المشهد الأول

منذ أسابيع قليلة خرج الإعلامي المصري عمرو أديب في برنامجه الخاص مقدمًا بلاغًا للنائب العام ضد مجلس إدارة الأهلي، بعد أن قدمت الصفحة الرسمية للنادي التهنئة للاعب الفريق السابق محمد أبو تريكة في عيد ميلاده.

كان مبرر الرجل أن أبو تريكة رجل أدانه القضاء المصري، ولا يمكن للأهلي أن يتحدى القضاء المصري.

المشهد الثاني

بعد حادثة برنامج عمرو أديب وبدون أي ترتيب أو صلة استضاف ميدو أيقونة تشيلسي السابق دروجبا في محاولة لإنجاح برنامجه الجديد عبر قناة المحور.

تناول الحديث بين الثنائي ذكريات دروجبا ضد المنتخب المصري ليؤكد الإيفواري أن أحد أهم اللاعبين الذين كان يحب أن يراهم في أوروبا لتأكده أنه كان سيقدم أداءً رائعًا هو أبو تريكة، واصفًا إياه بزيدان أفريقيا.

المشهد الثالث

قبل أيام قليلة تحدث أبو تريكة من خلال عمله كمحلل فني في قنوات بي إن سبورتس رافضًا حملة Rainbow Laces، التي تمثلت في شارات القيادة الملونة للاعبي فرق الدوري الإنجليزي خلال الجولة الثالثة عشرة، والتي تهدف لإظهار الدعم لجميع الأشخاص المثليين في كرة القدم وخارجها.

واجه تريكة اعتراضات واسعة على موقفه الأخير، وصلت تلك الاعتراضات لاحتلال صور تريكة لكبرى مواقع الرياضة العالمية، في نقد مباشر لحديث أبو تريكة الذي وُصِف بخطاب الكراهية، مع الإيحاء بأن الوضع قد يبدو خطيرًا مع استضافة قطر لكأس العالم القادمة على أراضيها.

ربما تلك المواقف الثلاثة التي حدثت في أقل من شهر هي الأضلاع الثلاثة الرئيسية لقصة أبو تريكة بعد اعتزال كرة القدم.

فما بين كارهين قدامى ينتهزون كل الفرص لإدانة الرجل، وبين منصفين لمسيرة أبو تريكة الكروية بغض النظر عن مواقفه، وبين مساحات يضع أبو تريكة فيها نفسه دون حسابات واعية، يدور الحديث عن تريكة ويختلف في كل مرة طبقًا لزاوية تناول داعمي كل ضلع من القصة.

لماذا قد يلجأ محلل رياضي للوعظ

لم يكن حديث تريكة عن دعم المثلية الجنسية هو الأول من نوعه من حيث التطرق لقضايا اجتماعية وسياسية تتماس مع كرة القدم. تحدث الرجل من قبل عن دعم المسلمين في بورما، وعن مقاطعة المنتجات الفرنسية، وعن دعم فلسطين وأهلها المنكوبين.

وكان السؤال الأهم هنا: هل يتطرق تريكة لتلك القضايا عوضًا عن التحليل الفني للمباريات لكونه لا يجيد التحليل الفني من الأساس؟

حسنًا، أبو تريكة ليس محللًا فنيًّا عبقريًّا. كان أبو تريكة شاهدًا على عشرات المباريات التي احتوت على تفاصيل فنية وتكتيكية مهمة ومثيرة لم يتطرق لها تريكة تمامًا. يعرف المشجع العربي ذلك من خلال متابعة التحليل الفني لبعض مشاهير المواقع الأجنبية واليوتيوب لنفس المباريات.

لكن أبو تريكة في المقابل يتحدث من زاوية اللاعب الكبير، فيؤكد أن أجويرو قرر ضرب الكرة بأصبع قدمه الكبير لأنه أراد للكرة أن تدور في الهواء، بينما قوة شخصية محمد صلاح هي التي دفعته للركض خلف المدافع وتوقع الخطأ. وهكذا عشرات من التصورات والتوقعات والتحليل المعتمد على كونه لاعب كرة قدم عظيمًا سابقًا.

تلك الطريقة لا تعني أبدًا أنه محلل كرة قدم سيئ، هو يصيب في أحيان كثيرة ويخطئ، لكن تبقى نقطة قوته الأبرز هي طريقته تلك.

كان عيب تلك الطريقة أنها أضافت له هالة فوق هالته، وأصبح تريكة المحلل يعلم أن أحد أهم مزاياه أنه ببساطة أبو تريكة، ربما هذا ما وضعه على أول طريق الوعظ.

أبو تريكة والادعاء والثمن

ننتقل هنا سريعًا للضلع الأول، كارهو أبو تريكة وهم متنوعون ولكلٍّ أسبابه، لكن السائد بينهم هو اتهام تريكة بالادعاء. يخرج البعض ليستنكر ويصرخ: ما علاقة تريكة بمسلمي بورما؟ ما جدوى الحديث عن مصابي فلسطين قبل مباراة كرة قدم؟ إنه يجب أن يلعب دور القديس والملاك الحارس للمستضعفين صاحب الرأي والمبدأ والقضية.

الحقيقة أنك ربما تتهم تريكة بما يحلو لك، لكنه الوحيد بين عناصر الرياضة الذي دفع ثمن مواقفه نقدًا دون مواربة. دون الخوض في تفاصيل مسيرة تريكة وآرائه التي يعرفها الجميع، لكنه لا يحتاج للادعاء كي يحتل قلوب الجماهير، ولا يحتاج لتبني قضية معينة دون قناعة لكي يقال عنه صاحب مبدأ.

الرجل طوال مسيرته له مواقف لم يحِدْ عنها رغم قسوة الرد والمطالبات بالتراجع، لكنه آثر أن يكون متسقًا مع آرائه ولو دفع ثمن ذلك، وقد دفع بالفعل. لو كان الرجل مدعيًا لتراجع منذ زمن ووقف بين المحبين على أرض صلبة، لكنه لا يدعي.

لكن النقد الحقيقي الذي يتلقاه تريكة هو مناسبة هذا الوعظ لمباريات كرة القدم.

لماذا كل هذا الوعظ؟

هنا نخلط بين ضلعي تريكة والمنتقدين، بين تريكة المحلل الذي يرى نفسه أكبر من ذلك وبين النقد غير الموضوعي الذي لا يجعله يغير من نفسه.

إذا كنت من متابعي حديث تريكة عبر قنوات بي إن سبورتس على مر السنوات الأخيرة فمن المؤكد أنك سمعته يقول إننا كنجوم كرة يجب أن نستخدم شهرتنا لنصرة الحق وخدمة قضايا الأمة العربية.

يرى تريكة أنه يجب عليه استغلال وجوده أمام الكاميرا وحب الناس له للوقوف بجانب القضايا الإنسانية والدينية، وأن ذلك هو الخيار الأبقى، وطالما أن تلك المواقف في سبيل الله فمن المؤكد أن النتيجة ستكون مرضية له في كل الأحوال، وكيف له أن يظهر أمام الملايين دون توجيه الدعم لمن يستحق أو انتقاد ما هو مخالف للدين والمبادئ؟!

الحقيقة أن هذا الحديث لا علاقة له بالرياضة تمامًا ولا استديوهات التحليل هي المكان المناسب له، لكن تريكة يراهن على أنه ربما دفع الثمن مسبقًا، وأنه في كل الأحوال سيدفع الثمن بعد ذلك دون أن يشعر بالمرارة.

والأهم أن الانتقاد الذي يتلقاه لا يكون موضوعيًّا، بل انتقاد كاره للرجل في الأساس، أما محبوه فهم ينصرونه دومًا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمواقف مثل تلك. لكن وبشيء من الموضوعية فالأمر يحتمل قدرًا من الخطر أيضًا.

مساحة المنبر

كان أخطر ما فعله تريكة بالحديث عن تلك القضايا في برامج كرة القدم أنه وضع نفسه في مساحات حتمت عليه أن يتحدث في كل مرة بعد كل مشكلة شائكة إنسانية أو دينية أو سياسية. فإذا سكت تريكة عن مشكلة ما فسيجد ألف صوت لائم ورافض ومتهم بأنه قد قرر غض البصر عن تلك المشكلة تحديدًا لسبب ما. وضع تريكة نفسه في مساحة المنبر، طالما أن الشيخ قد صعد المنبر فلا ينتظر جمهوره إلا الوعظ.

قرر تريكة الانسحاب من الاستديو التحليلي بعد استكمال مباراة نيوكاسل يونايتد وتوتنهام هوتسبير ضمن الجولة الثامنة من الدوري الإنجليزي الممتاز رغم وقوع أزمة صحية لأحد الجماهير في المدرجات. الحقيقة أن المباراة استُكمِلت وأن الضحية نُقِلَت إلى المستشفى على الفور دون تقاعس. أما عن فكرة إلغاء المباراة فهذا خيار مثالي لا يمكن إثبات صحته من الأساس.

https://youtu.be/158-xxuij7s

بعد أقل من شهر تكرر الموقف خلال مباراة لتشيلسي وواتفورد، فقرر تريكة أنه سيمكث في الاستديو لكن دون مشاركة، لكنه شارك في الاستديو بعد ذلك، وأصبح الموقف أقل حدة لكنه لم يمر ببساطة.

ماذا لو تكرر الأمر خلال المباراة القادمة؟ هل سيغادر أم يصمت لفترة أم يتغاضى عن الأمر؟ والأهم هنا كيف ستتعامل قنوات بي إن سبورتس مع تريكة طبقًا لتلك المواقف التي يمكن أن يصفها أي رب عمل بأنها غير احترافية؟

الحقيقة أن تريكة سيتعرض للضغوط في المستقبل دون شك، ضغوط وضع نفسه فيها بمثالية غير واقعية أحيانًا، وقول الحق أحيانًا أخرى، وضغوط سيتعرض لها لأن الإعلام الخارجي لا يتهاون في محاربة بعض المواقف التي يتبناها الرجل.

لكن هل على محبي تريكة القلق؟ بالطبع لا، فهو دفع ثمن ما عاشه وسيدفع دون شك طالما أنه لا يحيد عن مبادئه، وذلك قدر البعض، لكن الأهم أنهم ربما يتمنون لتريكة أن يصبح محللًا أفضل وأكثر دقة وتمرسًا، وهو قادر على ذلك لو أنه ألزم نفسه بذلك بعيدًا عن هالته كلاعب كرة قدم.