غالبًا ما سيتم النظر إلى الحديث عن «مويك» على أنه حديثٌ عن نشاط طلابي، أو مجرد نموذج محاكاة يوجد في مجموعة من الجامعات المصرية، وبالتحديد جامعة القاهرة منشأ النموذج، والإسكندرية وحلوان والأزهر وغيرها.

لكن في الحقيقة، هذا المقال لا يعالج «مويك» كنشاط طلابي، بل إنه يدرسه باعتباره فضاء من الفضاءات المنتمية للمساحة الإسلامية بشكلها التقليدي، وربما فهم ما يحدث للنموذج من تغير بنيوي يسهم بشكل ما في تعميق فهمنا لحركة الأسلمة بشكلها الأكبر، ومن ثم محاولة استشراف لمستقبل حركاتها، خصوصًا مع التحولات التي أحدثها الربيع العربي، في مصر بالتحديد. لذا، فالمقال يداول بين فهم «مويك» من خلال فهم الفضاء الإسلامي الأوسع، وبين فهم الفضاء الإسلامي الأوسع من خلال فهم «مويك».

يسير المقال في ثلاثة خطوط رئيسة، تتقاطع مع بعضها البعض، يتناول الأول منها التغيرات التي حدثت في طبيعة الشخصية الإسلامية نفسها، ويعنون بـ«الإسلاميون الجدد». والخط الثاني يتناول بشرح مبسط، مفهوم «ما بعد الإسلاموية» كمفسر لحالة الإسلاميين الجدد، وللأفكار التي يعتنقونها، ويعنون بـ«ما بعد الإسلاموية والإسلاميون الجدد». أما الخط الثالث، فأحاول فيه تطبيق ما ذكرته عن «الإسلاميون الجدد» و«ما بعد الإسلاموية» على حالة «مويك»، ويعنون بـ«مويك والإسلاميون الجدد وما بعد الإسلاموية».


«الإسلاميون الجدد»

ظل الشباب المتدين، أو المنتمي للإسلام اعتقادًا وممارسة، هو المصدر الأول لكوادر الجماعات الإسلامية، ولصفوفها من الشباب، والأمر نفسه ينطبق على كل الجماعات الوسيطة التي انتمت بشكل تقليدي للفضاء الإسلامي، و«مويك» من بينها.

مثلت الثورة نقطة تحول في مستوى الاتصال بين من ينتمون للفكرة الإسلامية وتيارات أخرى، وهو ما أكسب أتباع الفكرة الإسلامية أفكارًا مختلفة عما اعتادوا عليه داخل فضائهم الإسلامي التقليدي.

كانت مؤسسة المسجد مركزًا لهذا «التجنيد» – إن صحت التسمية – فمعايير الانضمام للجماعات الإسلامية اعتمدت وبشكل أساسي على درجة التزام الفرد بالممارسات التى تعبر عن درجة عالية من الالتزام بالشعائر الدينية الظاهرية، وبهذا الشكل كان من السهل للغاية القيام بعملية التجنيد، لسهولة التعرف على مظاهر التدين الخارجية للأفراد، وسهولة تكميمها، أي قياسها كميًا.

مع ثورات الربيع العربي؛ حدثت تطورات هيكلية وبنيوية، ليس فقط داخل الجماعات الإسلامية، وفي بِنيتها، بل أيضًا في الفضاء الشبابي، الذي اعتمدت عليه هذه الجماعات في تجنيدها لأفرادها. وهو ما كان من شأنه أن يغير بالتبعية في معايير الاختيار لهؤلاء الأفراد وطريقة تجنيدهم. فقد مثلت الثورة نقطة تحول عميقة في مستوى الاتصال بين من ينتمون للفكرة الإسلامية، وبين أولئك المنتمين لتيارات أخرى كالليبرالية واليسار، كان من شأن هذا الاحتكاك الجديد أن يكسب أتباع الفكرة الإسلامية قيمًا وأفكارًا مختلفة عما اعتادوا عليه داخل فضائهم الإسلامي التقليدي.

أحدثَ هذا تغيرات داخلية عديدة داخل الذات الإسلامية، وبالتحديد داخل الذات الإسلامية الشابّة، تلك التي كانت أجدر وأكثر استعدادًا للدخول في حوار حول الأيديولوجيا، مع أصدقاء التيارات الأخرى من اليسار والليبراليين. وحدث هذا بالأساس لأن هؤلاء الشباب كانوا الأقل تلوثًا بصراعات الماضي مقارنة بعجائز هذه التيارات، وهم الأكثر تحررًا بحكم السن من سجون الأيديولوجيا وتوابيتها المعلبة.

حدث هذا النقاش (الإسلامي – الليبرالي اليساري)، في أروقة الجامعات، وفي قاعات المحاضرات، وفي الصالونات الفكرية، وفي الميادين، وبالتأكيد على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا النقاش أحدث حراكًا فكريًا حقيقيًا بعد يناير، وهي الفترة التي رغم تميزها بحالة من الاستقطاب الأيديولوجي الحاد، لكنها في الوقت نفسه شهدت ظاهرة أخرى لا تقل أهمية، وهي حالة التنقل بين الأيديولوجيات.

حفزَ هذا السياق من توجه كثير من شباب الإسلاميين للتحصيل المعرفي، وبالتحديد في العلوم الاجتماعية، ليظهر ما يمكن تسميته بمحاولة تجاوز الأيديولوجيا، فاهتم هؤلاء الشباب بمشاريع فكرية تفسيرية للعالم ولصراعاته، وإن كانت لمفكرين خارج الفضاء الإسلامي تمامًا، وهو ما يعد خروجًا عن الإطار التقليدي، الذي ركز بالأساس على قراءة إنتاج مفكري الحركة الإسلامية، كـ«سيد قطب» و«البنا» و«الغزالي» وغيرهم، والاكتفاء بهم.

نتيجة لهذه التحولات في بنية المجتمع بشكل عام، والفضاء الإسلامي بشكل خاص؛ ظهرت لنا شخصية إسلامية غير تلك الشخصية التقليدية التي اعتدنا عليها، فأصبح لدينا شباب يؤمن بالفكرة الإسلامية وينافحُ عنها فكريًا، لكنه يختلف من حيث الممارسة العملية عن الإسلامي التقليدي. فهؤلاء الشباب لا يلتزمون كثيرًا بتأدية الشعائر الإسلامية، ولا تظهر معالم الإسلامية غالبًا على سمتهم، كما كان الحال مع الشخصية الإسلامية التقليدية.

لا يطلقون اللحى، ولا يحلقون الشوارب، لا يمسكون في أيديهم مسبحة أو مصحفًا، لا يبدؤون طعامهم بالتسمية، ولا يختمونه بالتحميد، لن يشكروك بكلمات «جزاكَ الله خيرًا»، ولن يودعوك بـ«في حفظ الله». تغيرت لديهم قواعد الاختلاط، تجاوزوا ربما هذا الإشكال، نحو أنماط علاقات أكثر تحررًا، يظهر كذلك هذا التغير في طبيعة الملبس، حيث تميل لأن تكون أقل محافظة من الزي الإسلامي التقليدي، وغيرها.

إجمالًا، بدا أننا إزاء ذات إسلامية تعيد تعريف نفسها، وتعريف العالم، بمفاهيم مختلفة عما اعتادت عليه حركات الأسلمة في شكلها التقليدي.


«ما بعد الإسلاموية» و«الإسلاميون الجدد»

يعرف «آصف بيات» «ما بعد الإسلاموية» على أنها: انتقال من أيديولوجية إسلاموية، قوامها احتكار الحقيقة الدينية والإقصائية، والتأكيد على الالتزامات، نحو الإقرار بغموض النصوص والتعددية والاستيعاب والمرونة في المبادئ والممارسات[1]. والتعريف السابق لا ينفي أن المفهوم ما يزال يثير الكثير من الجدل، ويصعب تأطيره بشكل كبير، لكن يمكن التأكيد على مجموعة من المقولات الرئيسية لـ«ما بعد الإسلاموية»، تفسر ربما طبيعة الذات الإسلامية الجديدة، وطبيعة هذا الجيل الجديد من الإسلاميين. ورغم أن «ما بعد الإسلاموية» تعالج بشكل أساسي التغيرات التي حدثت لجماعات الإسلام السياسي، وبالتحديد في رؤاها السياسية، ولا تركز على التغيرات في الذات الإسلامية نفسها، إلا أنه يمكننا الاستفادة منها، في فهم الأفكار الأساسية التي يعتنقها هؤلاء الإسلاميون الجدد.

«ما بعد الإسلاموية» ليست علمانية أو معادية للإسلام أو غير إسلامية، إنما هي بالأحرى تمثل سعيًا نحو دمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر. هي محاولة لقلب المبادئ المؤسسة لـ«الإسلاموية» رأسًا على عقب، من خلال التأكيد على الحقوق بدلًا من الواجبات، ووضع التعددية محل سلطوية الصوت الواحد، والتاريخية بدلًا من النصوص الجامدة، والمستقبل بدلًا من التاريخ. لذا فهي تريد أن تزاوج الإسلام والاختيار الفردي والحرية، على اختلاف درجاتها من ناحية، والديمقراطية والحداثة من ناحية أخرى[2]. لذا، فأحيانًا يتم التعبير عن «ما بعد الإسلاموية» في الاعتراف ببعض أسس العلمانية، مثل التحرر من التزمت، والقطيعة مع احتكار الحقيقة الدينية. وفي الوقت الذي تتحدد فيه «الإسلاموية» بربط الدين بالمسئولية، فإن «ما بعد الإسلاموية» تؤكد التدين والحقوق، مع إعطاء دور للدين في المجال العام.

ورغم أن البعض يرى في تيار «ما بعد الإسلاموية» نهاية للإسلام السياسي وجماعاته بشكله التقليدي، فإن «أوليفييه روا» في كتابه «فشل الإسلام السياسي»، يؤكد أن عجز الحركات الإسلامية عن تحقيق نموذج الدولة الإسلامية المتجاوزة للقوميات، لا يعني اختفاء تأثيرها وزخمها، إذ إنها ستبقى لتأخذ أشكالًا أخرى، متحورة على نحو يحول دون انتهاء وجودها. وأطلق على هذه الأنماط «ما بعد الإسلاموية»[3]. وهو ما يعني أن تيار «ما بعد الإسلاموية» لا يعد قطيعة مع «الإسلاموية»، كما أن «ما بعد الحداثة» لا تعني قطيعة مع «الحداثة».

لذا، فلا غرو من أن يرى البعض أن ما حدث من فشل لجماعات الإسلام السياسي في إنشاء نموذج للدولة الإسلامية في دول الربيع العربي، وبالأخص مصر وتونس، كان نقطة حاسمة، وسببًا في تسريع تحول هذه الجماعات لأشكال أخرى، كنمط «ما بعد الإسلاموية». ويتم ذكر حركة النهضة في تونس، كمثال على هذا التحول.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن أطروحات «ما بعد الإسلاموية» قد تلقت الكثير من النقد، حيث رأى فيها البعض نوعًا من التعميم المتسرع والسابق لأوانه عن نهاية «الإسلام السياسي» (بمفهوم إقامة الدولة الإسلامية)، على الرغم من اعترافهم بتحولات كبيرة في استراتيجيات ومواقف بعض الجماعات الإسلامية. فما يبدو أنه يتغير – كما يقولون – ليس «الإسلام السياسي» (أي ممارسة السياسة في إطار إسلامي)، ولكن فقط نسخة ثورية خاصة منه. وجادل آخرون بأن مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي» لا تشير إلى واقع استثنائي، ولكن ببساطة إلى متغير في تعاطي السياسة لدى تيار «الإسلام السياسي».

لكن رغم كل هذا النقد، تبقى «ما بعد الإسلاموية» أطروحة غاية في الأهمية لفهم حالة «الإسلاميون الجدد»، وبتطبيق مقولاتها على الفئة التي نناقشها في المقال؛ يمكن ملاحظة كيف أن الكثير من هؤلاء الشباب يعتنقون أفكارها، وإن تفاوتوا في درجة هذا الاعتناق.


«مويك» و«الإسلاميون الجدد» و«ما بعد الإسلاموية»

عجز الحركات الإسلامية عن تحقيق نموذج الدولة الإسلامية المتجاوزة للقوميات، لا يعني اختفاء تأثيرها، إذ إنها ستبقى لتأخذ أشكالًا أخرى، أُطلق عليها «ما بعد الإسلاموية».

باعتبار «مويك» جزءًا من الفضاء الإسلامي، أو يحسب عليه بشكل من الأشكال، فإنه يصلح في رأيي كحالة تطبيقية ممتازة، لفهم هذا التحول في الذات الإسلامية. وذلك لاعتبارين مهمين، أولهما أن النموذج عُدّ منذ تأسيسه الكيان الإسلامي الأكثر انفتاحًا من الكيانات الإسلامية الأخرى الموجودة، لذا فهو الأكثر استعدادًا بحكم طبيعته هذه، لأن يستوعب هذه الموجة الجديدة من «الإسلاميون الجدد». وثانيها، أن النموذج هو الكيان الإسلامي الوحيد الذي يتشكل بكامله من فئة الشباب، وبالتحديد من هم في سن الجامعة، وهي الفئة التي يتناولها المقال بالأساس. وهي المعنية بهذا التحول «ما بعد الإسلاموي».

هذا التحول في الذات الإسلامية، من شأنه أن يغير أيضًا من طبيعة المنضمين للنموذج؛ وهو ما من شأنه أن يفرض معايير جديدة لاختيار كوادر النموذج والمنضمين إليه، فإذا كان النموذج منذ تأسيسه وحتى الآن، قد اعتمد في تجنيده لكوادره على الشباب الإسلامي التقليدي، فإنه ربما يكون مضطرًا لأن يغير من معايير اختياره، لتتسع لهؤلاء الشباب الجدد، أو من يصنفون بـ«الإسلاميون الجدد». هذا التغير في معايير الاختيار سيستلزم نوعًا من التخفف من الأيديولوجيا القابضة على صدر النموذج، والقابضة كذلك في الحقيقة على أغلب الكيانات المنضوية داخل الفضاء الإسلامي.

إذا لم يُفهم هذا التحول الجذري الذي تمر به الذات الإسلامية، فسنكون إزاء حالة من التآكل لكل المؤسسات والكيانات الجامعة لهذه الذات، وهو ما يهدد كذلك «مويك» بخطر الاندثار.

ما سيُطرح من نقاش لاحقًا لا محالة حول هذا التخفف: هو هل هذا التخفف يعد نوعًا من التفريط في الهوية الإسلامية للنموذج، أم مجرد تخفف من أعباء الأيديولوجيا، ومجرد محاولة لتوسيع دائرة المنتمين للنموذج وتطوير لكوادره؟

هذا النقاش لابد منه ليس فقط لـ«مويك» وحده، بل لكل الجماعات الوسيطة المنتمية للفضاء الإسلامي، فعدم استيعاب هذه الحالة الإسلامية الجديدة – ما بعد الإسلاموية – داخل هذه الجماعات، سيؤدي بشكل ما لتآكل كوادرها، وعدم ضخ دماء جديدة لها. إلحاح هذا النقاش يأتي بالأساس من التهديد القائل باحتمالية تآكل التيار الإسلامي، وهو التهديد الذي وإن بدا مبالغًا فيه، لكن ليس ثمة شكٌ بأنه يستحق أن يوضع على مائدة النقاش.

لذا، فإذا لم يُفهم هذا التحول الجذري الذي تمر به الذات الإسلامية، فسنكون ربما إزاء حالة من التآكل لكل ما من شأنه أن يمثل مؤسسات وكيانات جامعة لهذه الذات، وسنكون أمام حالة إسلامية فردانية بامتياز، مع بزوغ أنماط جديدة من التدين الفرداني، بدلًا من التدين الجماعي الذي فرضته ودعت إليه هذه الجماعات في الماضي. وبالتالي يُستكمل ما بدأ منذ سنوات، من أنماط تدين فردانية، تحصر الدين في المجال الخاص، بحيث لا يكون مكونًا من مكونات المجال العام.

سيكون النموذج هو الآخر مهددًا بخطر الاندثار، نظرًا لتآكل الفضاء الذي يموله بالأفراد والأفكار، وهو الفضاء الإسلامي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. «ما بعد الإسلاموية كمشروع: الماهية والحدود»، محمد مسعد العربي، مجلة «ذوات» الصادرة عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»، عدد 19, 2015
  2. Olivier Roy, The failure of Political Islam (Cambridge: Harvard University Press), 1998