لم يمر شهر فبراير/ شباط من عام 2020م، إلا وقد رحل عن عالمنا الدكتور محمد عمارة، أحد أعلام الصحوة الإسلامية المعاصرة، وصاحب الإنتاج الغزير في الفكر والثقافة الإسلامية. ولعلَّ أبرز ما يُمكِن أن تُمجَّد به سيرة أمثال الدكتور عمارة، هو تسليط الأضواء على عصارة فكرهم، وخلاصة رحلتهم المعرفية.

في السطور التالية سنركز على اتجاهٍ بارز في أعمال د.محمد عمارة، ورؤاه الإصلاحية للفكر الإسلامي، وهو إعادة النظر إلى التاريخ الإسلامي بشكلٍ مُنصفٍ وتجديدي، ولعل هذا يُعتَبَرُ من أهم جوانب المشروع المعرفي للدكتور عمارة، فالرؤية التاريخية مكوِّنٌ رئيس للهوية، وتنعكس بشكلٍ مباشر وغير مباشر على النظر الحاضر واستشراف المستقبل. وقد أظهرت لنا الكثير من دورس وعِبَر السنوات الماضية أن الكثير من النظرات والأبعاد الفكرية الحاكمة للوعي الإسلامي المعاصر، مبنية على أصولٍ واهية وفاسدة حُمِلَت عبر القرون.

في هذا السياق الإصلاحي للرؤية التاريخية، عمِلَ د.عمارة على إعادة الاعتبار إلى بعض من ظلمهم التاريخ الرسمي -الذي صيغَ وفقَ هوى المُلك العضوض وأفكار عصور الانحطاط- من شخصياتٍ ومدارس فكرية، لا سيَّما تلك التي يمكن أن تُسهِم الرؤية التجديدية لهم في انعكاساتٍ إيجابية على الوعي الإسلامي المعاصر، وتقديم حلول لمعضلات الأمة الكارثية الجاثمة على أنفاس حاضرها ومستقبلها. 

حاول د.عمارة في رحلته لإصلاح النظر إلى التاريخ الإسلامي أن يتقصَّى مسارًا وسيطًا يجمَعُ الأصالة والمُعاصرة، ويتمايز عن كلٍّ من الرؤية السلفية التقليدية، والنظر الاستشراقي، وتيارات التغريب التي هيمَنَت لأكثر من قرنٍ على منابر المعرفة في البلاد الإسلامية. 

المعتزلة ومحاولة بعث عقلانية إسلامية 

وأهمية هذا البحث الذي نُقدّم له الآن، تتعدّى نطاق الإنصاف لهؤلاء الأسلاف، وإبراز مباحثهم حول القضية، إلى مشكلات عصرنا الحاضر، وإنسانِنا العربي المسلم.
المعتزلة والحرية الإنسانية ص 14

أولى د.عمارة تراثَ المعتزلة عناية زائدة، ولذا فلا غرْوَ أن حمَلَ كتابان على الأقل من إنتاجه اسم المعتزلة في العنوان، (المعتزلة والحرية الإنسانية)، و(المعتزلة والثورة).

تعرّضَ المعتزلة قديمًا وحديثًا للكثير من الهجوم من المدارس السُّنيّة التقليدية، والذي يبدأ بالرمي بالابتداع، وقد يصل إلى حدود التكفير، وقد عزّز من تلك النظرة الموقفُ الحدي للمعتزلة ضد الإمام بن حنبل في قضية (خلق القرآن)، واستخدامهم عصا السلطان في عهود المأمون والمعتصم والواثق العباسيين لفرض تلك الرؤية، قبل أن تنقلب الآية في عهد المتوكل الذي أدار وجهَه للمعتزلة.

يرى د.عمارة أنه لا نهضة إسلامية معاصرة دون أن ينشَأ الفردَ المسلم العقلاني الحر، وأن النظر الإيجابي المتوازن لتراث المعتزلة ككل، يساهمُ بدورٍ هام في تأسيس هذا الفرد المسلم، والأصول المعتزلية الخمسة (العدل – التوحيد – الوعد والوعيد – المنزلة بين المنزلتيْن – الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر) تنضح بالكثير من المعاني الجوهرية في هذا التأسيس.

يُرسّخُ أولُّ تلك الأصول وهو العدل، مفهوم أن اللهَ لن يحاسبَ بشرًا غير مسؤولين عن أفعالهم، وبالتالي فهو يُناقضُ روحَ الجبرية التي روّج لها سلاطين الاستبداد منذ عهد معاوية ومن تلاه من الأمويين (المعتزلة والحرية الإنسانية ص11). 

https://www.youtube.com/watch?v=MRayz85RQBA

ويعززُ مفهومُ (المنزلة بين المنزلتيْن) قيمةَ تلك المسئولية، فهو يعتبر أن مرتكبي الكبائر من المسلمين -لا سيّما كبائر حكام الجور ضد شعوبهم- إذا لم يتوبوا قبلَ الموت، فهم فاسقون، ليسوا مؤمنين أو كفارًا، وأنهم مستحقُّون للنار وإن بدرجةٍ من العذاب أقل من الكافرين. وفي هذا المفهوم ردعٌ للظالمين، وتحفيزٌ للناس ضدهم، وفي المقابل هي رؤية وسطٌ بالمقارنة برأي الخوارج الذين كانوا يكفٌرون مرتكبي الكبائر.

واعتبار (الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر) من الأصول عند المعتزلة، يضفي الشرعية على مبدأ الثورة ضد الظالمين والطغاة، وينزع أية قدسية للأفكار الرائجة التي تحبّذ التنازل عن الحرية وعن حق الأمة في تقرير مصيرها، فهو على العكس، يعتبرُ سعيَ الأمة والأفراد في سبيل ذلك واجبًا شرعيًا.

ومفهوم (التوحيد) بمعنى تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل مثيلٍ أو شبيه، وتأويل النصوص التي قد يُفهَم منها تلك المشابهة، واعتبارها من قبيل المجاز الشائع في اللغة العربية، يعززُ من حرية الإنسان، فهو لا يُخضِعه إلا للخالق المُتعالي المُنزّه عن كافة الخلق والتصورات، وبما ينسجمُ مع العقل الحر السليم والفطرة السوية.

يذكر د.عمارة في كتاب (المعتزلة والحرية الإنسانية) ص59:

ففي التوحيدِ إذن تحريرٌ للعقل الإنساني من كثيرٍ من المُعتَقَدات التي لا يهضِمُها هذا العقل، وبخاصةٍ إذا بلغَ قدرًا من الاستنارة والتفكير … وإنَّ نقاءَ التصورِ التوحيديّ والتنزيهيّ لدى المعتزلة هو تأكيدٌ وحرصٌ وتنمية لهذا القدر من التحرر الذي منحه التوحيد لعقل الإنسان. 

وفي المقابل، لم يكن المعتزلة يؤيدون الخروج العبثي بالسيف على الحكام، إنما يجب أن تتوافر عصبة قوية ثائرة يمكن أن تتوافر لها فرص النجاح، وأن يوجَد إمامٌ عادل يصلُحُ أن يكونَ بديلًا للحاكم الجائر.

وكان موقف المعتزلة من قضية فعل الإنسان، وهل هو مجبورٌ عليه  أم مخُيَّر، شديدَ الحدِيَّة في تأييد أن الإنسانَ مُخيَّرٌ مُطلَقًا كأصل -ما لم تُفرَض عليه ظروفٌ خارجية قاهرة تحول دون فعلِ ما يريد- وهذا المفهوم يتسقُ مع تعزيز حريةِ الإنسان وأهمية وجوده وقيمة فِعلِه.

الثائرون على الظلم يدًا ولسانًا

.. إني لأجدُ في قلبي حَرًّا لا يُذهبُهُ إلا بردُ العدلِ أو حرّ السيف! 

بشير الرحال … من الطبقة الرابعة من المعتزلة، استُشهد في ثورة إبراهيم بن عبد الله بن حسن ضد أبي جعفر المنصور العباسي

من الجليّ كما أشَرنا سابقًا أن هناك اتجاهًا طاغيًا في التراث الإسلامي السني، تُبذَل جهودٌ محمومة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي الذي استحال خريفًا من أجل ترسيخه وغزو الوعي واللا وعي به، للنظر السلبي إلى فكرة الثورة على الظلم، واعتبارها مرادفًا للفتنة المذمومة في نصوص الإسلام، وللمؤامرة وللفساد بالمفاهيم الحديثة. وقد أعطى هذا الاتجاه الفكري الفرصة للمستبدين لإضفاء الشرعية على استئثارهم دون الأُمة بالسلطان.

في كتابه (مسلمون ثوار) يدحض د.عمارة تلك الفكرة السائدة بشكلٍ عملي، بتسليطه الأضواء على نماذج متنوعة من كافة عصور وأمكنة الأمة الإسلامية، ثاروا بشتَّى الطرق، مسترشدين بهدْي معاني الإسلام على السائد بقي زمانهم، رغم تبعات هذا الشخصية والعامة.

وفي مقدمة كتاب (المُعتزلة والحرية الإنسانية)، أكد د.عمارة على مدى الأهمية الجذرية لمبحثِ الحرية الإنسانية، وضرورة ترسيخ أصالته في منابع الإسلام، لسحب بساط الشرعية عن المتجبّرين والمصادِرين لحقوق الأمة وحريتها.

… السلفية النصوصية تشُلُّ بالجَبر وبالجبرية فعاليات الإنسان، فتُسهِم في تأييد التخلف السائد في بلاد الإسلام. ومذاهب الغرب في الحرية، قد أفقدتِ الإنسانَ توازنَه واتّزانَه، بعد أن حوّلتْه إلى حيوانٍ مادي، أو فردٍ مُتعالٍ، أو مُغتَربٍ بفعل المادية والإلحاد عن الكون الذي يعيشُ فيه. وليس إلا مذهب الإسلام في الحرية الإنسانية سبيلًا للخروج من هذا المأزق ..
د.محمد عمارة .. كتاب (المعتزلة والحرية الإنسانية) ص6

وفي المثاليْن التالييْن من مظاليم التاريخ الرسمي، من القرن الأول في تاريخ الأمة الإسلامية، يظهر جليًّا اتجاه د.عمارة إلى الإنصاف رغم الاختلاف، فهو لا يؤيد كل ما صدر عن هؤلاء من أقوالٍ وأفعال، إنما يسلط الأضواء على مواجهتهم للظلم، وما يُمكن لنا أن نستفيده من تراثهم المقاوم.

الجهم بن صفوان … إرجاء الناس ضد إرجاء الملوك

الجهمُ من أشهر أصحاب الفكر في العصر الأموي، وإليه تُنسَب مدرسة (الجهمية) الكلامية، وهو من أبرز من تعرّضوا لهجوم علماء المذاهب السُّنّيَّة على مرّ العصور، باعتباره من أبرز أمثلة المُبتدعة، فقد كان يعتنق الجبرية التي تجرد الإنسان مطلقًا من كل قدرةٍ على الفعل، وأنه في قدر الله كالريشة المعلَّقةِ في الهواء، وكذلك كان يتبنى الإرجاء، الذي يُرجئُ الحكمَ على عقائد الناس للآخرة، ويعتبر أنه لا يضرُ مع الإيمان معصية.

ركّز د.عمارة على تاريخ الجهم كثائر، وهو الذي قُتلَ أثناء مشاركته في ثورة الحارث بن سُريْج عام ١١٦م، والتي كان من أبرز مُنظّريها. اندلعت تلك الثورة ضد الأمويين لأسبابٍ متداخلة، من بينها الاحتجاج على سوء أوضاع الموالي في فارس، وإصرار السلطة على تحصيل الجزية ممن أسلموا منهم بحجة أنهم ليسوا مسلمين كما ينبغي بعد.

في كتابه (المعتزلة والحرية الإنسانية ص30 و 31) يزيل د.عمارة التناقص بين كون الجهمِ جبريًا مُرجئًا كالأمويين، وبينَ ثورته عليهم. فالأمويون وبطانتهم يروجون للجبرية لإيهام الناس بأن حكمَهم وأعمالَهم قدرٌ حتميٌّ من الله على الناس الصبر عليه، بينما هو يعتبر الثورة على الظلم، والموت في سبيلها، هي قدر الله المحتوم. ويحبِّذون الإرجاء، حتى لا يُفسّقُهم أو يكفرُهُم أحدٌ بسبب مظالمهم وارتكابهم الكبائر، أما الجهم، فقد كان إرجاؤه دفاعًا عن المسلمين الجدد الذين حكم الولاة على إيمانهم بالنقصان ليستمروا في فرض الجزية عليهم.

غيلان الدمشقي .. الثائر المصلوب 

هلُمَّ إلى متاع الخونة! … تعالوْا إلى متاع الظلمة .. تعالوْا إلى متاع من خلفَ رسولَ الله في أمتِهُ بغيرِ سُنّتِه ..

غيلان الدمشقي صائحًا في الجماهير أثناء مصادرة الأموال التي اكتنزتها الأسرة الأموية، في عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.

في كتابه (مسلمون ثُوَّار) بخصصُ د.عمارة لغيلانَ الدمشقي الفصلَ الخامس، وذلك بعد عمر بن الخطاب، وأبي ذرٍّ الغِفاري، وأسماء بنت الصدّيق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعًا. وفي هذا تكريمٌ غير مباشر لهذا الشخص الذي يجهل اسمه الغالبية العظمى من المسلمين، ومن يعرفُه من طلاب العلمِ الشرعي التقليديين يُبغضونَه، ويمتدحون قاتلَه، بصفته الخليفة الشرعي.

كان غيلان من أوائل المنادين بمذهب (القدَرية) الذي يؤمن بحرية الإنسان الكاملة في الاختيار، وبالتالي بمسؤوليته التامة عن أفعاله. وكان هذا التيار يناقض اتجاه الجبرية الذي ذكرنا كيف حاولَ الأمويون وحاشيتهم ورجال عصرهم ترويجه، وذلك لإيهام جموع الناس أن حكمهم إنما هو قدر الله المحتوم الذي لا ينبغي مواجهته.

كان غيلان من أدباء وخطباء عصره، وكان كثير الهجوم على الأمويين لمظالمهم. لكنه سارع لتأييد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، لأنه توسّم فيه اختلافًا كثيرًا عن سابقيه، وجرت بينهما كما يذكر د.عمارة مناقشات عديدة في مسائل فكرية وعقائدية وواقعية.

وقد استعان عُمر بغيلان في مهمة استيفاء الأموال التي اكتنزتْها الأسرة الأموية من حقوق المسلمين بدون وجه حق، وأظهر غيلان كفاءة وشدة في تلك المهمة، مما أوغر صدور الأمويين تجاهه. ويذكر المؤرخون أن هشام بن عبد الملك الأموي قد أقسم أن يقطع يديْ غيلان ورجليْه إن تمكّن منه.

تُوفي عمر عام 101 هـ بعد خلافةٍ قصيرة لعاميْن، لم يكتمل خلالَها مشروعه الإصلاحي. وعندما تولى هشام بن عبد الملك الخلافة عام 105هـ، أرسل جنده يقلبونَ الأرض بحثًا عن غيلان ورفاقه حتى اعتقلوه، وأمر بصلبِه على أحد أبواب دمشق، وقد قُطّعَت أطرافه. 

أخذ غيلان المصلوب يسبُّ الأمويين ويخطب في الناس بينما تنهمر الدماء من أعلاه ومن أسفله، حتى خوَّفت بطانة هشام خليفتَهُم الباطش من عواقب تأليب غيلان عليه، فأمر هشام بقطع لسانه، فما لبث -رحمه الله- أن تُوفي غيرَ بعيد، بعد أن ذاق ما يذوقُه الأحرارُ في كل عصر، ودفع ثمن الكلمة في وجه أئمة الجور كما كان يسميهم.

خاتمة

كان ما سبق مجرد نماذج لإظهار اتجاه د.عمارة المختلف في النظر إلى التاريخ، ومحاولة علاج ما اختلّ من موازينه وأحكامه بكتابة المنتصرين، وسدنةِ معابد الطغيان. وهناك أمثلة عديدة من تراث الراحل د.محمد عمارة، سنعود لها حتمًا في جولاتٍ لاحقة.