محمد علي كلاي: أن تطرح مبررات التخاذل أرضًا
قبل شهر من الآن، خرج الفنان المصري« محمد سلام» في فيديو عبر حسابه الشخصي ليعتذر عن المشاركة في موسم الرياض الترفيهي، معللًا الأمر بأنه لا يستطيع تقديم عمل كوميدي غرضه تسلية المشاهدين، في حين تتعرض غزة لقصف يومي من دون رحمة.
ربما تختلف مع موقف سلام أو تتفق معه، وهو الأمر المنطقي بالطبع. لكنك في كل الأحوال لا يمكن أن تصف ما فعله إلا أنه موقف صادق ناتج عن قناعة حقيقية وإيمان بأنه على المرء أن يتحلى بالقدرة على الرفض في مواجهة الجميع بما يتسق مع قناعاته وقضاياه ومبادئه.
لم يتخذ سلام موقفه هذا تحت تأثير التعاطف الوقتي فحسب، بل إنه أغلب الظن عرف جيدًا ما سيلاقيه من انتقاد وموجات هجوم عقب هذا الموقف. يدعم هذا عدم تراجعه أو تعقيبه على ما تلا ذلك من أحداث، إلا أن هناك دليلًا دامغًا بأن هذا الرجل كان يعي جيدًا ما يفعل، لقد كان يرتدي قميصًا يحمل صورة «محمد علي كلاي»!
ربما ترى الأمر مبالغًا فيه، ربما تعتقد أنها صدفة لا أكثر، لكن عليك أولًا قبل أن تقرر هذا أن تتفهم رمزية محمد علي كلاي في ما يتعلق بالقدرة على الرفض وتحمل التبعات، وربما حينئذٍ تؤمن بأن كلاي الرمز الأهم والرياضي الأعظم على الإطلاق. فلنبدأ بمقارنة حتمية أثيرت قديمًا تشرح لنا كل شيء.
كلاي: أن يطرح اسمك فيصمت المبررون
يظهر «بيليه» في الفيلم الوثائقي الذي يحمل اسمه من إنتاج «نتفلكس» عقب عودته للبرازيل بكأس العالم الثالثة وهو فخور سعيد متأنق بجوار الديكتاتور« إميليو ميديتشي»؛ هذا الرجل الذي ينسب له تعذيب مئات المعارضين وقتلهم.
ظل هذا المشهد نقطة سوداء في تاريخ بيليه، كيف أن رجلًا كان قادرًا على قلب الموازين في العالم تجاه ما يحدث من بطش في البرازيل بمجرد تصريح، أن يظهر بكل هذا الخضوع أمام ديكتاتورية عنيفة تقتل أبناء جلدته.
هكذا برر بيليه الأمر خلال نفس الفيلم بجملة ستتحول إلي كليشيه بعد ذلك؛ مجرد لاعب كرة قدم لا يفقه شيئًا عن السياسة.
في المشهد التالي يظهر الصحفي البرازيلي«جوكا كفوري» ليبرر الأمر أنه كان من الصعب على بيليه أن يتجاهل رئيس البلاد، ثم يستكمل حديثه بأن المشاهد الآن ربما يرد عليه ويقول: لقد فعلها محمد علي، ثم ينهي حديثه بأن هذا صحيح لم يستطع بيليه أن يكون محمد علي وهو لا يملك سوى أن يحيي محمد علي.
لم يفترض كفوري هذه المقارنة من رأسه بل هي مقارنة تاريخية يلعب فيها كلاي دومًا دور الفائز. وفي كل مرة يبرر أحدهم تخاذل الشخصيات العامة حيال مواقف محلية أو قومية بدعوى أنهم مجرد لاعبي كرة أو فنانين، يتم ذكر كلاي في المقابل لينتهي الحديث على الفور.
تلك هي فكرة رمزية كلاي كونه رجلًا أثبت أن الرفض ممكن وأنك لا تحتاج أن تكون سياسيًا لتتخذ موقفًا بل يكفي أن تكون إنسانًا.
إذا كنا نعرف الآن ماذا فعل بيليه فعلينا أن ندرك ماذا فعل كلاي في المقابل ليبقى رمزًا خالدًا بل وأعظم أيقونة ثقافية أنتجتها الرياضة على الإطلاق، وسنحكي هنا القصة باختصار بما يوضح رمزية كلاي لا أكثر.
ماذا فعل محمد علي كلاي؟
كان كلاي ببساطة أعظم ملاكم في العالم من حيث الأرقام والفنيات وتكنيك اللعب وقدرته على جذب نظر المشاهدين بطريقته الفريدة خارج وداخل الحلبة. خلال هذا الوقت كان السود الأمريكيون من أصل أفريقي يتظاهرون في الشوارع يناضلون من أجل حقوقهم المدنية، ولم يكن علي ببعيد عن تلك الأجواء وساعده في ذلك وجود قدوة مثل مارتن لوثر كينغ.
أعلن كلاي إسلامه وغير اسمه ثم رفض الالتحاق بالجيش للمشاركة في حرب فيتنام؛ لأنه رأى فيها حربًا غير عادلة لا تخدم الوطن في شيء بل تزيد من شراسة الرجل الأبيض، فعل علي كل هذا وهو لديه الكثير ليخسره وقد كان.
تم تجريد علي من لقبه في الوزن الثقيل وحُكم عليه بالسجن، وخسر ما يقرب من أربع سنوات من أوج عطائه في المعركة القانونية، لكنه نال احترام الجميع كرجل ذي مبادئ لا تتزعزع. ومع تراجع شعبية حرب فيتنام زاد الدعم لموقف علي. وفي نهاية المطاف، أسقطت المحكمة العليا إدانته عام 1971، وعاد إلى حلبة الملاكمة أكثر جرأة من أي وقت مضى.
الرياضي الأعظم في التاريخ
تدور المقارنات دومًا حول فكرة الأعظم عبر العصور GOAT ولا يخرج أحد فائزًا وبخاصة إذا كانت المقارنة تجمع لاعبين في رياضات مختلفة. فإذا طرحت اسم «ميسي» ليكون الأعظم عبر العصور في كرة القدم يبدو الأمر منطقيًا، لكن إذا ما قارنته بـ«مايكل جوردون» سيختل الأمر تمامًا.
ماذا لو عرفت أن جوردن نفسه رفض تأييد مرشح أسود خوفًا على مصالحه، بل وأطلق تصريحًا سيلازمه لبقية مسيرته؛ الجمهوريون يشترون أحذية نايكي أيضًا، في إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدعم مرشحًا على حساب آخر خوفًا من أن تتأثر مبيعات حذائه في نايكي مما يؤثر بشكل مباشر في دخله السنوي.
لا نقصد هنا أن ننتقص من كل لاعب حتى نبرز أهمية كلاي، لكن يمكننا ببساطة أن نقول إنه في كل رياضة هناك رجل يصلح أن يكون الأعظم عبر العصور، لكننا إذا ما قررنا أن نشير إلى أهمهم أثرًا ورمزية لا يمكن أن نتجاهل أن محمد علي كلاي يجب أن يحتل رأس القائمة.
فبحلول الوقت الذي فكر كلاي فيه في اعتزال الملاكمة، كان قد أصبح رمزًا لحركات الحقوق المدنية في جميع أنحاء العالم. بل إنه قام شخصيًا ببعثات لإظهار حسن النية في أفغانستان وكوريا الشمالية، وقام بتسليم الإمدادات الطبية إلى كوبا الخاضعة للحظر، وسافر إلى العراق لتأمين إطلاق سراح 15 رهينة أمريكية خلال حرب الخليج الأولى.
وربما زيارته الأكثر شغفًا كانت إلى جنوب أفريقيا للقاء نيلسون مانديلا، الرجل صاحب الأثر المهم في قضايا الفصل العنصري وذلك بعد إطلاق سراحه من السجن، وهو لقاء وصفه مانديلا نفسه بأنه كان لقاء مُلهمًا للغاية.
سيظل استدعاء محمد علي كلاي في كل حديث له علاقة بالمواقف منطقيًا، سيقارنه الناس ببيليه وجوردون وصلاح إذا لزم الأمر وسيخرج فائزًا لأنه رجل صنع قدره بنفسه بالفعل.
الآن ربما تتفق معي أن محمد سلام لم يرتدِ قميص محمد علي كلاي صدفة أبدًا بل كان يدرك أهمية الرمز الرياضي الأعظم محمد علي كلاي.