مريد البرغوثي: المحبة أقوى من الموت
بهذه الكلمات عرف المصريون «مريد البرغوثي»، ورددها وراء الابن «تميم البرغوثي» العرب كلهم، وقبل تلك الكلمات بسنوات كانت حكاية الحب التي ربطت الروائية والأكاديمية المصرية «رضوى عاشور» بالشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي من أجمل حكايات الحب التي عرفها الوسط الأدبي في مصر والعالم، روى مريد أطرافًا منها، ومن سيرة حياته وعلاقته في كتابيه «رأيت رام الله» و«ولدت هناك ولدت هنا».
كحكاية كثير من الفلسطينيين بين الحرب والغربة بين العيش على صوت القنابل وصوت الزغاريد، بدأت حياة مريد البرغوثي في فلسطين 1944 في قرية دير غسانة قرب رام الله، وتمكن من السفر لمصر من أجل الدراسة في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، وكانت المفارقة أن يكون عام تخرجه هو عام النكسة 1967 حينما احتلت إسرائيل الضفة الغربية، ومنعته من العودة إلى موطنه!
عُرف مريد البرغوثي شاعرًا ذا صوت خاص، ولا شك أن فلسطين كانت حاضرة دائمًا في كتابته وقصائده، أصدر ديوانه الأول عام 1972 وكان بعنوان «الطوفان وإعادة التكوين» عن دار العودة، وكان يعد هذا الديوان من أهم أعماله الشعرية حتى بعد صدور دواوينه الشعرية كلها التي بلغت 12 ديوانًا، ذلك أنه الديوان الذي عرَّفه إلى الوسط الأدبي والثقافي في مصر والعالم العربي، وكان بمثابة محاولة لدخول نادي الشعر الذي يبلغ عمره آلاف السنوات.
انتمى مريد البرغوثي لمدرسة شعرية خاصة، لا ترى في اللغة المباشرة والتقريرية شعرًا أبدًا، فلم يكن يهتم بالتغني المبالغ فيه بالوطن أو الحركات الفدائية، بل يذهب دومًا إلى مساءلة الإنسانية والحياة بشكلٍ عام، حتى لو كانت قصيدته نابعة من بين مآسي حياته الصعبة، ومشكلات التهجير والغربة التي فرضت نفسها عليه في وقت مبكر من حياته، وربما كان ذلك إدراكًا مبكرًا من الشاعر أن بإمكانه أن يعيد صياغة تجربته بالكامل في كتابة نثرية سردية شديدة الجمال والتميز، وهو ما فعله بعد ذلك في “رأيت رام الله” الذي صدر عام 1997 وحاز على جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية في القاهرة، وحكى فيه تجربة عودته لفلسطين بعد غربة دامت ثلاثين سنة.
في سيرته الروائية الجميلة «رأيت رام الله» يعرض مريد البرغوثي حكايته منذ البداية، أيام دراسته الجامعية في القاهرة، وكيف كان وقع الهزيمة عليهم في عام 1967 مضاعفًا، حيث لم يقتصر الأمر على الهزيمة العسكرية، ولكن تبعها حرمانه من العودة إلى موطنه، وهو ما دفع به إلى الشتات! كتب المفكر الكبير إدوارد سعيد عن رأيت رام الله:
في الجزء الثاني من سيرته «ولدت هناك ولدت هنا» يحمل الشاعر ابنه تميم البرغوثي، ويخوض به تجربة عودته إلى موطنه، بعد عشر سنوات، يرصد فيه برهافة وإحساسٍ وشاعرية تفاصيل حياة الفلسطيني في أرضه وخارجها، وكيف عاش وعانى هو وزوجته، وكيف ينقل هذه الخبرة الجمالية والحياتية والفنية لابنه ولأجيالٍ تالية بعده.
يحكي مريد في كتابته وسيرته تفاصيل المواقف والأحداث التي مر بها هو وابنه، حكايات شديدة الشاعرية والتقاط ذكي للمواقف المعبِّرة التي يمرون بها بشكلٍ عابر، ولكن تبقى حين سردها وحكايتها ومع أسلوبه الخاص شديدة الجمال والأهمية، ينتقل بذكاء طوال فصول كتابته من الخاص إلى العام، ومن أسئلة الاحتلال والقمع والظلم الذي يقع عليهم إلى أسئلة الهوية والوجود، والدور الذي ينبغي أن يقوم به مثقف وشاعر فلسطيني في هذه الأوقات المأزومة.
مريد ورضوى .. قصة حب لا تنتهي
منذ بداية معرفتنا بهما، ومنذ بداية علاقتهما، كان ثمة ترابط وحب وجمال، يؤكد حضوره دومًا في كتابتهما، سواء في روايات رضوى عاشور التي تعلق بها القراء وأحبوها منذ ثلاثية غرناطة، وحتى وصلنا إلى حكاية «رقية» الطنطورية التي بثَّت فيها رضوى كثيرًا من رحلة حياتها التي تتشابه كثيرًا مع أبطال قصتها، عشنا مع رقيَّة كما عشنا مع مريمة غرناطة، وعشنا مع رضوى ومريد تفاصيل الوجع والألم أكثر في كتابها «أثقل من رضوى» . لم يكن شيئًا في حياتهما مخفيًا عن الناس، كانا يبثان أشواقهما ومحبتهما لتغمر الجميع، وذلك كله بالتوازي مع مشكلات الأرض والثورة والرغبة في التحرر هنا وهناك.
ترحل حبيبته وزوجته رضوى عاشور، فيبقى على عهده بالوفاء لها ولتاريخها وكتابتها ومجهودها الباقي دومًا يتحدث عنها في كل مكان ويذكرها في كل محفل، كتب عنها في حفل تأبينها 2015 :
يجمع هو وابنه مقالاتها المتناثرة ودراساتها المتفرقة ويصدرانها في العام الماضي بكل المحبة والإخلاص في كتابٍ يبقى من أجمل كتب رضوى عاشور هو «لكل المقهورين أجنحة»، ويذكرها وينتظرها كل عام، ويكتب عنها وعن أخويه «منيف» و«مجيد» في ديوانه الأخير «استيقظ كي تحلم»:
تنتهي رحلة الشاعر الكبير مريد البرغوثي وتوافيه المنية أمس 14 فبراير/ شباط، بينما الناس يحتفلون مع أحبائهم، يذهب مريد للقاء زوجته وحبيبته رضوى عاشور. ولا شك أن سيرتهما العطرة، وكتابتهما ستبقى دومًا درسًا للأجيال الجديدة في الحب والمقاومة والانتماء والصدق.