سير المغنين وصيد الجوائز: هل السينما مهووسة بالغناء؟
عندما اكتسبت السينما صوتها، وخرجت عن صمت ميزها منذ بداية اختراعها، لم تنطق كلامًا، بل نطقت غناءً، يعتبر «مغني الجاز» أول فيلم ناطق في تاريخ السينما، يبدأ الفيلم بكروت مكتوبة مثل أي فيلم صامت، يصاحب الفيلم موسيقى مثل أي فيلم صامت كذلك، لكن في لحظة ما نسمع صوتًا بشريًا، صوت غناء طفل يحاول أن يتحرر من سلطة أبيه المنشد اليهودي الملتزم لكي يصبح نجم جاز، يبدو صوت الغناء غريبًا بينما لا نسمع أي صوت لكلام الممثلين، نستمع أيضًا لصوت الكورال الديني الباكي، يكبر الطفل لكي يصبح مغني الجاز نسمع صوت غنائه المتماشي مع حركة شفاهه وحركات جسده الراقصة وفي لحظة إنهائه فقرته الأولى ينطق قائلاً: «انتظروا لحظة، انتظروا لحظة، أنتم لم تسمعوا شيئًا بعد».
تلك هي أول كلمات نطقتها السينما، لم تسمعوا شيئًا بعد، وهي جملة دقيقة بالفعل، ستصبح السينما مليئة بالحوارات والنقاشات الممتدة، بالغناء والموسيقى، بأصوات الأسلحة ومطاردات السيارات، سيطرأ على السينما التي كانت تعني بالصورة كل ما يخص حاسة السمع ولن يتوقف ذلك عن التجدد.
لكن البداية كانت الغناء، ومن وقتها ارتبطت السينما بفنون أخرى مثل المسرح والموسيقى فأصبح هناك الأفلام الغنائية الاستعراضية التي استفادت من تقنية الصوت لأقصى حد، وبسبب جاذبية الموسيقى وارتباطها بالسينما بدأ نوعان من الأفلام في التداخل: وهي الأفلام الغنائية Musicals، وأفلام السيرة الذاتية، فتم إنتاج عدد من السير الذاتية للموسيقيين يتخللها مقاطع غنائية تعلق في الأذهان وتؤطر موهبة أبطالها في تقمص شخصية المغني وطرائق حركته وحضوره على المسرح، وفي العامين الفائتين ازدهر ذلك النوع بشكل مفاجئ سواء في قصص الموسيقيين الحقيقية مثل فيلم بوهيميان رابسودي أو في القصص المختلقة مثل إعادة إنتاج قصة مولد نجمة، وبسبب نجاح الفيلمين أصبحت هناك موجة من اقتباس قصص الموسيقيين على الشاشة استمرت هذا العام مع مشاريع إنتاجية مستقبلية، فما بعض أسباب جاذبية هذا النوع الفيلمي؟
في عام 2018، صدر أخيرًا فيلم بوهيميان رابسودي Bohemian Rhapsody الذي يتناول حياة نجم الروك المثير للجدل وقائد فريق كوين الموسيقي فريدي ميركوري، بعد سنوات بدت لا نهائية في التحضير، وتغيرات متتابعة في فريق العمل سواء في دور النجم الذي سيؤدي الدور أو حتى المخرج الذي أوكلت له المهمة، وبعد ظهور الفيلم للنور وتولي إخراجه اثنين من المخرجين واستقرار البطولة على المصري الأمريكي رامي مالك، بدأ الفيلم مرتبكًا وغير مكتمل، لم يتلقَّ أفضل التعليقات النقدية بسبب تشظي أسلوبه السردي ومشكلات تقنية واضحة في المونتاج بالإضافة لتسطيحه لشخصية ثرية مثل ميركوري.
لكن ردود الأفعال الأولى لم تنذر بموجة النجاح الساحق التي لحقتها، صدر الفيلم في دور العرض ليلقى نجاحًا مدويًا في جميع دول العالم ومنها مصر، وشهدت أغنيات فريق كوين الشهيرة إعادة اكتشاف من قبل القاعدة الجماهيرية المسبقة للفريق، كما ساهم الفيلم في بناء قاعدة جديدة، ثم أصبح منافسًا كبيرًا في موسم الجوائز الأمريكية حاصدًا جوائز في أكثر من فئة منها التمثيل والمونتاج والصوت وهو ما لم يكن متوقعًا، فأصبح مفضل الجماهير ومفضل المصوتين في ذلك العام.
وهو العام الذي ضم فيلمًا موسيقيًا آخر يحصد الجوائز والآراء الإيجابية، وهو فيلم لمخرج يقوم بالإخراج لأول مرة، الممثل الشهير برادلي كوبر في إعادة إنتاج لفيلم مولد نجمة A Star is Born للمرة الرابعة بعد صدوره لأول مرة عام 1937، نجح الفيلم بشكل مدوٍّ ونجحت أغانيه الأصلية التي غنتها بطلته ليدي جاجا وأصبحت أغنيات العام دون منافس، فبدا عام 2018 عام الأفلام الموسيقية، وقصص النجاح والسقوط، بوهيميان رابسودي هو قصة شاب صعد من اللا شيء إلى قمة العالم، ومولد نجمة يحكي قصة أفول نجم ليسطع آخر وكلتا القصتين تجد قبولًا ونجاحًا جماهيريًا بسبب الحلم الذي يعد به الفن وأيضًا بسبب الواقع الأليم الذي لا يمكن إنكاره عند الوصول للحلم.
قصص النجاح والسقوط
بعد ما سيطرت على 2018 قصص المغنين والأفلام الغنائية، لحقت بها 2019 سريعًا فتم إنتاج فيلم عن قصة مطرب الروك الشهير إلتون جون بعنوان روكيتمان Rocketman، وفيلم آخر عن المغنية والممثلة الأيقونية جودي جارلاند بعنوان Judy، ويبدو الفيلمان كمرآة لنظائرهما في العام الفائت.
يمكن موازاة قصة التون جون وقصة فريدي ميركوري، نجمان موهوبان منذ الطفولة، ذوا ميول مثلية تجعل اندماجهما بمجتمعاتهما أصعب، كما يملكان مشكلات مع مظهرهما وطبيعة تقبلهما لذواتهما، لكن الفن يعالج ذلك، يفسح لهما المجال للتعبير عن أرواحهما بحرية، يرتديان الملابس اللامعة ويرقصان بحرية لا يتيحها لهم إلا الفن، تنفتح حيواتهما الجنسية ويواجهان مشكلات مع المخدرات والحب، وعلى مدار رحلتهما وعثراتهما يحتميان بالفن والغناء ويتخطيان عوائق شركات الإنتاج بموهبتهما الفذة فيصعدان من عائلتهما الضاغطة إلى قمة العالم، قصص النجاح المستحيلة تلك لطالما كانت عنصر جذب فعال في السينما، يرى الشخص العادي نفسه كمستضعف مثل الطفل أو الشاب الفاقد طريقه أمامه على الشاشة في انتظار فرصة سحرية تغير عالمه بل والعالم كله للأبد.
وعلى الجانب الآخر، يحكي مولد نجمة قصة مأساة الشهرة والنجومية، الفن في هذه الحالة لا يحمي صاحبه من العالم بل يوصله للقاع، يجاهد جاكسون ماين نجم الكانتري إدمان الكحول والاكتئاب الشديد، يعاني في الغناء على المسرح ويحرج نفسه أمام العالم كله في أشهر حفلات التلفزيون.
بينما يحكي فيلم جودي قصة حياة جودي جارلاند في مرحلة أفول نجوميتها، إفلاس ومعركة على وصاية الأولاد، مشكلات مع العقاقير والشراب، بالإضافة لأن الفيلم يتأمل معاملة هوليوود المروعة للأطفال المشاهير، كلا الفيلمين يتعامل مع الجانب المظلم للفن والشهرة، تحكم المنتجين ومحو الهوية الفنية والذاتية، مشكلات مثل الاكتئاب والإدمان والتي قد تصل للانتحار لطالما ارتبطت بالفن، تناولتها الأفلام الأربعة لكن أجواء جودي ومولد نجمة تجنح نحو الظلام، وتتعامل مع مرحلة ما بعد تخطي نشوة النجاح، فتعطينا فرصة للتطفل على حياة المشاهير ومشاعرهم الداخلية سواء كانوا حقيقيين أو متخيلين.
التقمص واصطياد الجوائز
في حالة إذا كانت تلك الأفلام الموسيقية سيرة ذاتية يصبح تأثيرها أكبر، كما أن فرص النجاح المتعلقة بالحصول على الجوائز تتزايد، هناك حالة من الألفة تُخلق من كوننا نرى شبيهًا بنجمنا المفضل، يتحدث مثله ويغني مثله، كما أن صنع ذلك الشبه سواء عن طريق المكياج والملابس أو عن طريق إمكانيات الممثل من لغة الجسد وتقمص مشاعر الشخصية الأصلية تجعل الدور أكثر قدرة على لفت الأنظار، فهنالك مرجع للمقارنة حينما تكون الشخصية عاشت فعلًا مرة معنا على الأرض.
يرفع ذلك الممثل في مكانة أعلى بسبب قدرته على إعادة الخلق تلك، كما يزيد من قاعدته الجماهيرية بسبب ربطه بشخصية محبوبة أخرى، لفترة طويلة مثلًا ارتبطت شخصية مطرب الجاز الشهير راي تشارلز بالممثل الحائز على الأوسكار عن أدائه للشخصية جايمي فوكس، وفي وقتنا هذا تربط كثير من الأجيال الأصغر التي لم تعاصر شهرة فريدي ميركوري، شخصيته بالممثل رامي مالك.
يمكن اعتبار صنع فيلم سيرة ذاتية لشخصيات فنية ذات جماهيرية عالية خدعة سهلة للوصول للجوائز، لا يتوجب أن يكون الفيلم مبهرًا فنيًا أو تقنيًا، لكن يكفي أن يشبه ذلك الممثل نجم الروك هذا أو تلك الممثلة أسطورة الغناء والتمثيل هذه، لكن الحظ لا يحالف صانعي تلك الأفلام كل مرة، لم يختبر روكيتمان نفس النجاح الخارق للتوقعات رغم تجريبه في الوسيط أكثر من سابقه، يملك روكيتمان محطات مشابهة لبوهيميان رابسودي على مستوى القصة لكنه يختار أن يدمج نوع السيرة الذاتية المعتادة مع نوع آخر وهو الفيلم الغنائي، فلا يكتفي بإدراج الأغاني الشهيرة لالتون جون داخل أحداث الفيلم في الحفلات المختلفة بل يجعلها جزءًا من السرد.
حاز روكيتمان على بعض الجوائز، ومنها جوائز التمثيل لبطله تارون إيجرتون، لكنه لم يحصل على نفس المجد الذي حصده رامي مالك مثلًا ولم يترشح للأوسكار أو يكسر الأرقام القياسية، في حين نجح جودي في حبك الخطة جيدًا، تقدم رينيه زيلويجر أداءً مؤثرًا في فيلم متوسط فنيًا ومن المرجح جدًا أن تحصل على أوسكارها الأول بعد ترشحها عن ذلك الدور، لكن بجانب الجوائز تنجح تلك الأفلام بسبب عامل بسيط للغاية وهو استغلالها لأقدم استخدام للصوت في السينما: الموسيقى والغناء.
جاذبية الموسيقى
أثناء مشاهدة جودي لا يمكن إنكار أن الجميع ينتظر اللحظة التي تنشد فيها جودي جارلاند في جسد رينيه زيلويجر أغنيتها الأشهر Somewhere Over The Rainbow والتي غنتها في فيلم ساحر أوز، وهو فيلم شاهده الكثيرون وتأثروا به في الطفولة، يتركها صناع الفيلم لآخر لحظات لأنها تستحق ذلك الانتظار، يحدث شيء مشابه في بوهيميان رابسودي، ننتظر حتى النهاية لنستمع لأداء ممتد وكامل لأنجح أغاني الفريق والتي استمد الفيلم اسمه منها.
وعلى عكس رينيه زيلويجر التي تدربت على الغناء لشهور وأدت جميع أغاني الفيلم بصوتها؛ فإن رامي مالك كان يزامن شفاهه مع صوت ميركوري الذي يصعب تكراره، وكمن سحر المشهد في تماثله الشديد مع الحدث التاريخي الذي يحاول خلقه من جديد، نحو ثماني عشرة دقيقة تعاد فيها أحداث حفلة لايف ايد 1985 بشكل يكاد يماثل الحقيقة، سواء بسبب أداء رامي مالك وحركاته التي توازي ميركوري، أو بسبب تصوير المسرح والعدد الضخم من المجاميع التي تمثل الجماهير التي حضرت الحفل، فكرة إعادة الخلق تلك تعطي لهذه النوعية من الأفلام رونقًا جديدًا. ففن السينما قادر على إعادة تركيب الواقع، لحظات مثل تلك تكون مفعمة بالنوستالجيا والرغبة في المقارنة، وتصنع نوعًا من الانبهار بقدرة السينما بإعادة التاريخ للحاضر، وبالإضافة لفكرة المقاربة التاريخية، وإرضاء الجمهور المسبق للمطرب أو الفريق فإن تلك الأفلام تعرف جمهورًا جديدًا على موسيقاهم وتصنع قاعدة جماهيرية مبنية على التصور الفيلمي للنجوم وليس النجوم ذواتهم.
لم تكن تلك الأفلام الأولى التي تناولت قصص مطربين ومطربات على الشاشة، بل تناثرت عبر سنوات، فرأينا واكين فينيكس يؤدي جوني كاش وجايمي فوكس يؤدي راي تشارلز، وماريون كوتيار تتقمص إديث بياف، لكنها لم تبدُ كظاهرة متلاحقة، فمنذ الآن توجد اتفاقات على المزيد من السير الذاتية لمشاهير الغناء منها فيلم عن بوب ديلان من بطولة الممثل الواعد تيموثي شالاميه، وفيلم آخر عن نجم الروك ديفيد بوي والذي وللغرابة لم ينجح منتجوه في الحصول على حقوق موسيقاه، فهل سينجح نفس النجاح المتوقع دون أن يحتوي صوت موسيقى بوي؟ وهل تنجح خطة اصطياد الجوائز مجددًا لأي من المشروعين؟