جريمة قتل وراء تأهل بنما للمرة الأولى في تاريخها للمونديال
هكذا غرد رئيس جمهورية بنما «خوان كارلوس فاليرا» على تويتر في الساعات الأولى من صباح الحادي عشر من أكتوبر الماضي. أعلن الرئيس عن عطلة رسمية ليشارك شعب بنما فرحته الكبيرة بالتأهل التاريخي للمرة الأولى للمونديال بعدما تمكن رجال القناة، كما يطلق على لاعبي بنما، من الفوز 2/1 على كوستاريكا.
مثل كل سكان العالم الثالث، كانت المشاركة في مونديال روسيا بمثابة حلم لأهل بنما انتظروه بشغف طوال رحلة التصفيات، ذلك الحلم تحوّل لحقيقة بعد تسديدة اللاعب «رومان توريس» التي سكنت شباك كوستاريكا بالدقيقة 87، ليخرج بعد ذلك عشرات الآلاف من أهالي بنما للشوارع في احتفال هستيري بالظفر ببطاقة التأهل عن قارة أمريكا الجنوبية التي تعج بالمنتخبات القوية.
وصف موقع Tifo Football ما حققه منتخب بنما بأنه انتصار في مواجهة التاريخ والتراجيديا؛ ذلك لأن رجال القناة تمكنوا من مجابهة منتخبات تفوقهم في التاريخ والإمكانيات كالولايات المتحدة والمكسيك وكوستاريكا، أما التراجيديا فكانت إشارة للواقعة المأساوية التي مر بها لاعبو بنما خلال التصفيات عندما وقعت جريمة قتل استهدفت زميلهم «أميلكار هنريكيز»!
واقعة اغتيال اللاعب أمليكار كادت تهدم آمال بنما تمامًا، خصوصًا بعدما أصابت معنويات زملائه في مقتل. لكن وبعكس كل التوقعات، استطاع رفاق هنركيز تحويل صدمة رحيله المفاجئ إلى دافع قوي للغاية يقودهم نحو تحقيق الهدف أكثر من أي وقت مضي. في هذا التقرير نستعرض رحلة صعود بنما للمونديال التي صاحبها كثير من الظروف الاستثنائية.
حسرة روميل فيرنانديز
لا تملك بنما إرثًا كرويًا كبيرًا، حتى أن أبناء القناة لم يشاركوا في أي تصفيات مؤهلة للمونديال إلا بحلول عام 1978 حينما تلقوا أربع هزائم متتالية، من بينها الخسارة بنتيجة 7/0 أمام منتخب جواتيمالا!
رصيد بنما خال أيضًا من أي بطولات سوى الفوز بكأس أوقيانوسيا للأمم في نسختها عام 2009، وكأس أوقيانوسيا هي بطولة تقام كل عامين تقريبًا وتجمع منتخبات معدومة التاريخ والإمكانيات مثل تاهيتي، وجزر سليمان، فانواتو بالإضافة إلى الثنائي الذي اكتسح أغلب نسخ البطولة: نيوزيلندا وأستراليا. كأس أوقيانوسيا هي بطولة بلا قيمة كبيرة، لكنها كانت البداية نحو مطاردة الحلم في عيون لاعب وسط بنما أميلكار هنركيز الذي سجل في نهائي البطولة ليقود بلده نحو لقبهم الأول والأوحد!
بدأ جيل جيد من لاعبي بنما في الظهور خلال البطولة، جيل يمكن الاعتماد عليه في المستقبل لتحقيق هدف كبير. وهذا الهدف الكبير بكل تأكيد كان تصفيات مونديال البرازيل عام 2014.
جذبت بنما الأنظار بعد أن قدم لاعبوها أداءً قويًا خلال تصفيات التأهل. أبناء القناة حققوا نتائج جيدة أمام المكسيك، كوستاريكا، جاميكا. فتمكنوا من حصد ثماني نقاط قبل الجولة الأخيرة من عمر التصفيات، وكان يلزمهم للتأهل الفوز على الولايات المتحدة في ملعب روميل فيرنانديز بعاصمة بنما، وانتظار المفاجأة السارة بخسارة المكسيك من كوستاريكا على أرض الأخيرة.
في منتصف أكتوبر 2013، كان الآلاف من جمهور بنما يتجمعون أمام شاشات التلفاز، وحول سماعات الراديو، لمتابعة مجريات مباراة المكسيك التي انطلقت قبل مباراتهم الفاصلة أمام أمريكا.تحققت الأمنية التي صلّوا من أجلها وفازت كوستاريكا بنتيجة 2/1 لترسل بطاقة التأهل إلى بوابات روميل فيرنانديز على طبق من فضّة.
ظن جمهور بنما أن الأمور في طريقها للحسم، خصوصًا وأن المنتخب الأمريكي كان قد ضمن التأهل ولا يمتلك دوافع قوية على الملعب، حتى أن النجم الأمريكي «مايكل برادلي»لم يلحق بالبعثة المتجهة لبنما، لكن ذلك كان مجرد ظن!
تقدمت بنما بنتيجة 2/1 حتي الوقت بدل الضائع، رقصت وغنت وهتفت جماهير بنما للمونديال، لكن التراجيديا أطلت بوجهها كشبح على بنما، وابتلعت في غمضة عين ملعب روميل فيرنانديز عندما تمكن الضيوف من تسجيل هدف التعادل في اللحظات الأخيرة، ثم قلبوا الطاولة تمامًا على رفاق أمليكار بهدف ثالث.
طارت بطاقة التأهل نحو المكسيك، وضاع حلم بنما، أو سُرِق كما عبّر هنركيز في تصريحاته بحزن شديد!
أين حقوق النساء؟
تصريحات المدرب هيرنان جوميز عن أمليكار هنركيز.
في أغسطس 2011، كانت كرة القدم الكولومبية أمام مأزق أخلاقي صعب. ففي ذلك التوقيت كانت أصابع الاتهام تطارد مدرب المنتخب «هيرنان جوميز» في كل مكان، بعد أن ادعت إحدي السيدات أنه اعتدى عليها بالضرب في عرض الشارع. لاحقًا اعترف جوميز بفعلته وأبدى ندمه الشديد، وعبر عن شعوره بالعار أمام أمه وزوجته والشعب الكولومبي كله.
تصاعدت الأصوات داخل المنظمات النسوية في كولومبيا لإدانة الواقعة، ودعت لإقالة هيرنان سريعًا كعقاب له. وأمام كل تلك الضغوط، خسر جوميز منصبه. كما فضّل أن يتوارى عن الأنظار قليلًا باحثًا عن العفو والغفران.
عاد جوميز للتدريب في كولومبيا بعد فترة غياب. تولى إدارة نادي ديبورتيفو ميدلن موسم 2012/2013، وهناك قابل أمليكار هنركيز كلاعب في صفوف النادي. أُعجِب المدرب كثيرًا بشخصية أمليكار ومنحه الثقة في الملعب.
خلال فترة تولي جوميز تدريب ميدلن، تسرب إليه شعور من الوسط الرياضي بأن وجوده غير مرغوب فيه، وبأن الضغوط عليه لن تنتهي بمرور الوقت، وسيتذكر الجميع الواقعة المشينة بمجرد رؤية وجهه. كان أمليكار يعرف جيدًا أن هيرنان سيرحل لا محالة عن كولومبيا إذا أراد مواصلة عمله، وقد حاول استقطابه لتدريب منتخب بنما للاستفادة من خبراته الواسعة التي امتدت لأكثر من عشرين عامًا.
نجح أمليكار فيما كان يصبو إليه، وتعاقد جوميز مع منتخب بنما في فبراير 2014، ليقودهم نحو فصل جديد لإحياء الحلم الذي مات في ملعب روميل فيرنانديز عام 2013؛ صحيح.. مصائب قوم عند قوم فوائد!
12 رصاصة في قلب بنما
لهيرنان جوميز تاريخ جيد في مساعدة منتخبات أمريكا الجنوبية في التأهل للمونديال، فقد قاد منتخب بلاده كولومبيا لمونديال 1998، ومنتخب الإكوادور لكأس عالم 2002، وللسبب ذاته وقع عليه الاختيار من جانب مسئولي بنما لتعزيز فرص منتخبهم في مونديال 2018.
بدأ مشوار بنما مع التصفيات في نوفمبر 2015، حيث وقعت في مجموعة تضم منتخبات كوستاريكا، هايتي، جاميكا. وهي منتخبات سبق لها اللعب بكأس العالم، وتفوق في الإمكانيات بنما التي كان على منتخبها تحقيق نتائج جيدة لأجل العبور للمرحلة الثانية من التصفيات.
بالفعل أظهر رفاق أمليكار شخصية كبيرة خلال تلك المواجهات، ونجحوا في التأهل رفقة كوستاريكا للمرحلة الثانية. وقعت تلك المرة بنما في مجموعة سداسية تضمها إلى جانب منتخبات أمريكا، المكسيك، هندوراس، كوستاريكا، وترينداد وتوباجو.
نظريًا بدت بنما أنها الطرف الأضعف في المجموعة إلي جانب ترينداد. لكن على أرض الواقع، كانت جهود المدرب جوميز قد أثمرت عن تقدم كبير مع مجموعة من اللاعبين الطموحين الموهوبين. فقد فاجأت بنما الجميع عندما فازت على الهندوراس خارج أرضها، ثم تعادلت مع المكسيك والولايات المتحدة، ليطرح أبناء القناة اسمهم كمرشح قوي للحصول على بطاقة التأهل تحت قيادة هيرنان جوميز.
لكن هيرنان سيصحو في منتصف أبريل عام 2017 على خبر صاعق.قُتِل صديقه ولاعبه الذي رافقه خلال أصعب أيامه في كولومبيا، وشاركه إعادة إحياء الأمل في بنما. مات أمليكار هنركيز لاعب وسط بنما في جريمة قتل بعد أن اعتدى عليه ثلاثة شبان وأطلقوا على جسده 12 رصاصة أردته قتيلًا في الحال!
تحركت السلطات سريعًا للقبض على القاتلين، والوصول إلى دوافعهم. نشرت بعض الصحف على لسان المحققين في القضية أن القتل جاء بسبب ثأر قديم بين عائلة أمليكار وعائلة أخرى، بينما نشرت صحف أخرى عن تورط هنركيز مع بعض العصابات في عملية تهريب المخدرات وعندما اختلفوا كان القتل مصيره. وسواء كان الدافع هذا أو ذاك، فإن النتيجة كانت واحدة وهي رحيل أحد أهم لاعبي بنما في صدمة هزت البلد، وعصفت بكتيبة هيرنان جوميز في وقت حرج جدًا لتضع آمالهم في الصعود لمونديال روسيا على المحك.
درس بنما
بعد مقتل أمليكار، الذي شارك في 85 مباراة دولية، كان أمام بنما خياران؛ الأول، هو إعلان الاستسلام المبكر واستكمال بقية مباريات التصفيات كتحصيل حاصل بلا رغبة حقيقية في مواصلة المشوار الصعب، والثاني، هو السير عكس الظروف التي فُرِضت عليهم بمزيد من التوحد حول الحلم الذي عاش هنركيز لأجله.
اختارت بنما الخيار الثاني. وكانت جنازة أمليكار التي شُيعت من ملعب أرماندو ديللي فالديز دليلًا واضحًا على رغبة لاعبي وجمهور بنما في مواصلة ما بدأه معهم هنركيز، والوقوف في مواجهة العنف بشجاعة. وهنا تحديدًا تحولت جريمة القتل إلى دافع قوي للصعود للمونديال.
في الثامن من يونيو 2017، يدخل أبناء القناة الملعب الوطني في كوستاريكا لأول مرة دون اللاعب رقم 21، كانوا مطالبين بتحقيق نتيجة إيجابية لتعزيز فرصهم، وبالفعل أنجزوا المهمة وعادوا بنقطة ثمينة، هذا التعادل كان برهانًا ساطعًا على أن الأمل والحياة لم يفارقا كتيبة جوميز بعد.
بحلول أكتوبر من العام نفسه، كانت أمريكا الشمالية تحبس أنفاسها بسبب الجولة الأخيرة المرتقبة من التصفيات، بنما ستسقبل كوستاريكا، بينما ستسافر كتيبة الولايات المتحدة إلى ترينداد وتوباجو. أبناء القناة كانوا بحاجة للفوز على كوستاريكا، والتشبث بأمل أن ترسل لهم ترينداد الهدية بتحقيق الفوز على أمريكا.
هُزِم شبح التراجيديا تلك المرة؛ وجاءت الأخبار سريعًا عن تقدم ترينداد بفارق هدفين، وهو ما أشعل ملعب روميل فيرنانديز، وتحوّل الحضور الجماهيري لطاقة دافعة لأبناء القناة من أجل الفوز على كوستاريكا.
في الدقيقة 87 من عمر اللقاء، سيتقدم المدافع رومان توريس للهجوم بهدف استقبال الكرات العالية، وسينجح في اقتناص إحداها ويحولها في شباك الضيوف، لتدخل بنما في مهرجان صاخب من الاحتفالات لم يتوقف إلا بعد ساعات طويلة!
بنما قدمت للكل درسًا في كرة القدم عن تراكم الخبرات، وكيفية تجاوز الأزمات الكبرى، وتقديم أداء جماعي يفوق مستويات الأفراد. سيلعب أبناء القناة أولى مبارياتهم أمام المنتخب البلجيكي في 18 يونيو الجاري، وستحضر صور أمليكار هنركيز ورقمه 21 في مدرجات معلب فيشت الأولمبي، ولا شك أن قصتهم ستجذب احترامًا وتعاطفًا واسعين من كل جماهير العالم.