من المتاحف المنسية: متحف الجمعية الجغرافية
لا تكف القاهرة عن مفاجآتها لمحبي تراثها وزائريها المحبين لتاريخها، وما زالت إلى اليوم تمتلك كنوزًا مستترة تحفل بكنوز الذاكرة الشعبية. ومن بين تلك المتاحف المنسية المصرية؛ متحف الجمعية الجغرافية بالقاهرة.
يعتبر هذا المتحف من المتاحف غير المعروفة نسبيًا على خريطة مزارات ومتاحف القاهرة، على الرغم من تفرد محتوياته، وموقعه المميز بالقرب من ميدان التحرير، ويعود ذلك لعدة أسباب، وهي: موضع المتحف بمقر الجمعية الجغرافية المصرية والذي يقع في حرم عدد من الأبنية السياسية، ومن بينها مقار مجلسي الشعب والشورى ووزارة النقل في شارع القصر العيني بالقرب من منطقة ميدان التحرير بمحافظة القاهرة. مما يتسبب في صعوبة الوصول إلى المتحف، حيث لم يعد الزائر يستطيع الدخول إليه إلا من خلال مدخل مجلس الشورى، حيث الإجراءات الأمنية مشددة.
وبالإضافة لذلك، يفتح المتحف أبوابه وفقًا لمواعيد محددة وليس كافة أيام الأسبوع، وهي مرتبطة بشكل أساسي بتواجد المهندس أحمد مكاوي، مدير عام المتحف الذي يعد المصدر الرئيسي لتاريخ المتحف وحارسه الأمين منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو من عكف على إصدار الدليل الوحيد الخاص بالمتحف باللغة العربية. وتعتبر تبعية المتحف للجمعية الجغرافية المصرية، وليس لقطاع المتاحف المصرية بوزارة الآثار المصرية سببًا إضافيًا لعدم تطويره والتعريف به بما يتناسب وقيمته التاريخية والتراثية والأثرية. دعنا عزيزي القارئ أولاً نعود بالزمن قليلاً لنتعرف على قصة هذا المتحف الفريد؛ متحف الجمعية الجغرافية أو المتحف الاثنوجرافي بالقاهرة.
كان لوتيرة الحياة الأوروبية المظهر في مطلع القرن العشرين دافعًا للحفاظ على روح وذاكرة مصر الشعبية، ونمط حياة أهل مصر الذي يقوم على المهن والحرف اليدوية التقليدية، فكان إنشاء المتحف الاثنوجرافي بالقاهرة التابع للجمعية الجغرافية المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا، ليضم في جنباته التراث الحضاري والثقافي التقليدي في وادي النيل، وليصبح أول متحف من هذا النوع في مصر والمنطقة العربية وقارة إفريقيا.
فطن حُكام مصر من أفراد الأسرة العلوية لأهمية الكشوف الجغرافية، وتزايد الاهتمام بالجغرافيا والمشتغلون بها تدريجيًا، إلى أن بلغ النشاط الجغرافي الحديث في مصر ذروته بإنشاء الخديو إسماعيل باشا «الجمعية الجغرافية الخديوية» وفقًا لمرسوم ملكي نُشر في جريدة «الوقائع المصرية» عام 1875م، بهدف زيادة الاهتمام بالمجال الجغرافي، والتشجيع على استكشاف الأقاليم المختلفة داخل مصر وفي قلب قارة إفريقيا، لتكون بذلك تاسع جمعية جغرافية على مستوى العالم، وإحدى أقدم الجمعيات العلمية في مصر، التي وجهت عنايتها إلى استكشاف أعالي نهر النيل والسودان بإرسال المستكشفين الجغرافيين المصريين.
وقد تغير موقع الجمعية عدة مرات؛ فكان المقر الأصلي للجمعية وقت إنشائها قاعة في منزل «محمد بك الدفتردار»، زوج إحدى بنات محمد علي باشا. وقد انتقلت الجمعية في عام 1878م بعد توسع نشاطها إلى مقر جديد، ما لبثت إلا أن غادرته للمرة الثالثة في مقر آخر بشارع القصر العيني، وذلك عندما تقرر إنشاء متحف يعرض المجموعات الاثنوجرافية الملحقة بالجمعية الجغرافية الآخذة في النمو عام 1895م. وقد تم هدم هذا المبنى لاحقًا لإنشاء مبنى مجلس الشعب المصري، فانتقل للمرة الرابعة عام 1925م إلى مقره الحالي الكائن داخل أسوار مجلس الشورى المصري بشارع القصر العيني، بمناسبة مرور خمسين عامًا على إنشاء الجمعية، في موضع يضم أبرز الأبنية السياسية المصرية بقلب ميدان القاهرة. وقد تم تسجيل مقر الجمعية الجغرافية والمتحف التابع له ضمن عداد الآثار المصرية لروعته المعمارية وزخارفه الفنية.
ولما كانت عجلة الزمن تدور دورتها سريعًا منذ أوائل القرن العشرين، وبدأت مظاهر الحياة التقليدية في مصر تتبدل وتتغير وفقًا لطراز الحياة الأوروبي الوافد، وأخذت بعض الصناعات والأدوات المحلية في الاندثار تدريجيًا؛ فقد أخذت الجمعية الجغرافية على عاتقها الحفاظ على التراث الشعبي المصري، وصون نماذج من مُكون مصر التراثي قبل أن يختفي بلا رجعة.
كما ساهم عدد من المؤسسات العلمية المصرية في إهداء الجمعية مجموعات مقتنيات تُجسّد العادات والتقاليد المصرية، وتم تصنيف هذه المجموعات واستكمالها عبر اقتناء المزيد من المواد التراثية المصرية. وافتُتِحت قاعتا القاهرة، الخاصة بالعادات والتقاليد، والحرف اليدوية والصناعات عام 1917م في عهد الملك فؤاد الأول (1917-1936م)، وهما بمثابة حجر الزاوية والركن الرئيسي في هذا المتحف، لدرجة أن المتحف يُعرف بين عامة أهل مصر باسم «متحف القاهرة».
وقد أخذت الجمعية الجغرافية ابتداءً من عام 1928م في التوسع وتزويد المجموعة الاثنوجرافية بشراء عدد كبير من التُحف والأدوات المصرية التقليدية من القاهرة وريف مصر، بجانب ما تلقته من مقتنيات على سبيل الإهداء من هواة جمع المقتنيات الأثرية والجغرافية والتراثية. واحتشد للمتحف مادة غزيرة من المقتنيات لإقامة مجموعة من الأقسام، بدلاً من قاعة واحدة فيما سبق، وتكاملت عناصر المتحف في صورته الحالية.
جولة في متحف الجمعية الجغرافية
يتكون مبنى الجمعية الجغرافية في صورته الراهنة من طابقين أرضي وعلوي، وتشغل قاعات المتحف الحيز الأكبر من الطابق الأرضي. وينقسم المتحف إلى عدة أقسام، يعرض كلاً منها مقتنيات مختلفة في ركن خاص. وتحوي قاعات المتحف نماذج من مجموعات إثنوغرافية محددة، وقد نُسقت هذه القاعات حسب تسلسل سير الزائر داخل المتحف؛ فكانت أولى تلك القاعات وأهمها المختصة بعرض وتوثيق عادات وتقاليد سكان القاهرة، تتبعها قاعة الحرف والصناعات المصرية، يليها معرض عام للمتحف، يقود إلى قاعة إفريقيا، وقاعة قناة السويس.
من ثم يجد الزائر في هذا المتحف ذخيرة نفيسة من التراث الإنساني؛ المصري والشرقي والإفريقي. ويعتمد أسلوب العرض المتحفي على تمثيل المشاهد وتجسيد الأشخاص بطريقة عرض مجسمات الديوراما المصغّرة، فضلاً عن بعض طرق العرض المتحفي الأخرى؛ كخزانات العرض، والتعليق المباشر للمعروضات على الجدران والأسقف.
قاعة القاهرة (العادات والتقاليد)
تعد قاعة القاهرة للعادات والتقاليد المصرية أبرز مكونات المتحف، وتُعنى بتمثيل وتسجيل صناعات وخدمات الحياة اليومية لمختلف الشرائح المجتمعية في مدينة القاهرة، خلال الفترة من القرن الثامن عشر وحتى أوائل القرن العشرين الميلادي. وتشمل هذه القاعة على عدة أقسام مختلفة، تُشكل في مجموعها لوحة مُجسدة عن شمائل وعادات أهل العاصمة المصرية، وأهمها قسم أدوات التدخين ويحتفظ هذا القسم بأدوات التدخين في القرون السابقة على القرن العشرين، مثل النرجيلات والجِوز. وقسم أدوات الحلاقة والزينة الذي يحفل بمجموعة نادرة من أدوات الحلاقة منها على سبيل المثال «حمل الحلاق»، وهو وعاء يحمل فيها الحلاق أدواته على أكتافه عارضًا على الناس خدماته، وكان الحلاق يجول بحمله في الموالد والأسواق.
ويعتبر الحلي وأدوات السحر من أهم مقتنيات المتحف كالأساور الذهبية المفرغة والنحاسية المنقوشة، فضلاً عن مقتنيات الطقوس السحرية التي تشتهر بها مصر، ومن أبرزها مجموعة كاملة من الأواني السحرية المعروفة بـ «طاسة الخضة». ويفخر متحف الجمعية الجغرافية باحتفاظه بالعديد من النماذج للآلات الموسيقية والملاهي والألعاب الشعبية التي اندثرت اليوم، وأهمها «صندوق الدنيا»، وهو صندوق خشبي يعرض من خلال ثلاثين صورة قصص للأطفال.
ويتضمن المتحف كذلك ضمن قسم الأعياد والأفراح والمواكب الدينية المحمل النبوي الشريف المؤرخ بحُكم الملك فؤاد الأول، مصنوع من قماش الحرير الأحمر الثقيل، وقد كان المحمل يخرج من مصر، ثم يعود مرة أخرى إليها بعد الحج، حاملاً الكسوة القديمة للكعبة بعد إبدالها بالجديدة. ولا زلنا في رحلة داخل ذاكرة مصر الشعبية في قاعة العادات والتقاليد التي تتضمن حيزًا مخصصًا لعرض مجموعات من الأثاث العربي والمفروشات المنزلية الشرقية، التي كانت يومًا جزءًا من البيوتات الزاهرة في القاهرة القديمة وأصبحت في طي النسيان.
قاعة القاهرة (الحرف والصناعات)
تحتفظ قاعة القاهرة الثانية بنماذج من أنماط الحرف والصناعات المصرية الأصيلة، وخاصة المهن اليدوية التي مارسها المصريون على مر العصور كصناعة النحاس وخراطة الخشب والنسج اليدوي، والتي كانت سائدة في القاهرة ثم اندثر أغلبها بعد انتشار نمط الصناعات الحديثة. ويحتفظ المتحف كذلك بمجموعة من اللوحات الأصلية التي رسمها العلماء المصاحبون للحملة الفرنسية إبان حملتهم على مصر (1798-1801م) وتصور الصُنّاع المصريون إبان عملهم في الحرف اليدوية المختلفة.
وبإمكان الزائر أن يشاهد العديد من الحرف والمهن التي كانت سائدة في هذا العصر من خلال مجسمات صغيرة لأشخاص كلً يعمل في مهنته، مثل السقا، والمنجّد بأدواته من قوس ومضرب، والمكوجي يستعمل مكواة من الحديد الثقيل. ولما كان المصريون القدماء من أوائل الشعوب التي اخترعت النسيج اليدوي؛ فيضم هذا القسم من المتحف مجموعة من الأنوال اليدوية وآلات الغزل اليدوية وقوالب خشبية تستخدم في طبع المنسوجات.
وقد خصّص المتحف قسمًا داخل قاعة الحرف والصناعات مختصًا بعرض صناعة الخرط العربي؛ حيث تُعد أعمال الخشب، وخرطه وتطعيمه بمختلف المواد الثمينة فنًا تقليديًا تخصصت فيه الأمم الشرقية الإسلامية، ومن أهم مدارس هذا الفن «المدرسة القاهرية»، والتي أنتجت الخشب المعشق والمخروط والمرسوم والمحلى بالنقوش الكتابية العربية. وبالإضافة لتلك القاعتين الرئيسيتين يوجد كذلك معرض عام للمتحف خُصص لعرض الأثاث العربي والتُحف المنزلية، فضلاً عن قاعة إفريقيا التي تضم أولى المجموعات التي اقتنتها الجمعية وتختص بإفريقيا عامة، ومنطقة وادي النيل بصورة خاصة.
كما يختص متحف الجمعية الجغرافية بقاعة خاصة لقناة السويس، تضم جميع المقتنيات التي أهدتها شركة قناة السويس للجمعية في العام عام 1930م، وهي تضم وثائق وصورًا وخرائط ومجسمات تلخص تاريخ القناة مذ بدء حفرها في عام 1859م حتى افتتاحها في العام 1869 م في عهد الخديو إسماعيل، ومن أهمها مجسم يمثل «حفر قناة السويس»، وآخر يسجل مظاهر افتتاحها «رحلة عبر القناة».
وما من شك أن المتحف الملحق بالجمعية الجغرافية المصرية بجانب ندرة مقتنياته وأهميتها؛ فإنه يصور للأجيال المعاصرة العادات والحياة اليومية المصرية الشعبية. وبين جدران هذا المتحف ثمة ميراث شعبي، وكنوز مصرية منسية، تنسج لوحة حية للموروث الثقافي والاجتماعي المصري.. مشاهد يومية من الحياة في وادي النيل يعيشها زائر المتحف، فيعود في رحلة إلى زمن مضى، يتفقد مظاهره الشعبية، ويتلمس نمط معيشة المصريين منذ عهد قريب.
وقد دفعت الظروف التي تحول دون الإفادة القصوى من هذا المتحف والتعريف به وزيارته بعض المختصين في أوقات سابقة إلى إطلاق حملة واسعة لإنقاذ تاسع أقدم جمعية جغرافية ومتحفها على مستوى العالم، مطالبين بتسهيل إجراءات الوصول إليه نظرًا لوجوده في حرم مجلس الشورى، وتعذر زيارته بسهولة مثل كافة متاحف الجمهورية من جانب، وعدم تجديد المتحف أو طرق العرض المتحفي به منذ زمن بعيد من جانب آخر نظرًا لعدم تبعيته لقطاع المتاحف بوزارة الآثار المصرية… فهل من مجيب!