محمد البرلسي: أحلم بتحويل بحثي لعلاج ملموس يفيد البشرية
تمتلك مصر ثروة بشرية هائلة في مجال البحث العلمي، حيث يوجد أكثر من 86 ألف عالم وباحث مصري في مختلف دول العالم، حسب إحصائية أجراها اتحاد المصريين بالخارج.
واحد من هذه العقول المهاجرة، والذي حصل على جائزة المنظمة الدولية للعلوم الحيوية في فيينا، والتي تستهدف طلاب الدكتوراه في أكثر من 100 معهد ومؤسسة بحثية كبيرة حول العالم، على خلفية بحثه المنشور في مجلة نيتشر المرموقة في أبريل/نيسان من العام الماضي.
هو محمد البرلسي، ابن محافظة القاهرة، وخريج كلية الصيدلة بالجامعة الألمانية بالقاهرة، والذي يدرس الدكتوراه الآن في معهد ماكس بلانك بألمانيا. وتواصلت «إضاءات» مع الباحث المصري، وطرحت عليه العديد من الأسئلة حول بحثه الأخير عن التشوهات الجينية، وما إمكانية تحويله لعلاج ملموس، وأيضًا عن آماله وطموحاته في المستقبل، وكذلك رؤيته للبحث العلمي في مصر، ونصائحه للطلاب المصريين.
دعنا نبدأ من ألمانيا، كيف وصلت لدراسة الدكتوراه في ماكس بلانك؟
البداية كانت من خلال دراستي للغة الألمانية منذ أن كنت في الصف الثالث الابتدائي، بالإضافة لتخرجي في كلية الصيدلة بالجامعة الألمانية بالقاهرة؛ مما أتاح لي الفرصة لمعرفة المزيد عن البحث العلمي في ألمانيا، والمعاهد المختلفة هنا. وخلال دراسة البكالوريوس، ذهبت مرتين في إجازات الصيف، للتدريب في معهدين مختلفين في ماكس بلانك، أحدهما الذي أدرس به الدكتوراه الآن.
وعقب التخرج، سافرت إلى هنا من أجل دراسة الماجستير، وحصلت عليها من ماكس بلانك أيضًا في مجال البيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology) ولكن في مدينة جوتنجن، ثم قررت العودة إلى مدينة باد ناوهايم من أجل دراسة الدكتوراه في معهد أمراض الرئة والقلب في ماكس بلانك.
ما موضوع دراسة الدكتوراه الخاص بك؟
دراستي تدور حول آلية مواجهة خلايا الكائنات الحية للطفرات أو التشوهات الجينية التي تحدث نتيجة الوراثة، أو التعرض لعوامل أخرى مثل: الأشعة فوق البنفسجية، والمواد المسرطنة، وغيرها. وينصب اهتمامي الرئيسي على محاولة فهم قدرة الخلية على التعرف على تلك التشوهات، خاصة بعد دراسات نُشرت من معملنا في 2015، تقول إن الجينيوم البشري أو الـDNA، يقوم بتعويض تلك التشوهات أو الطفرات عن طريق إنتاج كميات كبيرة من جين آخر مماثل لوظيفة الجين المفقود، وبالتالي الحفاظ على تلك الخلايا وعملها بشكل طبيعي؛ الأمر الذي يؤدي بالتبعية للحفاظ على حياة الكائن الحي، فيما يعرف بالتعويض الجيني (Genetic Compensation).
حصلت منذ أشهر قليلة على جائزة المنظمة الدولية في العلوم الحيوية، حدثنا أكثر عن تلك الجائزة؟
الجائزة مقدمة من معهد الأمراض الجزيئية، ومؤسسة ماكس برنستيل في فيينا، وتهدف إلى تكريم 3 باحثين على أبحاثهم في مرحلة الدكتوراه. وفي صيف 2019، قاموا بمخاطبة أكثر من 100 معهد وجامعة من مختلف دول العالم من أجل ترشيح باحث واحد فقط ممثل عن كل مؤسسة، ووقع عليّ الاختيار ممثلًا عن المعهد الذي أعمل به الآن، ثم اختارتني لجنة التحكيم الخاصة بالجائزة من ضمن الثلاثة الفائزين بعد ذلك.
بشكل مبسط اشرح لنا موضوع البحث الخاص بك، والتي شاركت به في تلك الجائزة؟
هو نفس موضوع دراسة الدكتوراه الخاصة بي، وترشحت إلى هذه الجائزة، بناءً على البحث الذي نشرته مع المجموعة البحثية هنا في إبريل/نيسان الماضي، وهي اكتشاف آلية التعويض الجيني أو الوراثي كما شرحتها من قبل. ولا تقتصر الدراسة على فهم عملية تعويض الخلايا للجينات المشوهة أو المفقودة، وبالتالي القيام بعملها بشكله الطبيعي فقط، ولكن تلك التشوهات كانت تعيق العلماء عن معرفة وظائف جينات معينة، نتيجة حدوث التشوه أو الطفرة، التي تمنع ملاحظة أي تأثير، وهذا ما سوف تساعد فيه هذه الدراسة أيضًا؛ حيث تلعب معرفة الوظائف الجينية دورًا حيويًا في صناعة الأدوية والعقارات المختلفة.
ما الأمراض المتوقع أن يتم معالجتها وفقًا لبحثكم الأخير؟
حتى الآن لم نقم بأي دراسات على الإنسان، ما زلنا في مرحلة مبكرة جدًا للحديث عن أي عقارات، حيث قمنا بعمل دراستنا على الفئران ونوع من السمك تسمى سمكة الذيبه. ولكن مستقبلًا يتوقع أن تساعد الدراسة في عملية صناعة علاجات لمرضى الأمراض الوراثية أو الجينية مثل: أنيما البحر المتوسط، والتليف الكيسي.
على سبيل المثال، وجدنا من خلال بعض الأبحاث المنشورة، أن هناك بعض الأفراد من مرضى أنيما البحر المتوسط، تعمل لديهم عملية التعويض الجيني بشكل فعال، وبالتالي تظهر الأعراض عندهم بشكل أقل من أفراد آخرين لديهم نفس المرض، ولكن لا تعمل لديهم تلك العملية بنفس درجة الفعالية، ونأمل في المستقبل لاستغلال فهمنا لتلك الآلية في محاولة علاج المرضى الأكثر تضررًا من مثل هذه الأمراض.
«في طريقه لجائزة نوبل، إذا استمر على هذا المعدل من الدراسات»، هكذا علق رئيس الجامعة الألمانية بالقاهرة نقلًا عن معهد ماكس بلانك بعد فوزك بالجائزة، هل ترى الأمر ممكنًا؟
هذا التعليق قاله بالفعل د.أشرف منصور، رئيس الجامعة الألمانية بالقاهرة، لكنه فُهم بشكل خطأ، وهذه فرصة مناسبة لتوضيح هذا الأمر. منذ عامين أجريت حوارًا مع مجلة ماكس بلانك، وكانت إجابتي على سؤال ما الدوافع التي دفعتك للاهتمام بالعلم والبحث العلمي، هي حصول د.أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء، خصوصًا بعد ما فهمت أكثر عن دراساته ومدى تأثيرها في المجتمع العلمي، وقاموا باختيار عنوان للحوار فيما معناه أن جائزة نوبل دافع لي نحو العمل في المجال البحثي.
ولكن لم تصرح المجلة بشكل مباشر أني في طريقي لجائزة نوبل، مثل هذه التوقعات تخرج عندما يكون للبحث تطبيقات فعلية على أرض الواقع، بحثنا ما زال في مراحله الأولية ونأمل في يوم ما نستطيع تحويله لتطبيقات بشرية وعلاجية. ولو حدث ذلك سيكون الأمر ممكنًا وقتها ليه لا؟ ولكن في النهاية الجوائز الفردية ليست بقدر أهمية مساعدة البشرية في مواجهة أمراض معينة.
ما خطوتك المقبلة؟
حاليًا سأنتهي من دراسة الدكتوراه في الصيف أو الخريف المقبلين على أقصى تقدير. وأود استمرار العمل على أبحاثي في أماكن أخرى، يوجد لدي عرضان ما زالا قيد التفكير لم أستقر على أحدهما بعد، ولكني سأنتقل من ماكس بلانك لاستكمال أبحاثي بعد الدكتوراه.
على المستوى الشخصي هل تفضل العودة إلى مصر مرة أخرى، أم تود الاستمرار في العمل بالخارج؟
أود استكمال العمل في أوروبا وأمريكا؛ لأن الإمكانيات التي تتوافر للباحثين هنا أكبر، وتسمح لي العمل بالطموح الذي لدي حاليًا. ولكن بالطبع آمل في يوم ما أن أعود وأساعد بلدي بأي شيء أستطيع أن أقدمه، ولكن إذا تحدثنا في الوقت الحالي عن أهداف بحثية فأنا أفضل العمل بالخارج خلال الفترة المقبلة.
بالعودة للوراء قليلًا، كيف نشأ محمد البرلسي، حدثنا أكثر عن البداية؟
أنا من مواليد مدينة القاهرة، ولكني انتقلت للعيش في السعودية في أول 9 أو 10 سنوات من عمري؛ بسبب طبيعة عمل والدي بالخارج، ثم عدت مرة أخرى إلى مصر وحصلت على الشهادة الإعدادية والثانوية بها، ثم التحقت في 2009، بالجامعة الألمانية بالقاهرة، ومن هناك بدأت قصتي كما ذكرت.
نشأة على حب العلم والتساؤل، فكنت طفلًا يحب طرح التساؤلات بشكل دائم، وكان والدي ووالدتي يشجعانني على هذا أيضًا، حيث يعمل والدي كصيدلي، ووالدتي مدرسة علوم بإحدى المدارس.
لماذا اخترت مجال الصيدلة تحديدًا؟
اخترت مجال الصيدلة لسببين هما:
- والدي كان صيدليًا، فالطريق يكاد يكون مرسومًا لي بشكل واضح، وهذا شجعني كثيرًا على دخول المجال.
- في مراحل دراستي المختلفة الإعدادية والثانوية كنت أعشق الكيمياء، والأدوية، وما إلى ذلك، وكطفل كان حلم حياتي مساعدة البشرية بشكل معين؛ من خلال اكتشاف الأدوية، ولكن مع مرور الوقت، وعندما بدأت السفر للتدريبات الصيفية المختلفة، اكتشفت أن علوم البيولوجيا واسعة المجال، وهي أساس صناعة الأدوية والعلاجات المختلفة، وكبر اهتمامي بمجال علم الجينيوم تحديدًا.
من وجهة نظرك، ما الاختلاف بين المجال البحثي في ماكس بلانك، والجامعات المصرية؟
الاختلاف الأكبر بالطبع في الإمكانيات المادية، فميزانية البحث العلمي في ماكس بلانك السنوية مثلًا من الحكومة الألمانية، ما يقرب من 3 بلايين يورو، وهذا رقم ضخم للغاية، ويسمح لك بالحرية التامة في إجراء الأبحاث والتجارب، وشراء جميع الأدوات اللازمة لذلك، وهذا لا يحدث في كثير من المعاهد البحثية في العالم.
ويستقبل ماكس بلانك سنويًا عددًا صغيرًا من الطلاب والباحثين، بالإضافة لاختيارهم لأفضل الأستاذة لقيادة المجموعات البحثية، ولم يتحمل الطلاب في المعهد عبء التدريس، فطلاب الدكتوراه غير مطالبين بأي أشياء أخرى سوى الدخول إلى المعمل والتفكير، فيما يجب عليه فعله.
ما نصائحك للطلاب المصريين الذين يريدون استكمال دراستهم بالخارج؟
في البداية لا بد أن يؤمن الطالب بهدفه، ويضعه أمامه دائمًا. منذ اليوم الأول لي في الجامعة الألمانية وأن أهدف إلى العمل في ماكس بلانك، وأن أشارك في مشروع بحثي كبير، وهذا ما دفعني بعد ذلك إلى البحث عن فرص للتدريب في المعهد، والتواصل مع الأستاذة سواء المصريون أو الأجانب.
حيث يجب أن يتكامل الهدف مع البحث والإطلاع، واكتساب الخبرة البحثية في المعمل، حتى ولو لم تتوافر فرص للسفر في الخارج أثناء الإجازات الصيفية، يمكن البحث عن فرص في الجامعة مع أستاذة مصريين، لقد كنت عضوًا في مجموعة بحثية في الجامعة الألمانية، وساعدتني هذه الخبرات كثيرًا في وجودي هنا، وهي معيار رئيسي في قبولك بالدراسة بالخارج وليست الدرجات الدراسية فقط.
بالإضافة إلى ضرورة بناء شبكة اتصالات من الآن مع أستاذة ومتخصصين في جامعات مختلفة، وأيضًا زملاء طلاب من هم أكبر سنًا، وخاضوا تجربة الدراسة بالخارج، لقد كانوا يساعدونني بشكل كبير، كما ذكرت المعمل الذي أعمل به الآن، هو نفس المعمل الذي تدرب به عام 2013 مع نفس الأستاذ، لقد تواصلت معه منذ سنوات، وحافظت على هذا التواصل، وبعد ذلك هو من أرسل لي فرصة العمل معه هنا.
بما يحلم محمد البرلسي مستقبلًا؟
حلمي على مستوى العمل البحثي، هو نقل الدراسات التي قومنا بها إلى تطبيقات علاجية تُفيد المرضى، وهذا سيتحقق من خلال حلمي الأكبر بقيادة مجموعة بحثية في أميركا أو أوروبا، وأن نستطيع تقديم أبحاث أخرى تفيد البشرية بشكل عام.
على الجانب الآخر، آمل أن أستطيع نقل الخبرات التي اكتسبتها إلى مصر، وأنا أكون جزءًا من معهد مصري معروف، وله سمعة عالمية، وهذا بالطبع سينعكس على أشياء أخرى، في مجالات مختلفة تمس الشعب بشكل مباشر.
على ذكر معهد مصري معروف، كيف ترى مستقبل البحث العلمي في مصر؟
يوجد في مصر العقول والأفكار الكافية لتطوير مستقبل البحث العلمي في مصر، ولكن ينقصنا الاهتمام، رغم أن البحث العملي يعد محركاً رئيسياً في تطور وتقدم الدول. لدي حلم كبير أن أكون جزءًا من تطوير منظمومة البحث العلمي والتعليمي بشكل عام، وأن نكون قادرين على إخراج أجيال على مستوى وقدر كبير من التعليم الجيد، لدي الأفكار التي أعمل على تطويرها، وأتمنى مستقبلًا أن يكون لدي الفرصة لتنفيذها في مصر.
كما أود أن أشير إلى مؤسسة كبيرة في مصر، ويُعول عليها كثيرًا، وهي مدينة زويل، أعتقد أنه من المهم للغاية الحفاظ على استمرارية هذه المؤسسة، وإنتاجها البحثي. على سبيل المثال، في إسرائيل، يوجد معهد هناك، استطاع إخراج 6 حاصلين على جائزة نوبل، بالإضافة إلى إنتاجها البحثي الضخم، والذي انعكس على تقدمهم الصناعي والتكنولوجي، نتمنى أن يأتي اليوم الذي نفتخر فيه بمعهد بحثي كبير، يستطيع إخراج حاصلين على نوبل، ويستطيع تقديم العديد من الأبحاث المهمة أيضًا.