أفلام حولت الأم من نبع الحنان إلى مصدر للرعب
في عام 1977 صنعت المخرجة البلجيكية شانتال أكرمان فيلم أخبار من الوطن news from home. اعتمد الفيلم على عنصرين أحدهما بصري والآخر سمعي، مشاهد حية من شوارع نيويورك، وصوت أكرمان يلقي خطابات تلقتها من والدتها أثناء مكوثها هناك، يعتبر الفيلم وثيقة شخصية وذاتية لعلاقة أكرمان بوالدتها وبالمدينة موضوع العمل، تربطها بأمها علاقة مقربة وحميمية لأبعد حد، أكرمان تعرف وجودها بوجود أمها، هما كل لا ينقسم إلى أجزاء، لكنها أيضًا مهتمة بالسعي وراء طموحاتها الفنية السينمائية، تحوي خطابات نيلي أكرمان الأم لابنتها محبة وافرة وعاطفة دافئة لكن يشوبها بل ويغلفها أحيانًا قلق عصابي وعتاب سرعان ما تخفيه بتقبل الغياب، لا تعلق أكرمان بذاتها أو بأي وسيلة أخرى داخل الفيلم عن أي رد فعل أو رأي في طبيعة تلك الخطابات وأثرها عليها، ولا نستمع حتى للجانب الاخر وهو ردها عليها.
يجعل الوسيط الوثائقي المجرد تجربة مشاهدة الفيلم وتلقيه محايدة بل ومحيرة أحيانًا، لكن عند البحث عن الفيلم ستجد أن الفرضية المكتوبة عنه والتعريفات التي تصاحبه تصفه بشكل واضح، يعرفه موقع Imdb كذلك: «صور جميلة غير شخصية لحياة أكرمان في نيويورك تصاحبها خطابات من والدتها المحبة لكن المتلاعبة بصوت أكرمان نفسها»، تتكرر كلمة التلاعب الأمومي في كل مراجعة للفيلم ويتمثل ذلك في ادعاء الأم التصالح مع بعد ابنتها لكنها لا تتوقف عن ابتزازها عاطفيًا لكي تعود لأحضانها من جديد، على الرغم من أن أكرمان دائمًا ما تتحدث عن والدتها بحب فائض وارتباط يصعب فك وثاقه حتى أنها تخلصت من حياتها عقب وفاة والدتها بعد أن أنهت مسيرتها السينمائية بفيلم يسرد آخر شهور من حياة والدتها، إلا أن نظرة المتلقي الخارجي ترى ذلك التلاعب الأمومي، ورغبة الابنة في الابتعاد والاستقلال بحياتها الشخصية والعملية.
في كتابها «والدتي تضحك» ترسخ أكرمان لثنائية الحب والرغبة في الهرب، والرغبة الأمومية في الشعور بضرورة الاحتياج لها وأن تكون عنصرًا فاعلاً في حياة أولادها وفي هذه الحالة ابنتها تحديدًا:
تمثل شانتال أكرمان نموذجًا لاستخدام علاقة الأمومة والبنوة في الأفلام وصعوبات التعلق والرغبة في الانفصال، لكن في أفلامها التي تستقيها بشكل واقعي من حياتها لا توجد دراما متطرفة أو كبت عنيف نتيجة ذلك الالتصاق المتبادل ورغبة الأم في الشعور بالأهمية.
يأخذ العديد من صناع الأفلام والروائيين تلك العلاقة المعقدة التي يسهل ربطها بإحالات للتحليل النفسي وتحويلها الى صراع محتدم مرعب بين طرفين إلى آفاق أكثر تطرفًا من سينما أكرمان الواقعية، في تلك الأعمال يمكن للأم أن تكون نموذجًا للشر الذي يتخذ من الصفات الغريزية للأمومة غطاء له، وتكون الابنة أشبه بضحية للتربية المنغلقة والاهتمام الزائد الذي يجعل منها طفلة طيلة حياتها، فهي لا تعرف إلا أن تكون ابنة ولا تترك لها فرصة النضوج والتحول لامرأة ذات جسد مستقل عن جسدها الطفولي الملتصق بالأم، لكن الرغبة في التحرر والانفصال من ناحية الابنة تكون عملية مضنية فهي لا تعرف الحياة خارج ذلك الرحم المجازي لذلك حين يحدث الانفصال يكون دمويًا عنيفًا، تشترك تلك الأعمال في تركيزها على التوجهات الجنسية غير المعتادة للابنة بسبب تشنيع الأم للعملية الجنسية الطبيعية، رغبة من الأم في السيطرة الكاملة على طهارة ونقاء الابنة ونزع سمات الأنوثة الناضجة عنها لكي تظل طفلتها إلى الأبد، استخدام الفن كمحفز على الالتزام ودمج عناصر وسمات أفلام الرعب مع أفلام النضوج، تنطبق تلك الصفات على العديد من الأفلام منها كاري carrie 1976، البجعة السوداء black swan 2010 ومعلمة البيانو the piano teacher 2001.
الأم كنموذج مرعب
تعتبر الأم في المخيلة الجماعية مصدرًا للعطاء والحب غير المشروط، وجودها يساوي الأمان وفقدانها يترك فجوة كبيرة يصعب ملؤها، في السينما كذلك نماذج عدة على تلك الأم التي نتصورها، لكن في أفلام أخرى تصبح الأم كيانًا من صفات أكثر تعقيدًا، فهي ليست مجرد شخصية ثانوية بل فيها يمكن رؤية أسباب ما آل إليه حال البطلة الابنة في الأفلام الثلاثة. تضم مساحة المنزل الداخلية شخصيتين نسائيتين وأب غائب لأسباب مختلفة، تحدث معظم التفاعلات العائلية داخل تلك المساحة السرية، نادرًا ما تترك الأم تلك المساحة الداخلية للمنزل وكل ما يهمها هو أن تعود ابنتها من العالم الخارجي إلى كنفها في أسرع وقت وليس في وقت متأخر من الليل يتيح لها أن تجد خيارات أخرى للحياة ، لكن ذلك الحضور الدائم للأم ليس حضورًا مطمئنًا بالضرورة بل إنه حضور شبحي مهدد يستخدم الطمأنة فقط لنصب الفخاخ للفريسة في صورة الابنة.
نجد في كاري للمخرج لبريان دو بالما والمقتبس عن الرواية الأولى لستيفن كينج المثال الأكثر تطرفًا، فتصنيفه الأساسي هو الرعب وينشق منه نوع فيلم النضوج، فهو قصة نضوج كاري من السذاجة والبراءة إلى تحقيق إمكانياتها الخارقة، كاري فتاة خجولة طالبة في المدرسة الثانوية تتعرض لمضايقات عنيفة ومستمرة من زميلاتها بسبب تربية أمها الدينية لها، فهي أشبه برضيع لا يعرف الحياة خارج رحم أمه، لا تتحدث أو تتواصل بطبيعية مع بيئتها ولا تعلم شيئًا عن بديهيات العالم أو الجسد الذي تسكنه.
تظهر أم كاري في الفيلم لأول مرة من وجهة نظر الابنة، نراها من زاوية سفلية تضخمها وتزيدها رهبة، سيدة متجهمة لا يخلو وجهها من ملامح لجمال تحاول إخفاءه، تأتيها كاري راكعة باكية بسبب عنف تعرضت له في المدرسة لكنها تبادل نحيبها بالعقاب، منزل كاري ووالدتها أشبه بمعبد مصغر تملؤه الأيقونات والشموع ولكن حضور الدين مثل الأم موتر ومفرط يوحي بمفردات التضحية والعذاب المسيحية، كل حضور لأم كاري هو حضور شبح مرعب، بل إن سيطرتها الأمومية ذاتها هي أكثر العناصر إخافة.
ترى والدة كاري أن كونها امرأة هو عقاب، فالرب عاقب المرأة بسبب الجنس لذلك يمثل وجود كاري عقابًا يوميًا ومعاناة بالنسبة لها، كاري هي الشاهد على خطيئة والدتها المتروكة، يكمن رعب والدة كاري في كون الأمومة عذابًا بالنسبة لها وأمر تتحمله على مضض يوميًا تسعى فقط لئلا تكرر ابنتها نفس الخطايا، تحمل كاري عبء تربية والدتها لها، تخاف من كل شيء خارجها وتخاف منها، تريد التحرر من قبضتها لكنها لحظة ما يحدث خطأ صغير في العالم الخارجي ترتمي في أحضان لا تتسع لها.
في نفس التصنيف النوعي أي الرعب يقع البجعة السوداء لدارين أرنوفسكي، يضم المنزل أمًا وابنتها الوحيدة، كلاهما محبتان للفن راقصتا باليه، تسعى نينا الراقصة الواعدة للفوز بدور ملكة البجع الشهيرة، لكن عليها أن تتقن لعب البجعة البيضاء البريئة والبجعة السوداء المغوية.
يفتتح الفيلم بمشهد من باليه بحيرة البجع فيه تواجه الأميرة وحشًا أسود يتحرك ككيان شبحي هائل، تقع في قبضته وتنفلت منه، تستيقظ نينا من حلمها ذلك في غرفتها التي تبدو وكأنها لم تتغير منذ أن كانت فتاة صغيرة، تجلس أمام مرأة ثلاثية تكشف انقسامها الذي سنكتشفه كمشاهدين لاحقًا، تمدد جسدها استعدادًا للذهاب إلى تمارين الرقص وفي تلك اللحظة نختبر الظهور الأول للأم، لا نراها بشكل واضح ولا نرى وجهها أو تعامل بينها وبين ابنتها بل تمر في مقدمة الكادر بسرعة تجعل منها كينونة شبحية تعكس وحش مشهد الباليه الافتتاحي، لكن عندما نقابلها بشكل رسمي ونرى تصرفاتها مع نينا فهي سيدة مبتسمة وحنونة، تهتم لأمر ابنتها كطفلتها الصغيرة، تكرر على مسامعها باستمرار كلمتين (فتاة لطيفة)، وفي المقابل تتصرف نينا كطفلة في وجود أمها، ترتدي الملابس الوردية وتحب الزهور الجميلة، تقص والدتها أظافرها ولا تغادر غرفتها إلا بعد أن تشد عليها غطاءها وتقبلها.
في تلك العلاقة المحبة ظاهريًا لم تتخطى علاقة الوالدة كموفرة للرعاية والابنة كمتلقية لها، في كاري كرهت الأم وجود ابنتها وحرصت على السيطرة الكاملة عليها أما هنا فإن سلوك الأم يميل أحيانًا إلى الغيرة من ابنتها التي حظيت بما لم تحظَ هي به، وفي أحد التبادلات العنيفة تواجه نينا أمها بكونها لم تكن بطلة لعرض أبدًا لترد عليها الأم بأن سبب ذلك أنها تخلت عن الفن لكي ترعاها، وهو ما يعطيها الحق في السيطرة الكاملة على حياتها، تتراكم الضغوط على نينا، هي لا تملك رغبة حقيقية في التحرر إلا بعد اختبارها لمحة منه، وتعلم أنها لن تتطور في فنها إلا إذا تحرر جسدها من سيطرة أمها، على عكس كاري لم تعنف والدة نينا ابنتها إلا عن طريق التلاعب الأمومي والتبديل بين الرعاية والابتزاز.
في أحد المشاهد تحتفل المرأتان بنجاح نينا في الحصول على الدور، تصنع الأم كعكة باللونين الوردي والأبيض وتصر أن تتذوقها ابنتها التي لا تزال مرتبكة من الخبر، يبني الفيلم أجواء رعب منزلية محتدمة، في لحظة ما يتغير وجه الأم من الحماس والابتسام إلى التجهم والغضب لأن ابنتها لا تقدر مجهوداتها، تتحرك بعنف لتلقي الكعكة في القمامة، ينجح التلاعب في تحويل نينا إلى طفلة بريئة مرة أخرى تسمع كلام والدتها.
يصعب تصنيف فيلم معلمة البيانو لمايكل هانكة لكن يمكن أن يتسع له نوع الرعب أو على الأقل يملك القدرة على خلق صور موترة وبناء ضغط يترك المشاهد في حالة من الخوف مما يمكن أن يحدث تاليًا، مثل كاري والبجعة السوداء تدور الأحداث العائلية الداخلية في منزل تحتل مساحته أم وابنتها دون أب، يتم التلميح إلى أن الأب عانى من مشكلات عقلية ونفسية قبل وفاته، يبدأ الفيلم بباب يفتح ولا يضيع وقتًا ليعرفنا بالأم بل نراها في أول تفاعل، تفتح إريكا الابنة باب منزلها لتجد والدتها في أوج غضبها بسبب عودتها في وقت متأخر من الليل، يبدأ بينهما نقاش حاد سرعان ما يتحول إلى تعارك عنيف بالأيدي يصل إلى أن تقتلع إريكا شعيرات من رأس والدتها، وينتهي المشهد بإريكا تبكي وتعتذر وتقر كل منهما بحبها للأخرى.
تمثل الأم هنا كيانًا ضاغطًا ومتلاعبًا، فهي والدة تشجع ابنتها معلمة البيانو على النجاح والوصول للمراتب العليا في مجالها، لكنها ترفض أن تنفصل عنها الانفصال الطبيعي المناسب لسنها، حتى أنهما يتشاركان السرير نفسه، تمارس التلاعب المعتاد بالبكاء والعتاب ولا ترى في تسلطها أي ضرر على الرغم من أن ابنتها لا تملك علاقات أو أصدقاء، تتمحور حياة الأم بالكامل حول إريكا، فهي نادرًا ما تترك المنزل لكنها تعمل كحارس مراقب لتحركات ابنتها، وتحاول ضمان ألا تحظى بأي حياة خارجها، وعلى الرغم من قوة وحسم إريكا الظاهرين في شخصيتها كمعلمة إلا أن ذلك يتوقف أمام والدتها وتفقد القدرة على الوقوف أمامها ومواجهتها إلا في نوبات الغضب المتبادلة العنيفة، في المناسبات القليلة التي نرى فيها تداخلات إريكا ووالدتها خارج المنزل لا تتخلى الأم عن أسلوب الحماية والمراقبة الداخلي ولا تتجنب إحراج ابنتها أمام الآخرين، تسارع في إلباسها سترتها بعد إتمامها عزف مقطوعة في إحدى الحفلات، وتعمل عيناها كجهاز مراقبة متخفٍ لا يترك أي لقاء أو تفاعل لابنتها مع الغرباء يمر دون ملاحظة، لكن على عكس كاري ونينا تطور إريكا حياة خفية عن عيني والدتها، حياة تتسع لرغباتها البالغة التي تشوهت بسبب صعوبة الممارسات الطبيعية، كلا من إريكا ونينا وكاري تعرضن لطمس ممنهج للأنوثة والحميمية خارج علاقتهن بأمهاتهن.
الأنوثة كخطيئة والفن كالتزام
أكثر ما يميز علاقة السيطرة الأمومية تلك هي أنها علاقة مع طرف آخر ترى الأم انعكاسًا لذاتها فيها، جسد وملامح متشابهان، فديناميكيات علاقة الأمهات بأولادهن تختلف عن تلك ببناتهن، في الحالة الثانية تصبح الأم حامية لجسد يشبه جسدها، تكون الحماية منطقية في العلاقات الصحية أما في العلاقات المتطرفة المتناولة في تلك الأمثلة يصبح جسد الابنة ملكًا لوالدتها، والسيطرة عليه وحمايته من المخاطر الخارجية هو الواجب الذي تكتبه على نفسها، تقدم تلك الأفلام عدة أشكال للتلاعب بالأنوثة والجنسانية وطبيعة العلاقات الحميمية أو حتى الشعور بالعاطفة تجاه الآخر، ولكي تتم السيطرة الكاملة تشترك الثلاثة أفلام في عناصر للمراقبة والإخضاع، منها الأبواب ووسائل الاتصال والملابس.
يبدأ فيلم كاري بجولة داخل غرفة تغيير ملابس لفتيات في المدرسة الثانوية، تعمل الكاميرا كمتلصص ذكوري على مجتمع أنثوي، تخترق خصوصية الأجساد العارية في مساحة محظورة، وبعد أن تنهي جولتها العامة تخصص جسدًا معينًا بالفحص، وبلقطات مقربة وتصوير بطيء وموسيقى حالمة نرى مع العين المتلصصة مراحل استحمام كاري، حتى توقف الدماء الجارية بين فخذيها شاعرية المشهد، تنهار كاري بشكل هستيري، تلك هي أول دورة شهرية لها وهي لا تعلم أن شيئًا كهذا يحدث للبشر أصلاً بسبب تربية والدتها المتزمتة الرجعية لها، تلك هي أول علامات احتقار والدة كاري للجسد الأنثوي، والدة كاري مهووسة بالدين والخلاص، تحتقر كونها امرأة لأنها ترى أن الإله لعنها بذلك وأن الدورة الشهرية هي أحد عناصر تلك اللعنة، هي عقوبة على خطيئة الجنس، عندما تهرع كاري إليها تترجاها أن تخفف عنها وأن تخبرها عن سبب جهلها الحقيقة البسيطة التي عرضتها للتعنيف والتنمر، ترد والدتها بمزيد من التعنيف والحبس وراء باب مغلق يجب على كاري داخله أن تتوسل الرحمة من تمثال المسيح وأن تتحمل الخوف والوحدة.
عادة ما ترمز حفلة تخرج الثانوية إلى خطوة مهمة في حياة أبطال أفلام النضوج وهي اختبار الحميمية مع الجنس الآخر أو حتى فقدان العذرية، حفل التخرج هو الحدث المحوري في فيلم كاري فيه تطلق البطلة قوتها الانتقامية الما ورائية وفيه تختبر المشاعر لأول مرة خارج المنزل، عادة ما ترتدي كاري ملابس غير لافتة للنظر وتسدل شعرها الطويل على عينيها لكي تتخفى عن الأعين، يعمل ذلك لصالح أمها المهووسة بالنقاء والتطهر، أمها المعادية للجنس الذي تسبب في عذابها وفي آلام ولادتها، لكن عندما تقرر كاري أن تذهب الى الحفل بفستان حريري بلون وردي فاتح وخامة خفيفة تحدد جسدها برقة تنتقد أمها بروز مفاتنها بألفاظ جارحة كأنها تصف شيئًا مقززًا، ينتهي الفيلم نهاية دموية عنيفة فيها تحاول الأم قتل ثمرة خطيئتها وتقابل كاري ذلك بفعل انتحاري ودفاعي ربما يكون غير واعٍ لكنه نابع من عقل باطن يطمح للخلاص بشكل كامل، تتكرر أفعال إيذاء الذات بأشكال مختلفة في البجعة السوداء ومعلمة البيانو.
تسيطر الأم في البجعة السوداء على حياة ابنتها العاطفية والجنسية عن طريق إغراقها بالالتزام الفني ووضع قواعد ومواعيد صارمة للخروج والدخول للمنزل، تتصل بها بشكل دوري لتطمئن على كل خطواتها، لا تتحكم في طبيعة ملابسها بشكل خاص لكن ذوق نينا الذي يعكس تربيتها واهتماماتها الفنية والأنثوية يجعل مظهرها غير ملفت أو مهدد ولا يتخطى الأنوثة الطفولية، ترتدي ملابس رقيقة ذات ألوان فاتحة ونادرًا ما تظهر جسدها إلا في أزياء الرقص، تخترق والدتها خصوصية ذلك الجسد بسبب عادات نينا المؤذية للذات، لا تملك نينا رفاهية الخصوصية ولا تملك قفلاً على باب غرفتها.
عندما تبدأ في استكشاف رغبتها في التحول من طفلة مطيعة إلى امرأة كاملة بل و مغوية أحيانًا تسمع بنصيحة معلمها المتسلط وتحاول استكشاف جسدها ورغبتها، لكن في أكثر لحظاتها سرية تجد والدتها نائمة داخل غرفتها كحارس سجن أو كشعور ثقيل بالذنب، في أكثر لحظاتها معاداة لوالدتها تحضر نينا إحدى صديقاتها للمنزل وترتدي الملابس الكاشفة، تغلق الباب عنوة وبسبب طبيعة الفيلم المرتبطة بالخيالات والهلاوس يدمج المشهد بين الواقع والخيال، يختار خيال نينا علاقة مثلية تتخطى حتى مخاوف أمها من العلاقات المستقيمة الحميمية، يعمل ذلك الاختيار كتحدٍ لوالدتها وكاستكشاف لرغبتها في التوحد مع غريمتها، اهتمام فيلم البجعة السوداء الأول هو الكمال الفني والهوس الذي يصاحبه، وينتهي مثل كاري بفعل انتحاري، بقتل ذات قديمة لإحلالها بجديدة أكثر تحررًا وأثناء سقوطها تكون نظرتها الأخيرة لعيني والدتها النادمة.
تأخذ والدة إريكا منحى مختلفًا في دفن أنوثة ابنتها لضمان سيطرتها على رغباتها، الشجار الذي قدم لشخصيتي إريكا وأمها كان سببه فستان ذو نقشات من الزهور الملونة، تتحكم الأم فيما ترتدي إريكا، تسعى لجعلها ثابتة ومتيبسة ترتدي ملابس لا تخرج ألوانها عن الرمادي أو الدرجات الأرضية، وتربط شعرها في إحكام مع وجه خالٍ من أي مستحضرات للتجميل، عكس الأنوثة الطفولية الوردية التي تتصف بها نينا فإن إريكا تخفي أي ملمح للرقة، تسعى فقط للنجاح في التزامها الفني، في كل من البجعة السوداء ومعلمة البيانو يستخدم الفن كوسيلة لقمع الحياة دونه، خاصة الفنون الرفيعة القديمة المندثرة على الأرجح فمجتمعاتها متحفظة، برجوازية هادئة ترتدي الملابس الأنيقة وتجلس بتؤدة تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية وفي حالة الباليه فهي كذلك الموسيقى الكلاسيكية يصاحبها الرقص المتقن.
تطور إريكا رغبات جنسية غير معتادة، وتتصرف تجاها بآلية تشبه أي عملية بيولوجية تخلو من أي عاطفة، تملك إريكا نزعات مازوخية، تتمنى أن يتم قهرها والسيطرة عليها من قبل شريك محب، تقابل إريكا تلميذًا واعدًا يظهر مشاعر محبة تجاهها تبدأ في ارتداء ألوان أكثر دفئًا وتسدل شعرها وتلون شفتيها، تبدي أنوثة خجلة لكنها لا تتمادى فيها أبدًا، وبعد عدة مقابلات تعترف له برغباتها، ومثل نينا لا تملك إريكا قفلاً على بابها وعند لقائها بتلميذها تغلق الباب عنوة بالأثقال.
تتضمن رغبات إريكا أن يعنفها شريكها بقوله (لماذا لا تقفين في وجه أمك؟ لماذا لا تواجهين؟) فذلك العجز عن المواجهة متأصل بشكل كامل في نسيجها الشخصي ويمثل لها الإذلال الأكبر الذي -ونظرًا لميولها المنحرفة- تتصور أنها تستمتع به، تشعر إريكا أن قابلية أن يحبها أحدهم ويتقبلها كما هي فكرة مستحيلة، للحظة ما تطلق طاقة عنيفة تجاه أمها تحاول تقبيلها وتخبرها كم تحبها كإحالة فرويدية معكوسة، وكأنها ملاذها الأخير في الحصول على كل من الحب والاذلال الذي تتوق إليه.
تصف إريكا نفسها كشخص لا يملك مشاعر، رغباتها الجنسية تعتمد على إيقاظ أكبر قدر من الشعور لديها، الإحساس المستمر بالوحدة الإجبارية الذي فرضته والدتها جعلها ترفض الرقة، فهي لا تستجيب لقبلة حقيقية نابعة عن عاطفة الحب، وتظن أنها سوف تستجيب لإهانة دموية أو إيذاء جسدي وكأن هذا كل ما تعرفه عن الحياة، ينتهي الفيلم أيضًا بفعل انتقامي عنيف مؤذٍ للذات، ففي النهاية لا يعرف الطفل عن الحياة إلا ما علمته إياه أمه.