فيلم «Manhattan»: العلاقات العاطفية لغز غامض
في مثل هذا اليوم، ومنذ أربعة عقود بالتمام، كان العرض الأول لفيلم «مانهاتن Manhattan» وهو واحد من الأفلام الأيقونية للمخرج الأمريكي الكبير «وودي آلن» والتي تحفل بهم مسيرته الفنية الممتدة لما يزيد على خمسة عقود حتى الآن. في هذه المناسبة نعيد زيارة فيلم آلن من أجل اكتشاف جمالياته الخاصة وابتكاريته على مستوى السرد والصورة والتي تجعله صامدًا في وجه الزمن رغم مرور كل هذه السنوات.
المدينة القاسية الرومانسية
يفتتح آلن فيلمه بلقطات لمدينة نيويورك بالأبيض والأسود تنبض بالحياة على خلفية نغمات «rhaosody in blue» للموسيقي الأمريكي «جورج جريشوين»، ثم يأتينا صوت «أيزاك/ وودي آلن» الشخصية الرئيسية بالفيلم متردد بين عدة صياغات للافتتاحية التي يريد أن يفتتح بها الكتاب الذي يكتبه عن نيويورك حتى يختار هذه الافتتاحية:
تبدو محاولات أيزاك في البحث عن الكلمات المناسبة التي يصف بها حبه للمدينة نوعًا من البحث عن الذاتية، عن صوته الخاص وهو ما يصلح كمعادل لعمل آلن من أجل الوصول لطريقته الخاصة في سرد الفيلم الذي نحن بصدد مشاهدته. لكن المثير في الأمر أن النبرة التي يقرها في النهاية هي الأكثر مغالاة وتقنعًا، نسخته الأكثر تنميقًا لذاته وللمدينة، وهو ما يكشف الكثير عن فيلم الآن وشخصياته.
فشخصيات الفيلم التي تنتمي لطبقة المثقفين النيويوركية ليسوا مثلما يبدون تمامًا، بل هم غارقون في نوع من الخداع الذاتي، الكثير من الأحاديث المنمقة والذكية التي تخفي تحتها جروحهم وضعفهم. الشخصيات الأكبر عمرًا هي الأقل نضجًا من الناحية العاطفية، بينما تبدو شخصية «تريسي/ميريل هيمنجواي» الفتاة الأقل عمرًا بينهم هي الأكثر نضجًا.
مبالغة أيزاك في وصف قوته الجنسية يمكن أن تصلح كمدخل لفهم شخصية، والتي سيتضح من خلال الفيلم أنها تعاني من حالة من عدم الأمان الجنسي وهو ما يمكن أن يفسر ارتباطه بفتاة تصغره كثيرًا وغير ذات خبرة وبالتالي لا تشكل تهديدًا له.
تجديد النوع الفيلمي
يمكننا أن نقول إن وودى آلن قد أعاد اكتشاف نوع الكوميديا الرومانسية بتحفته «آني هول Annie Hall». جلب آلن الكثير من الواقعية وشيئًا من القتامة في رؤيته للعلاقات العاطفية لنوع فيلمي اعتاد على تقديم رؤى مضللة وهروبية إزاء نفس الموضوع. هذا بالإضافة للعديد من الابتكارات السردية والأسلوبية التي ضمنها فيلمه مثلما لم يحدث من قبل في فيلم ينتمي لهذا النوع.
وهو ما يستكمله آلن هنا في فيلمه «مانهاتن» مستكشفًا فوضى الحب وعبثية العلاقات العاطفية عبر شبكة من العلاقات العاطفية المتداخلة على خلفية مدينة أحلامه ومخاوفه (نيويورك).
لدينا هنا أيزاك/آلن بشخصيته العصابية المعتادة، كاتب تلفزيوني أربعيني على علاقة بفتاة تدعى تريسي (17 عامًا)، يشكل فارق السن بينهما عبئًا ومهددًا كبيرًا للعلاقة. لدينا أيضًا «يال/مايكل ميرفي» أقرب أصدقاء أيزاك متزوج وعلى علاقة بامرأة مشوشة هي «ماري/ديان كيتون».
ينهي ايزاك علاقته بتريسي ليقع في حب ماري بعد أن يتركها يال. ثم ينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة حيث تعود ماري لمواعدة يال بعد انفصاله عن زوجته مثلما يحاول أيزاك استعادة علاقته بتريسي. هذه الحالة من السيولة العاطفية غير المحكومة بأي منطق هي جوهر فيلم آلن. هو فيلم عن فقدان الحب وعبثية العلاقات حيث تبدو شخصيات الفيلم عاجزة عن الاستمرار في علاقة عاطفية واضحة ومستقرة.
العلاقات العاطفية لغز غامض
أحد أهم العناصر المميزة لفيلم مانهاتن هو السينماتوجرافي (شريط الصورة) والذي هو ثمرة التعاون الخلاق بين آلن ومدير التصوير العظيم «جوردون ويليس». يختار ويليس أن يصور الفيلم بتقنية السينما سكوب مستغلًا إمكانات الشاشة العريضة في إظهار الجمال العظيم والاستثنائي لمدينة نيويورك وبناياتها الهائلة، ويميل آلن لوضع شخصياته على إطراف الكادر المتسع والذي يعكس حالة الضياع والتخبط التي تحياها الشخصيات.
ويليس الذي يلقب بأمير الظلام، نتيجة قدرته الفذة في التلاعب بالضوء والظل للتعبير عن الصراع النفسي داخل الشخصيات وما يكتنف أعماقها من ظلام (معظم أفلامه تنتمي لنوع الجريمة والغموض)، سيجلب شيئًا من الظلام معه إلى أفلام آلن ولا سيما «مانهاتن».
تضع الصورة السينمائية هنا العلاقات العاطقية في الفيلم في حالة من الغموض فكادرات ويليس تبدو غارقة في الظلام كنوع من التعبير عن النوايا الخفية للشخصيات والخداع الذي يحكم العلاقات داخل الفيلم. في المشهد الذي يصرح فيه يال لصديقه أيزاك بخيانته لزوجته أثناء تمشيتهم ليلًا في شوارع مضاءة فقط بمصابيح أعمدتها يكون الكادر مظلمًا تمامًا بحيث نراهم بالكاد. هذا الظلام الذي يغمر أغلب كادرات الفيلم يمكن قراءته كنوع من التخفي، الاختباء من الذات من أجل عدم مواجهتها وهو ما يبرر الانقياد وراء هذه العلاقات منعدمة المنطق.
اقرأ أيضا: «وودي آلن»: خمسون عامًا من السينما
شريط الصورة هنا قادر أيضًا على الإمساك بالمأزق العاطفي لشخصياته دون الحاجة لأي حوار، وخاصة أن الحوارات في فيلم آلن غالبًا ما تعمل قناعًا للرغبات الحقيقية لشخصياته. لدينا مثلًا هذا المشهد الذي يجمع أيزاك وتريسي في شقته لأول مرة، لدينا كادر بإضاءة منخفضة تمامًا، ايزاك على طرف الكادر غارقًا في الظلام وتريسي على الطرف الآخر للكادر إلى جوار مصباح.
وجودهما على طرفي الكادر المتسع يعكس الانفصال العاطفي بينهما الذي تسببه مخاوف أيزاك نتيجة فرق السن الكبير بينهما، وجوده هو في الظلام يعكس أنه الطرف المسكون بالمخاوف ووجودها هي في الضوء يعكس وضوح نواياها ومحبتها الصافية بالإضافة لأن التضاد بين الضوء والعتمة يشحن المشهد منذ البداية بحالة من التوتر والقلق. ثم يأتي الحوار بعد ذلك ليعزز التيمة البصرية للمشهد.
هذا أحد المشاهد الكثيرة التي تعبر عن المنجز البصري لفيلم آلن، الذي يتعامل شريط صورته، الذي يحمل توقيع ويلس، مع الفشل في العلاقات العاطفية كلغز يحاول حله والبحث عن أسبابه ودوافعه المظلمة. هذا الظلام الذي يدمغ فيلم آلن والذي يتخبط فيه أبطاله يرينا -مثلما تورد مارلين فيب في كتابها «أفلام مشاهدة بدقة» في قراءتها الفرويدية لسينما آلن- أننا نصارع باستمرار رغبات داخلية متضاربة، بعضها لا واعية. منقسمين بيأس إزاء رغباتنا حيث لم نعد موقنين من دوافعنا فإننا لا نعرف حرفيًا من نحن أو ماذا نريد فعلًا.
فيلم آلن الذي يبدأ وينتهي بتتابعات صور لنيويورك هو أيضًا رسالة محبة التي عاش فيها حياته وصور غيها أغلب أفلامه.