موسى جار الله: شيخ الإسلام الروسي بين السوفييت وأتاتورك
يعد موسى جار الله بيجييف ابن فاطمة التركستاني أحد أبرز الشخصيات الإسلامية التي لم تنل حظًّا من الشهرة، رغم كونه آخر شيوخ الإسلام في روسيا إبان الثورة السوفييتية، ورغم جهوده الكبيرة في مجال الدعوة في بلاده وخارجها.
ولد في 1874 (وقيل عام 1878) في روسيا، وكانت عائلته المصدر الأساسي لتعليمه الديني، ودرس في المدارس الدينية بمدينة قازان (عاصمة جمهورية تتارستان الروسية اليوم)، ثم استكمل تحصيله العلمي على يد شيوخ بخارى (بأوزبكستان)، وبدأ الدراسة في الأزهر بالقاهرة عام 1896، ثم انتقل بعد ذلك إلى الحجاز وحج ومكث بمكة ثلاثة أعوام وتسمى بـ «جار الله» لمجاورته للبيت الحرام، ثم إلى الهند حيث درس ستة أشهر في الجامعة الإسلامية دار العلوم بديوبند في رحلة علمية عالمية استغرقت ستة أعوام، شملت أيضًا تركيا ودول وسط آسيا، وفي القاهرة نشر رسالته العلمية: تاريخ القرآن والمخطوطات.
إلى جانب دراسة الفقه الحنفي وعلم الكلام والتصوف وعلوم الشريعة، استطاع أن يتعلم عددًا من اللغات كالعربية والفارسية والتركية والتترية، إلى جانب الروسية بالطبع، ولما عاد إلى روسيا عام 1904 درس في كلية الحقوق بجامعة سانت بطرسبرغ، وفي عام 1905، بدأ مسيرته الصحفية بالمشاركة في تأسيس صحيفة أولفات في سانت بطرسبرغ مع عبد الرشيد إبراهيم، أحد أبرز نشطاء الأقلية المسلمة في روسيا، وصاحب مسيرة شبيهة به.
انتقل جار الله إلى قازان، حيث نشر عددًا من المؤلفات في الأدب العربي، والعلوم الإسلامية، وكتابات نقدية لطرق التدريس لدى الأقلية المسلمة، وأثار قضية وجود أخطاء مطبعية في بعض نسخ القرآن في بداية عام 1909، وعمل في مشروع لمجلة خاصة عن الشريعة، مما أدى إلى إصدار كتاب قواعد الفقه.
في عام 1917 تعرضت روسيا لزلزالين سياسيين هائلين، إذ اندلعت في فبراير/شباط ثورة أنهت عقودًا من الحكم القيصري، تبعتها في أكتوبر/تشرين الأول ثورة أخرى أتت بالشيوعيين البلاشفة إلى سدة الحكم، ليبدأ بعدها عهد الاتحاد السوفييتي، وفي هذا العام انتُخب جار الله عضوًا في «المجلس الإسلامي الروسي»، وتولى إمامة جامع بتروغراد (سانت بطرسبرغ) الكبير، وأنشأ مدارس لتعليم التتار المسلمين، وصار يُطلق عليه «شيخ الإسلام في روسيا» في هذه المرحلة الصعبة التي شهدت اضطرابات سياسية كثيرة وتدخلات خارجية سياسية وعسكرية خلال سنوات الحرب الأهلية التي راح ضحيتها ملايين المواطنين.
اشتغل جار الله بتدريس الشريعة واللغة العربية، وشارك في المنتديات الإسلامية حول العالم ممثلًا لبلاده، أبرزها المؤتمر الإسلامي العالمي الأول في مكة عام 1926.
في عام 1923، صدر كتابه الشهير «نداء لبناء الأمة الإسلامية» في برلين، وفيه انتقد الشيوعية بشدة، وادَّعى عداءها للإسلام، وتم سجنه بسبب هذا الكتاب.
بعد إطلاق سراحه تعرض للتضييق، لكنه لم يتوقف عن عمله، وبدأت الممارسات القمعية تترسخ في الاتحاد السوفييتي في الحقبة الستالينية واضطهاد الأقليات خاصة المتدينين منهم، وهو ما عارضه جار الله علانيةً، فتم حرمانه من موارد الدخل لدرجة عدم استطاعة أسرته الحصول على الطعام بأمر من السلطات الشيوعية، فلجأ إلى الهجرة عام 1930.
الوشيعة في نقض عقائد الشيعة
بعد هجرته من وطنه عام 1930، انطلق متنقلًا بين الدول الإسلامية لتبدأ رحلة أخرى في حياته وفصل جديد من النضال في ساحة مختلفة تمامًا؛ فقد خرج إلى تركستان الشرقية (تقع حاليًّا تحت الاحتلال الصيني)، ثم طاجيكستان، ثم أفغانستان، وانتهز الفرصة للسياحة في البلاد الإسلامية، وتنقل بين الدول الإسلامية التي زارها في رحلته العلمية وهو طالب صغير، لكنه زاد عليها هذه المرة دولتين، هما إيران والعراق، حيث اصطدم بممارسات المذهب الشيعي هناك، وألف كتابه الشهير «الوشيعة في نقض عقائد الشيعة».
ويحكي في كتابه أنه أمضى أكثر من سبعة أشهر متجولًا بين مدن إيران والعراق، وقضى وقتًا طويلًا في مدينتي كربلاء والنجف المقدستين لدى الشيعة، وحضر كثيرًا من دروس المذهب في البيوت والمساجد والمدارس، وشهد مراسم عاشوراء بكاملها وأيام العزاء الكثيرة، وصلى خلف كبار أئمة التشيع الاثني عشري، واستفاد من إتقانه للغتين الفارسية والعربية.
ويحكي استياءه الشديد من عدم وجود أي شخص هناك يحفظ القرآن، ولا حتى من كبار علماء الشيعة، وكذلك انتشار القول بتحريف القرآن ولعن كبار الصحابة، خاصة أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمهات المؤمنين، واستنكر حرصهم على عدم إقامة صلاة الجمعة في كل المناطق التي زارها ما عدا مدينة بوشهر على الخليج العربي فقط، وأنه قدَّم ورقة لرجل الدين الشيعي، المحسن الأمين العاملي ومجتهدي طهران، يشرح فيها مآخذه التي رآها خلال تنقلاته، ويقول: ثم لم أرَ حضرة السيد، وسمعت خطيبًا في حفلة أتى بكلمات دلت على أن تلك الورقة تداولتها الأيدي.
ويشرح محاولاته مع علماء الشيعة في النجف للتقريب بينهم وبين أهل السنة، وكيف أنه تبنى مشروعًا للاعتراف بمذهبهم في بلاد الإسلام كمذهب خامس، ويرى أن الشرط الأساسي لنجاح هذا المشروع هو تخليهم عن بعض ما يخالف أصول مذهبهم نفسه من الأشياء الدخيلة عليه، والتي يناقض بعضها بعضًا، وتخالف أصول الدين.
ويستفيض في الكتاب في تحليل الخطاب الديني الاثني عشري الذي شاهده وقرأه، خاصة كتاب «أصل الشيعة» الذي أهداه له مؤلفه محمد الحسين آل كاشف الغطاء، إمام مجتهدي المذهب في زمانه، بعد أن زاره في بيته بالنجف، ويسهب في مناقشة الخلافات الفكرية والفقهية.
ويقول: «إني لا أنكر إلا مسائل فيها ضرر للإسلام وللشيعة وللأمة في قوتها ووحدتها وائتلاف قلوبها، لا أبحث عن ضلال المسائل وصوابها، وإنما أقوم عليها قيام من ينكرها لضررها»، ويستفيض في نقاشات علمية طويلة مؤداها الاستدلال على نظرية «عصمة الأمة» بدلًا من «عصمة الأئمة»؛ أي إن الأمة الإسلامية راشدة لا تحتاج لوصاية إمام، بل ما تزال تخرج أجيالًا تستطيع النهوض بكل أعباء الرسالة في كل العصور.
لكن ما كان لرسالة أو كتاب أن يغير من واقع أمة ترسخ عبر القرون، فبعد أن وجه مذكرة تفصيلية بهذه المسائل إلى علماء الشيعة عام 1935 تلقَّى ردًّا كتابيًّا بعد سنة وزيادة من كبير مجتهدي الشيعة بالبصرة يقع في تسعين صفحة، وهذا هو ما انتهت إليه هذه المحاولة التي لم يُكتَب لها النجاح.
جار الأزهر
نشط جار الله في ترجمة الكتب الإسلامية ونشرها، فقد عمل على إعداد ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التترية عام 2012، ولكن لم يستطع نشرها في حينه، كما أصدر كتاب «المرأة في ضوء آيات القرآن الكريم» خصصه للحديث عن قضايا المرأة في وقت يعتبر مبكرًا نسبيًّا، وأصدر عددًا من المؤلفات العلمية التخصصية مثل «تاريخ القرآن والمصاحف»، و«شرح ناظمة الزهر في عد الآيات»، و«أيام حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم» في ضبط تواريخ السيرة النبوية، و«نظام التقويم في الإسلام»، و«نظام النسيء عند العرب»، و«شرح بلوغ المرام» في الفقه، و«شرح عقيلة أتراب القصائد» في علم رسم المصاحف.
وأثار العديد من آرائه جدلًا وانتقادات؛ كتوسعه في إدخال فئات عديدة من البشر إلى دائرة الإيمان خلافًا لمن سبقه من الفقهاء، واتُّهم كذلك بالتعصب لعرقه التركي وتأييد أتاتورك بدوافع قومية رغم إلغائه الخلافة العثمانية وإنهاء الحكم بالشريعة، حيث يرى أنه لم يُلغِ سوى اسم الخلافة بعد زوال حقيقتها.
وفي نهاية رحلة حياته استقر شيخ الإسلام الروسي في مصر التي سبق أن زارها ومكث فيها للتعلم وخبر أهلها وعلماءها، فعكف على التأليف والقراءة، حتى توفي في دار للعجزة بالقاهرة عام 1949 بعيدًا عن أهله ووطنه دون أن ينال حظه من الشهرة على الرغم من كل إسهاماته العلمية الكبيرة.