«الميوزيكالية»: مهارة لولاها لما استمتعت بالموسيقى
تخيل معنا هذه المشاهد، في البدء يلتقط أحد العازفين المبتدئين ريشة العود محاولًا بكافة الطرق استخراج لحن علق في ذهنه أثناء سيره في أحد الشواع الهادئة ولكن محاولاته باءت كلها بالفشل، وفي المقابل وبمجرد ما سمع صديقه المتقدم في العزف اللحن أمسك عوده وعزفه كاملًا مع إضافة عدة حليات موسيقية رغم عدم معرفته المسبقة بتنويعات اللحن ونقلاته مما أثار تساؤلات العازف المبتدئ حول قدرته على اكتساب مثل هذه المهارة يومًا ما.
على جانب آخر، وفي أحد الأفراح الشعبية، تتعالى أصوات المهرجان بشكل تفاعلي لا يمكن فصل الرقصات العفوية فيه عن الإيقاع المسيطر على المهرجانات كاملة،يتساءل أحد الحضور: هل هذا فن؟
بالعودة للوراء، وبالتحديد في أحد البارات الأمريكية في منتصف القرن العشرين يقود الغناء والعزف مجموعة من الفنانين ببشرة سمراء وإيقاعات متأثرة بتراث أجدادهم المختطفين من أفريقيا بمجهودات الاستعمار تحت قيادة أجداد الحضور الملتفين حولهم بانبهار، بينما تتمايل أجسامهم مع تمايل إيقاعات الجاز وألحانه.
ننتقل عقب ذلك لقرية هندية، حيث عشرات من المؤمنين بالهندوسية يلتفون في حلقات وينشدون نفس اللحن عشرات المرات المتتالية في توافق وتناغم مثيرين للانبهار رغم التكوين البدائي للحن، كأنهم في حالة اتحاد مع النغم بلا انفصال.
ثم نعود إلى مصر، وبالتحديد في أوبرا القاهرة أثناء عزف الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفين يقوم الجمهور للتصفيق في أولى السكتتين المشهورتين في تكوين الحركة الرابعة ظنّاً منهم بالخطأ أنها نهاية الحركة، فيقوم أحد الشباب المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية بمحاولة إسكاتهم حتى تكتمل الحركة، يقول لنفسه: بعض الناس لا يقدرون أن الصمت جزء من اللحن، ويتساءل بعض الجمهور: ما المشكلة في تحية الأوركسترا على أدائها حتى قبل الانتهاء؟
لنختتم مشاهدنا مع رحالة وباحث روحاني في بدايات القرن العشرين يختار البحث عن الروحانية في الشرق على المكوث في بلده الأوروبي، يدرس الصوفية والهندوسية والبوذية وكثيراً من تفريعات هذه المدارس الروحانية ليخرج ببعض التعاليم التي يقرر واعيًا في بداية حياته ألّا يعرضها إلا عن طريق الموسيقى والرقص.
كل هذه المشاهد ليست من وحي الخيال بل هي وقائع حقيقية تلهم الكثير من المؤلفين والدارسين والمستمعين للموسيقى على حد سواء، تطرح تساؤلات عديدة حول طبيعة الموسيقى وطبيعة تأثيرها على من ينتجها ويعزفها ويتلقاها وهل هناك آداب محددة للاستماع، وهل هناك اختلافات بين المجتمعات في التلقي؟
ما الذي يجعل لوناً معيناً من الغناء رائجاً في محيط اجتماعي معين دون غيره؟ كل هذه التساؤلات تطارد عقولنا كبشر منذ عقود مثيرة اهتمام الفلاسفة وعلماء الجمال والاجتماع لإنشاء فروع فكرية وعلمية لدراستها.
الحياة دون موسيقى
تقول إحدى المقولات المشهورة لنيتشه «لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة» ولكننا لا نريد تناول هذه المقولة التناول الرومانسي الشهير الذي يقدس الموسيقى بمعزل عن الإنسان الذي يتلقاها بقدر ما أفضل تناولها من داخل ما يُسمى بالميوزيكالية Musicality وهي دراسة تهتم في أساسها على علاقة الإنسان ووعيه بالموسيقى وتتكاتف فيها الكثير من فروع علوم الأعصاب والمجتمع والنفس بجانب دراسات الموسيقى والفنون المرتبطة بها كالرقص على سبيل المثال، ولذلك يمكننا تحوير جملة نيتشة الشهيرة لتناسب غرض مقالنا الأساسي فنقول «لولا الميوزيكالية لكانت الحياة غلطة».
ما الميوزيكالية؟
كل المشاهد التي عرضناها في بداية المقال تحمل طابعاً من هذه الظاهرة الإنسانية التي تختلف عن الموسيقى، فبينما الموسيقى فن صوتي يهتم علم الميوزيكولوجي بدراسة تكويناته، تهتم الميوزيكالية بالإنسان وقدرته على
تلقي الموسيقى والتعبير عنهاـ لذلك فاهتمامنا الأساسي هنا هو الإنسان.
تدور أساطيرنا الشعبية حول أهمية الموهبة الموسيقية في الغناء والاستماع والعزف والرقص ولكنها تبقى أساطير، فكما اعتاد الإنسان منذ فجر التاريخ أن يخلع على ما يجهله عباءة القداسة، فكذلك الموهبة
الموسيقية هي تحديداً موضوع دراسة الميوزيكالية.
يتصل الإنسان بظواهر كثيرة في عالم الحيوان بحكم تطوره من المملكة ذاتها، ولذلك فالميوزيكالية ليست حصراً على الإنسان فلم يتعلم الحصان التمايل على الإيقاع، ولم يتعلم العندليب الغناء تعبيراً عن إحساسه خوفاً أو رغبة، كذلك فكل إنسان يملك قدراً من الميوزيكالية تتجاوز هذه الظواهر البسيطة عند باقي الحيوانات لقدرة أكبر من التعقيد.
تعتبر الميوزيكالية مهارة يمكن اكتسابها والتدرج فيها فعلى عكس مفهوم الموهبة التي تنسب الإعجاز لمالكها فإن الميوزيكالية تؤكد قدرة الإنسان على التدرج في اكتساب المهارات الموسيقية وتنقسم لمجموعتين من
المهارات، مهارات التلقي ومهارات التعبير.
التلقي الموسيقي: المهارات والخيال
تضم مجموعة «التلقي الموسيقي » مجموعة من المهارات يمكن تسميتها مجملاً بالحساسية الموسيقية، وهذه الحساسية تستقبل مكونات الموسيقى بعمق فتدرك تكوينات الألحان والإيقاع والسرعة والشعور بدقة وكون الحساسية مرتبطة بالاستقبال فلا بد من الحديث عن المخيلة.
خلف كل الفنون يوجد عنصر الخيال، وهو قادر على دمج كل شيء في الحياة وخلق الحركة وتجسيدها داخلنا، فعند الاستماع بحساسية أغنية ما فإن المخيلة تتشرب بعناصرها فتجد نفسك جاهزاً للتحرك
على الإيقاع بالسرعة المناسبة وجاهزاً للتأثر شعورياً، المخيلة تتشرب بكل شيء تسمعه لتكون جاهزة لتظهر التعبيرات على الجسد.
من هنا يمكننا أن نقسم التلقي إلى مهارة الحساسية التي تنمو بالتدريب وملكة التخيل التي تتشرب كل شيء لتكون جاهزة لربط الجسد بالموسيقى.
التعبير الموسيقي: الحركة والرقص
عندما تتشرب المخيلة العناصر الموسيقية تستطيع أن تعبر بالعزف أو الرقص أو حتى التعبيرات المجردة البسيطة من حركة الجسد وغيرها، ففي مهارات التعبير الموسيقي يتحول الإنسان لمنتج للاصوات المنتظمة، يتعلم الغناء الصحيح حتى لو كان صوته ذا خامة متواضعة ويتعلم العزف والدندنة والتلحين و الارتجال
العفوي الموسيقي، كل هذه المهارات التي تلزم العازفين و الملحنين هي في البداية نتاج الميوزيكالية التعبيرية.
في النهاية، فإن الأساس يكمن في المخيلة وهي قادرة على التواصل مع كل شيء في الحياة حتى تحويل الأصوات المألوفة إلى تركيبات يمكن استخدامها موسيقياً وسنتعرض لاحقاً بتفصيل أكبر لكيفية تنمية هذه المهارات.
لكن يكفينا في ختام هذا المقال الإشارة إلى أن الموسيقى لا توجد في معزل عن الإنسان وأن تطور استماعنا للموسيقى رهن مخيلتنا وقدرتنا على تركيز انتباهنا لتفاصيل الأصوات لا لتحليلها بل بهدف التشبع بها والاندماج معها، هكذا ينتهي الانفصال بيننا وبين الموسيقى فتولد الميوزيكالية كوحدة كلية لولاها لما كانت للموسيقى معنى.