محمد علي وخسرو باشا: خلاف مزّق الدولة العثمانية
فور بداية القرن التاسع عشر، عاشت مصر اضطرابًا سياسيًّا واجتماعيًّا كبيرًا بسبب حالة الخواء السُلطوي التي خلّفتها الحملة الفرنسية على مصر، والتي أدّت لصراع كبير على السُلطة في البلاد، نشب عنه أولى شرارات الحرب طويلة الأمد التي قامت بين خسرو باشا، الوالي العثماني على مصر، ومحمد علي أحد قادة كتائب الأرناؤوط الألبانية، القوّة العسكرية الأكبر في مصر آنذاك.
فعقب رحيل الفرنسيين عن مصر عام 1801م ظهرت على السطح عدد من القوى سعت لاستغلال هذا الفراغ للاستفراد بحُكم مصر؛ الدولة العثمانية اعتبرت أن مصر عادت إلى وضعها قبل الاحتلال الفرنسي وهو التبعية للدولة العليّة، ومثّلها في ذلك قوات الأرناؤوط، وهم جنود ألبان متمرّسون في القتال استعانت بهم إسطنبول في حُكم مصر بعد سنواتٍ قليلة من سيطرتهم عليها، وكان يقودهم الجنرال طاهر باشا ويُعاونه وكيله محمد علي.
بفضل هؤلاء الجنود، كان يُمكن للدولة العثمانية أن تنفرد بحُكم مصر الضعيفة المسلوبة من أي جيش لولا قوة المماليك الذين لم يتزحزحوا عن أرض مصر ولم يتخلوا عن نفوذهم فيها رغم انهيار دولتهم على أيدي الفرنسيين.
في هذه الأثناء كان محمد خسرو باشا هو الوالي الشرعي لمصر المُعيّن من قِبَل الخليفة العثماني، لكنه في الحقيقة كان مكروهًا من الشعب بسبب سياساته المستبدة، كما كانت تعوزه القوة العسكرية الداعمة إلا من قِلة قليلة من الإنكشارية لا تُعينه على تثبيت عرشه لو اندلعت ثورة عسكرية ضده.
محمد علي يضرب العثمانيين بالمماليك ويخرج سالمًا
يقول جرجي زيدان في كتابه «تاريخ مصر الحديث»، إن خسرو باشا سعى لكسر قوة المماليك فأرسل إليهم حملة عسكرية حاربتهم مرارًا من دون فائدة، فطلب من محمد علي وكتيبته الألبانية السفر إلى الصعيد ومعاونة الحملة العسكرية في تحقيق مآربها إلا أنها تأخرت عن موعدها ما مكّن المماليك من إيقاع خسائر جمّة بقوات خسرو باشا.
وبحسب تعبير زيدان فإن خسرو «كان حاقدًا على محمد علي»، فما إن وصله نبأ انهزام حملته على الصعيد حتى أمرَّ بإعدام محمد علي سرًّا، وهو الخبر الذي بلغ محمد علي فنشط فورًا في تدبير سُبُل الإطاحة بخسرو من منصبه.
في جميع الأحوال، لم يكن محمد علي بحاجة لهذا الخلاف الصغير ليسعى للتخلص من خسرو فطالما بقي في الأخير منصبه كوالٍ عن الخليفة سيظل عقبة محمد علي الأولى للوصول إلى حُكم مصر، عقبة من اليسير التعامُل معها بفضل دعم الأرناؤوط والتعاون مع المماليك في الخفاء ضد خسرو. وبداعي تأخر مرتباتهم حرّك محمد علي جنوده الألبان وتبعتهم بقية الفرق الألبانية- بما فيها التي لا تخضع لإمرته شخصيًّا- وتظاهروا ضد خسرو في قلب القاهرة، وهي المظاهرة التي انتهت بالإطاحة به وعزله من منصبه.
فجأة، وجد خسرو نفسه وحيدًا فهرب من القاهرة إلى المنصورة، ومنها إلى الإسكندرية حيث هرب إلى خارج البلاد خوفًا على حياته.
وعقب رحيله كان محمد علي من الذكاء بحيث لا يقدّم نفسه إلى السُلطة في البداية فعمد إلى ترشيح آخرين أقدم منه في الفيالق الألبانية ليحرقهم خلال فترة الفوران السياسي تلك، والتي كان نتيجتها أن حكم مصر 5 ولاة خلال فترة وجيزة بدأت في مارس 1804م وانتهت في مايو 1805م، هم على ترتيب: خسرو باشا، طاهر باشا، أحمد باشا، علي باشا الخزايرلي، وخورشيد باشا.
أتقن محمد علي سياسة «شعرة معاوية»، وتقافز فور اللهب عبر تحالفات هشّة مع المماليك ورجال الأرناؤوط أبقته في عين أصحاب الأرض «رمّانة ميزان» السياسة المصرية حتى خلت الساحة تمامًا لمحمد علي من أي منافس بشكل ساقه إلى العرش محمولاً على أعناق أهل مصر، الذي تصنّع كراهيته له ولأي منصب حكومي.
وفي يوليو 1805م، انصاع السلطان العثماني سليم الثالث لرغبة الزعماء المحليين المصريين- بزعامة عُمر مكرم نقيب الأشراف- وأصدر فرمانًا بتعيين محمد علي واليًا على مصر.
فرمان عثماني مكّن محمد علي، أخيرًا، من تحقيق حُلمه، لكن لم ينسه خسرو باشا الذي بقي مقتنعًا أن محمد علي هو السبب الأول لتجريده من عرشه وضياع حُلم حُكم مصر من يديه.
ماذا بعد الرحيل؟
رغم خروجه المُهين من مصر، فإن ثقة السُلطان العثماني بخسرو منحته سيرة ذاتية حافلة بحُكم الولايات المهمة في الأناضول- منصب والي البوسنة خلال الانتفاضة الصربية ضد العثمانيين عام 1806م، ثم والي أرضروم أثناء التمرد الكردي عام 1818م- وكذلك «الروملي» التي تقع الآن ضمن حدود بلغاريا، حتى أصبح قائدًا عسكريًّا بارزًا في الجيش العثماني وبعدها صار الصدر الأعظم للإمبراطورية الإسلامية بأسرها.
يقول خالد فهمي في كتابه «كل رجال الباشا»، إنه على الرغم من التشابه الكبير في سيرة حياة الرجلين، فكلاهما جمُّ الذكاء والطموح، مهتمين بالإصلاحات العسكرية وإعادة تحسين أوضاع الدولة العثمانية، فإن مصير الرجلين أخذ في الاختلاف منذ افتراقهما على أعتاب سواحل مصر.
فبينما ظفر محمد علي بولاية غنية كمصر جرّب فيها أفكاره بشأن تجديد شباب الدولة فإن خسرو لم يتمكن أبدًا من تحقيق نجاحٍ مُشابه لما فعله الباشا المصري حتى بعد تولّيه حُكم الدولة العثمانية بأسرها بعدما صادف خسرو العديد من العقبات أهمها محمد علي نفسه.
أبرز الأمثلة على ذلك ما وقع خلال الحرب العثمانية اليونانية، والتي تحالَفت فيها مصر مع دولة الخلافة وأيّدتها بجيشٍ جرار على رأسه القائد الفذ إبراهيم باشا، والتي شغل خلالها خسرو منصب القائد العام للأسطول العثماني.
بطبيعة الحالة، أعرب محمد علي عن استيائه عن وجود خسرو في منصب القائد العام، وهو الشعور الذي بادله خسرو بأسوأ منه بسبب رفضه التعاون مع إبراهيم باشا بأي طريقة، وهو ما دفع الأخير للشكوى من هذا الأمر في رسالة سرية بعثها إلى أحد أصدقاء أبيه في إسطنبول قال له فيها «إن الجهود المشتركة لقوات الأسطولين المصري والعثماني قليلة، لأن قيادتهما غير موحدة، ومن المستحيل أن يتعاونا بسبب الكُره القديم الذي يحمله خسرو لأسرتنا».
وبسبب ضغوط محمد علي على الخلافة العثمانية أُزيح خسرو من منصبه، وهو ما زاد من الضغينة بين الرجلين.
يا أنا يا خسرو
نظريًّا، كانت مشاركة مصر العثمانيين في الحرب على اليونان وبالاً على العسكرية المصرية عقب الهزيمة الساحقة التي تعرّض لها الأسطول المصري في معركة نفارين 1827م، لكنها عمليًّا ذرعت أولى بذور الاستقلال في ذهن محمد علي.
من خلال احتكاكه الطويل بالجيش التركي أدرك إبراهيم باشا نجل محمد علي حجم الوهن الكبير الذي بات عليه، وهو ما نقله لأبيه الذي تشجّع فورًا في المضي قُدمًا مطمئنًا أن رد الفِعل العثماني سيكون أضعف من المنتظر بكثير.
في 1831م طالَب محمد علي بمنحه إمارة الشام مكافأة له على اشتراكه في حرب اليونان، ولما رفضت إسطنبول الاستجابة له حرّك قواته بقيادة إبراهيم باشا التي استولت على سوريا وتوغّلت في أراضي تركيا وحققت انتصارًا كبيرًا في مدينة قونية القريبة من إسطنبول. في تلك المعركة أسر إبراهيم باشا الصدر الأعظم محمد رشيد باشا الحليف الوثيق لخسرو والذي عينّه الخليفة بعد إصرار كبير من خسرو.
لم تنتهِ هذه الحرب إلا بتوقيع اتفاق كوتاهية الذي أقرّ فيه الخليفة العثماني سُلطان محمد علي في مصر والحجاز وكريت وسوريا وتثبيت حُكم ابنه على بلاد الحجاز مقابل انسحاب الجيش المصري من الأناضول.
يقول خالد فهمي: على الرغم من إبرام هدنة كوتاهية في مارس 1833م ظلَّ محمد علي يعتبر أن خسرو هو عقبته الأكبر في إسطنبول، وهو ما دفع محمد علي لمطالبة السُلطان العثماني بالإطاحة بخسرو قائلاً له «إذا وافق السُلطان على مجرد إزاحة خسرو من ديوانه، فإن محمد علي لن يكتفي فقط بدفع الجزية بانتظام، ولكنه أيضًا سيدفع جزءًا كبيرًا مما يُطالب به السلطان بصفة متأخرة».
آخر المعارك
وفي عام 1839م تجددت الخلافات بين الدولة العثمانية ومحمد علي بسبب رغبة الأولى في استعادة سيطرتها على سوريا ونقض بعض بنود معاهدة كوتاهية التي اعتُبرت مهينة للمقام العثماني العالي فرفض الباشا المصري وتجدّد القتال بين الطرفين؛ بين مصر وتركيا أو بالأحرى بين محمد علي وخسرو باشا.
بلغ الخلاف بين الطرفين أوجهما عقب تلاقي الجمعان في «نزيب» في يونيو 1839م، وهي المعركة التي تلقّى فيها الأتراك هزيمة ساحقة على يدي جيش إبراهيم باشا، وتزامنت هذه المعركة مع وفاة السُلطان العثماني محمود وهو في سن الـ54، تاركًا الحُكم لابنه عبدالمجيد ذي الـ17 عامًا.
في خضمِّ هذه الحرب، انتقى السُلطان العثماني الجديد عبدالمجيد خسرو باشا ليكون صدرًا أعظم (رئيسًا للوزراء)، وهو ما اعتبره عدد غير قليل من قادة الدولة العثمانية وولاتها تصعيدًا خطيرًا بعدما تخوّفوا من أن يستغلَّ خسرو باشا لإعادة التقليب في دفاتر عداواته القديمة واستغلال سُلطات منصبه الحسّاس لتصفيتها.
يقول عبدالرحمن الرافعي في كتابه «عصر محمد علي»، إن السلطان العثماني أطلق مبادرة حُسن نية لتهدئة الأجواء بينه وبين محمد علي، فأرسل له كتابًا حمل توقيع خسرو باشا أعرب فيه عن عواطفه الوديّة تجاه محمد علي ونسيانه ما جرى منه في الماضي، ويقرّه على مُلك مصر. وهي الرسالة التي استقبلها بريبة لأنه كان لا يثق بحُسن نية خسرو أبدًا، وهو بلا شك لعب دورًا كبيرًا في تفاقم الأزمة بين الطرفين.
وبحسب فهمي، فإن الانتصارات المتتالية لجيش محمد علي جعلته يعتبر أن فرصة ذهبية قد واتته ليفرض شروطه على السلطان العثماني، ولن تكون أقل من تعيينه واليًا على كافة الأراضي التي استولى عليها ومدّ هذا الاعتراف لذريته بعد وفاته.
كاد هذا الحلم يتحقق بالفعل لولا الصعود المفاجئ لخسرو الذي جرى تعيينه صدرًا أعظم، وسط شائعات عن إجباره السُلطان على تعيينه في هذا المنصب بالقوة، وهي الخطوة التي أثارت ثائرة محمد علي حتى أنه راسل خليل باشا قائد الجيش العثماني إضافة لوالدة السُلطان العثماني وطلب منهما خلع خسرو، وأعقب ذلك بإرساله خطاب لخسرو نفسه أخبره فيه أن إراقة الدماء لن تتوقف حتى يستقيل من منصبه، كما أرسل خطابات إلى موظفين كبار في إسطنبول تدعوهم لطرد خسرو.
بالطبع لم تتم هذه الخطوة، وإنما ردّ خسرو على غريمه محمد علي داعيًا إياه إلى الكفِّ عن حرب السُلطان العثماني والاكتفاء بولايته على مصر، وهو ما ردّ عليه محمد علي برسالة ساخرة يعرض عليه فيها التقاعد والعيش داخل منزله الذي بناه لنفسه في الحجاز حيث يمكنه قضاء ما تبقى في حياته من وقت في الصلاة والتأمل!
أكثر ما دعّم محمد علي في هذا الموقف المتصلّب هو أنه لم يكن العدوّ الوحيد لخسرو في البلاد الحمراء، وإنما كان لخسرو منافس آخر لا يقل بأسًا وخطورة عن محمد علي، وهو القبطان أحمد فوزي باشا قائد البحرية العثمانية، والذي أقدَم على فِعلة تاريخية لا تزال مضرب الأمثال في الخيانة حتى الآن في تركيا.
ففور عِلمه بنبأ تعيين عدوّه اللدود خسرو صدرًا أعظم أيقن أن عودته إلى إسطنبول ستعني إعدامه لا محالة، لذا لم يجد مفرًّا من الهرب إلى مصر حيث سلّم محمد علي كامل الأسطول الحربي العثماني، وتعاهدا معًا على التحالف لإسقاط حُكم خسرو، الذي اعتبراه الآفة الكبرى للدولة العثمانية. اقتنع أحمد فوزي باشا بأن خسرو باشا باع نفسه للروس وأنه سيقود الإمبراطورية العثمانية إلى حتفها، وأن الحل الوحيد لإنقاذها وإنقاذ سُلطانها الشاب هو تمكّن محمد علي من البلاد وإعادة الدولة التركية إلى سابق مجدها.
كما خطب محمد علي في البحّارة العثمانيين اللاجئين بأسطولهم إلى مصر قائلاً «حال السلطنة الآن غير مُرضٍ، فيجب علينا أن نوحِّد جهودنا لرفع شأن الدولة، وإني مخلص الإخلاص كله لمولانا السُلطان قلبًا وقالبًا. إن السُلطان جوهرة لا عيب فيها لا يُدنِّسها إلا المقرّبون من العرش، وأقصد بالمقربين من العرش خسرو باشا. الذي كان دائمًا شؤمًا على الدولة، وإذا بقي متوليًّا شؤون السلطنة سيكون مصيرها الخراب، والواجب علينا جميعًا أن نعمل يدًا واحدة لنحول دون تمكينه من الإضرار بالدولة».
في النهاية، لم يتحقّق هذا الغرض بشكلٍ تام بعد أن اعتبرت الدول الأوروبية–و على رأسها إنجلترا- أنه من الخطر السماح لمصر بأن تكون أقوى من اللازم بشكل قد ثّمكنها من تهديد خطوط التجارة العالمية، فارتأوا التدخّل في الوقت المناسب كي لا يستفحل خطر محمد علي وأنزلوا عددًا من قواتهم في الشام، ثم أرغموا محمد علي على قبول الصُلح مع السُلطان العثماني، والذي كان من أهم شروطه إعادة القطع الحربية العثمانية إلى إسطنبول وانسحابه من سوريا وكريت والحجاز، وتعهده بتقليص جيشه إلى 18 ألف فرد فقط، فيما اقتصرت مكاسب محمد علي على تثبت مُلكه الأبَدي على مصر، وهي المطالب التي لطالما رفضها الباشا المصري قديمًا.
أنهت هذه الحرب صفحة الخلافات الحادة بين الرجلين- أو هدَّأت منها على الأقل- وهو ما سمح لمحمد علي بالتركيز في توطيد دعائم دولته الحديثة في مصر، وظلَّ مُحافظًا على مكانته واستقلاله بإدارة البلاد بعدما ضاع حُلمه بتأسيس إمبراطورية شرقية حديثة تمتدُّ حتى دجلة والفرات.
وفي أغسطس عام 1846م سافر محمد علي باشا إلى إسطنبول، وهناك استقبله السُلطان العثماني بحفاوة شاركه فيها صدره الأعظم خسرو باشا، ولعل تلك الرحلة شهدت أول لقاءٍ مباشر بين الرجلين بعد سنوات طويلة من القتال عن بُعد، مُعلنة إسدال الستار عن ذلك الخلاف التاريخي الذي شقَّ الخلافة العثمانية نصفين وكاد يُدمرها للأبد.
- الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي، هنري دودويل
- عصر محمد علي، عبدالرحمن الرافعي
- الذكرى المئوية لواقعة نزيب، عزيز خانكي
- التوظيف السياسي للدين والقانون في مشروع محمد علي، نجلاء سعيد مكاوي