فيلم Mr. Nobody: السينما بطرازٍ فيزيائي فلسفي
يحتوي هذا المقال على حرق لأحداث فيلم Mr. Nobody، لذا وجب التنويه.
في عام 2013 تم عرض فيلم Mr.Nobody الذي كان يمثل للكثيرين متاهة يمكن أن نطلق عليها اصطلاحًا متاهة دورميل (مخرج الفيلم). حيث أثار جدلًا واسعًا حول ماهية الفيلم ورسالته، بل إنه كان بالنسبة للبعض بمثابة لوحة فسيفساء، لكنها فسيفساء مفككة فاتخذت ثوبًا ضبابيًّا أشبه بصورة لم تحسن العدسة التقاط كدرها فتبعثرت ماهية ملامحها تحت وطأة البكسلة. وربما لهذا السبب لم ينل أحقيته في الرواج والنجاح المرجو.
حسنًا لنقر أن الفيلم يتطلب قدرًا لا بأس به من المعرفة العلمية والفلسفية المُسبقة حتى يتسنَّى للمشاهد التقاط طرف خيط الحبكة والاسترسال مع نسيجها المتشابك بسلاسة وتناغم. فلنبدأ بتناول بعض من تلك الكواليس الفيزيائية والفلسفية. لا داعي للقلق فبعض من المزج الفيزيائي الفلسفي يحمل قدرًا لا بأس به من المتعة كذلك. يتطلب الأمر فقط بعض التركيز، يمكنك أن تقوم الآن بتحضير مشروبك المفضل وتنفرد بنفسك قليلًا بينما نجوب أروقة الكواليس معًا.
تفسير كوبنهاجن وتعددية العوالم الموازية
خلال أحد تجارب ميكانيكا الكم المثيرة للجدل المعروفة بتجربة (الشق المزدوج – Double-slit Experiment) تم إثبات أن الجسيمات (الأجزاء الصغيرة المكونة لأي مادة) يمكنها اكتساب خاصية موجية فيما يُعرف بازدواجية الموجة والجسيم. ما جعل منها مثار ارتباك ودهشة في الوسط العلمي هو أن ما سبقها من نظريات الفيزياء الكلاسيكية اعتادت أن تفرِّق بين الجسيمات والموجات، فالجزيء الواحد إما أن يسلك مسار جسيم أو مسار موجة.
في حال لم يكن لديك معلومات سابقة عن التجربة؛ يمكنك تصورها بأبسط شكل. فلنفترض أن لدينا حائلًا به شقَّان متوازيان وخلفه حائل آخر، ولدينا عدد من الجسيمات ولنفترض أنها أشبه بكراتٍ صغيرة؛ فعند محاولة إطلاق مجموعة الجسيمات تلك خلال الشقين فإن النتيجة المُتعارف عليها وفقًا لقواعد الفيزياء الكلاسيكية هو أن تترسب الجسيمات على الحائل الخلفي بشكلٍ موازٍ تمامًا للشقين اللذين نفذت خلالهما؛ بينما إذا استبدلنا الجسيمات بموجات (شبيهة بالموجات المتكونة بانغماس حجر في أي مسطح مائي) فإن الموجة الواحدة منها تبدأ في التوسُّع إلى أن تمر خلال الشقين على هيئة موجتين جديدتين مخلِّفتين وراءهما أنماطًا تداخلية.
لكن عندما يأخذ المنظور الكمي موضعه فنكتشف أن سلوك الجسيمات المتعارف عليه يحدث فقط عند خضوع تلك الجسيمات للرصد والمراقبة، بينما تتخذ الجسيمات سلوكًا آخر في حال عدم الرصد، فنجدها قد خلَّفت وراءها نفس النمط التداخلي الخاص بالموجات، فيما يُعرف بـ (ازدواجية الموجة والجسيم- wave-particle duality).
وهنا يطرح سؤالٌ غاية في اللامنطقية والغرابة نفسه: هل يمر الجسيم الواحد من كلا الشقين؟
بين عامي 1925 و1927 ظهر أحد التفسيرات النظرية لتلك التجربة بواسطة كل من الفيزيائي الدنماركي «نيلز بور» ومساعده «فيرنر هايزنبرج»، فيما عُرف باسم «تفسير كوبنهاجن» Copenhagen Interpretation، والذي يقول بأن حالة الجسيمات الأصلية هي الوجود في جميع الصور والاحتمالات الوجودية لها في حال عدم رصدها فيما يُعرف بالوضع التراكبي (superposition state)؛ فالجسيم العابر من خلال أحد شقي الحائل يعبر في الوقت نفسه من الشق الآخر، ولكن عندما تخضع للرصد تبدأ في اتخاذ أحد صورها الوجودية فقط لتظهر به، فيمر من خلال أحد الشقين فقط.
في عام 1957 خرج الفيزيائيان الأمريكيان «هيو إيفيرت الثالث» Hugh Everett III و«جون ويلر»John Archibald Wheeler بتفسير جديد لازدواجية الموجة والجسيم متمثلًا في تعددية العوالم الموازية ومستخدمين المعادلات الرياضية نفسها كما في التفسيرات الكلاسيكية، ولكن بدلًا من تلاشي الخاصية الموجية للجسيمات عند خضوعها للمراقبة، فإن هذا العالَم (عالمنا) ينبثق منه عدة عوالم موازية مساوية في العدد لكل الاحتمالات الممكنة لمسار تلك الجسيمات، حيث يقع كل احتمال في أحد تلك العوالم ولكنها غير قابلة للرصد.
كما اعتقد الفيزيائي الأمريكي من معهد بريمتر للفيزياء النظرية «لي سمولين» Lee Smolin بإمكانية تناسخ الكون لنفسه من خلال الثقوب السوداء. ووفقًا لنظريته المُسماة بـ «الانتخاب الطبيعي للكون» cosmological natural selection فإن العوالم ذات الحصيلة الأكبر من الثقوب السوداء أكثر قابلية لاستيلاد عوالم أخرى. وفي كتابه «حياة الكون» The Life of the Cosmos استند في اعتقاده بأن تلك العوالم تحاكي عالمنا الحالي، إلى أن الثقوب السوداء تتكون في الأصل نتيجة انهيار نجوم بكثافة عظيمة وحجم ضخم، وحيث إن تلك النجوم تحتوي على العناصر الأساسية لتكون الحياة مثل الكربون، والأكسجين، والحديد فإن بيئة تلك العوالم هي بيئة صديقة كذلك.
بينما كان لدى الفيزيائي «هوارد وايزمان» مدير مركز الديناميكية الكمية بجامعة جريفيث منظور آخر؛ حيث رأى أن تلك العوالم لا تنبثق من أخرى، وإنما هي عوالم متوازية موجودة بالفعل منذ الأزل، بعضها يسلك مسار أفضل حبكات الخيال العلمي حيث لم تلق نفس مصائر عالمنا، فمثلًا لم يصطدم بها بعد ذاك الكويكب منذ 66 مليون سنة مخلفًا وراءه انقراض الديناصورات، وبعضها الآخر يحاكي عالمنا تمامًا ويقطُنُه النسخ الأخرى من ذواتنا المُستقرين على النسخ الأخرى من كوكب الأرض، حيث إن التفاعل بين تلك العوالم هو السبب وراء الظواهر الكمية بحسب تلك النظرية.
قد تُكبِّلك أصفاد المعرفة… تمامًا كأصفادِ الجَهل
إذن لعله كان تأثرًا بنظريات الميكانيكا الكميَّة عندما كتب المؤلف والمخرج «جاكو فـان دورميل» فيلمه Mr.Nobody، حيث ينسج فلك الأحداث حول شخصية «نيمو» الكهل ذي الذاكرة الضبابية الهشَّة والذي يخضع لمراقبة مجموعة من الأطباء بخلاف الرصد الإعلامي، حيث يُعد آخر بشري قابل للفناء في عصر نجح فيه البشر في التحكم بمقاليد الأبدية والخلود عام 2092. يبدأ أحد الأطباء رحلة اكتشاف هوية نيمو منقِّبًا بين بقايا ذاكرته المتآكلة ليبدأ في تتبُّع مسار حياته منذ البدء.
يمضي نيمو أول 9 أعوام من عمره منعمًا بحياة هادئة مستقرة مدثَّرًا بحب والديه قبل أن يتخذا قرارهما بالانفصال. وهُنا تبدأ حبكة الفيلم في التشابك واتخاذ شكلها التصاعدي، حيث يتعين على نيمو اتخاذ أول قرارٍ مصيريٍ في حياته. عليه أن يتخذ قرارًا يضعه أمام خيارات هي أصعب من جميع سابقاتها التي اعتاد الشعور أمامها بالحيرة، وكان أقصاها وأكثرها تحيرًا أي نوع من الحلوى يفضِّل. لكن هذه المرة تبدو الأمور أكثر تعقيدًا وخطورة؛ إن على نيمو الاختيار بين المكوث مع أحد والديه فكيف يمكنه الاختيار بين الماء والهواء؟!
ثم تنسحب الأحداث لخوض كلا الاحتمالين، وكيف ينبثق من كل احتمال مجموعةٌ أخرى من الاحتمالات، وشكل مغاير تمامًا لحياة نيمو المتنامية على كلِّ قرار كالبنيان المرصوص. بنيان ذو طراز وتصميم خاص ومختلف وفقًا لكل احتمال. ذاك الطفل التائه المتعثِّر الآن بين اختياراته وما يترتب عليها من احتمالات وعواقب قد يستطيع التنبؤ بها بحسب ظنه مما يجعل مهمة الاختيار –بعكس المتوقع- تبدو أصعب.
من هنا يأخذنا الفيلم في رحلة تتوازى فيها مسارات مختلفة لحياة نيمو في جميع الاحتمالات، وفقًا لجميع الخيارات. فتسير الأحداث وفقًا لقراره بالمكوث مع أبيه، كما نشهد الأحداث كذلك عندما يتخذ قراره بالركض خلف القطار الذي تستقله أمه ليتشبث بيديها في اللحظة الأخيرة. وهُنا يطرح الصحفي المحاور لنيمو الكَهل سؤالًا يتردد على لسان المُشاهد: «حسنًا، لم أفهم. هل ذهبت مع أمِّك أم بقيت مع أبيك؟»
يقوم دورميل بتضمين بعض الخيوط الرمزية الفلسفية التي يجيد حياكتها وحكايتها ضمن حبكته الدرامية بمهارة فائقة. ففي المشهد الافتتاحي للفيلم نرى حمامة بداخل صندوق تتحرك بتوتر، وبمقدار كل بضع دقائق يتم فتح منفذ صغير بالصندوق ويُقَدَم لها الطعام من خلاله. في المرة الأولى تصادف تزامن فتح المنفذ مع قيامها بحركة جناحيها، فتوهَّمت الحمامة أن حركتها هي المسببة لفتح المنفذ وتقديم الطعام؛ فاستمرت بفعل ذلك كل مرة ترغب فيها بتناول الطعام. فيما يُعرَف بـ «خرافة الحمامة».
مثيرةٌ للجدل والتأمُّل تلك الضلالات التي تغشى المرء فيعتقد واهمًا أنه المتحكم والمتسبب في أحداث أو خيارات لا ناقة له فيها ولا جمل.
أثر الفراشة
وخلال جولة المشاهد عبر أروقة الحبكة ومساراتها المتوازية، يتعثَّر بأحد أهم الرمزيات الفلسفية ممتزجة بالأحداث، والمعروفة بـ The Butterfly Effect أو «أثر الفراشة»، أو كما صاغها محمود درويش في قصيدته:
وأثر الفراشة هو اسم مجازي تم إطلاقه اصطلاحًا على ظاهرة فيزيائية فلسفية أخرى تُعرف بـ «نظرية الفوضى»؛ تتمحور تلك النظرية حول فكرة أن التغيرات الطفيفة في نظام ديناميكي مُتحرك قد تشكِّل على المدى البعيد فروقًا هائلة في أحداث وسلوك هذا النظام.
فـهو العلاقة بين حدثٍ غاية في البساطة والدقة إلا أنه مرتبط ومُساهِم فيما يعقبه من أحداث وعواقب تفوقه حجمًا آلاف المرات بشكل غير مُتوقَّع. وقد جسد العلماء هذه الظاهرة بوصف تمثيلي يقول بأن ضربات جناحي فراشة في بُقعة أرضية ما يُمكن أن تتسبب في فيضانات أو رياح هادرة في بقاعٍ قصيَّة أخرى.
أو كما صاغها الرياضي الأمريكي «إدوارد لورانز» بقوله:
يستعرض جاكو فان دورميل نظرية أثر الفراشة ويجيد مزجها بين طيَّات الحبكة، فنرى أن «نيمو» في الثلاثينيات من عمره قد التقى مجددًا بمحض الصدفة بحبيبة طفولته «آنا» التي لم يرها طوال الخمس عشرة سنة الفائتة، وعندما التقوا كانت قد تركت له ورقة صغيرة مُدون عليها رقم للتواصل معها. على بعد آلاف الأميال وقبل ذلك بفترة قام فيها رجلٌ برازيلي عاطل بغلي بيضة تحضيرًا لإفطارِه في الوقت الذي كان من المفترض أن يذهب فيه إلى عمله؛ ولّدت حرارة الغليان جزيئات حرارية في الغرفة حيث الفرق في درجة الحرارة فيما يُعرف بـ (Microclimate). وبعد ذلك بشهرين تساقط مطر غزير على الجهة الأخرى في دولة أخرى، حيث يقف «نيمو» على ذاك الرصيف مودعًا «آنا» بعد أن تركت له الورقة الصغيرة الحاملة لسبيل التواصل الوحيد بينهم، بالتأكيد قبل أن تهطل الأمطار وتذيب الورقة وتمحو ذاك السبيل بلا أثر.
وقد اعتمد دورميل التكنيك الرمزي أيضًا لإضافة بُعد دلالي أعمق لبعض التفاصيل البسيطة. فقد اختار للشخصية اسم «نيمو» ويعني باللاتينية «لا أحد»؛ بالطبع كما سيوحي لك الاسم بأن له دلالة قوية في نسيج الحكاية. عندما قام الصحفي المحاور في غمرة تشتته واندهاشاته المضطربة بطرح تساؤله على نيمو الكهل: هل ثمة حياة بعد الموت؟
واتته الإجابة كصاعقة ثلجية من بين ضحكات نيمو الساخرة: وكيف يمكنك الوثوق إلى هذا المدى بأنك موجود حتى؟ إننا لسنا سوى محض خيال بداخل عقل طفل في التاسعة من عمره يجابه مشقة الاختيار المستحيل.
فنكتشف أن جميع المسارات المتوازية بدءًا من لحظة الاختيار هي فقط داخل مخيلة الطفل ذي الـ 9 أعوام الواقف متعثرًا بين خياراته على رصيف المحطة في لحظة محورية فارقة؛ فتوقفت حياته عند تلك اللحظة.
قد تداهمك الحياة بخياراتٍ مستحيلة؛ خيارات لا تملك أمامها سوى الوقوف بين منتصف كل الموازين؛ فلا تستطيع أن تتحرك صوب أحد أطرافها دون أن يختل توازنك. وعلى الرغم من ذلك؛ قد تبقى تلك الاختيارات والقرارات هي ما يمهِّد أمامك الطريق للحياة، ما يمنحك المرونة بعد الاهتزاز والثبات بعد العثرة، هي ما يشكل ملامح هويتك، ما يجعلك أنت بنسخة متفرِّدة حتى وإن كانت ضمن نسخ متعددة مبعثرة لذاتك بين عوالم موازية. قد يستجمع قرارٌ صائب، أو احتمالٌ فارق شتاتَك وسرابَ وجودِك من برزخِ اللاأحد إلى كُنهِ الوجود.