تبدو كحلول لأزمات يواجهها السلاطين، ومقترحات تعكس تصورهم عن مجتمع إسلامي مثالي، ومن ثم انحصر إنتاجهم فى البحث «عما يجب أن يكون»، وهو ما يظهر واضحًا في قول ابن الحاج، «فمن كان باكيًا فليبك على غربة الإسلام و غربة أهله ودثور أكثر معالمه»، إلا أنه ثانيًا، يقدم لنا دون تعمد منه دليلًا تاريخيًا قاطعًا عن شكل الممارسات الاجتماعية التاريخية (ما هو كائن بالفعل)، وينقل لنا عن غير قصد لذلك صورة عامة عن طبيعة الحياة الاجتماعية في مصر التي قد تمتد تاريخيًا متجاوزة عصر المماليك.