رواية «جبل المجازات»: رحلة العجز والتحليق
تبدأ رواية «جبل المجازات» الحاصلة مؤخرًا على المركز الأول في مسابقة «يحيى حقي» للرواية، والتي تعد العمل الروائي الثاني لكاتبها «أحمد كامل» بعد ديوانين شعريين، تبدأ ببيت شعري:
هذا البيت سيعود له حتمًا مَن ينتهي من قراءة العمل، ليدرك أن البيت كان أول جملة سردية وأول طوبة استُخدمت في بنائه، حيث العجز كان أهم الصفات البشرية التي وزّعها الكاتب على أبطاله بالتساوي.
بعد هذا البيت، يستهل الكاتب روايته بمقدمة تصف مشهدًا ختاميًا للعمل الذي لم يبدأ. إذ جاء الختام على شكل مشهد قيامي مهيب، يتحرك فيه جيش من النخلات، آلاف بل مئات الآلاف منها، تحت إمرة رجل ضئيل لا تتكشف حكايته إلا بعد أن يدمر القرية بأكملها بجيشه الهائل من النخلات المتحركة التي تهد البيوت، وتدهس الخلق والبهائم، مقاومةً كل سبل الصد والمقاومة من أهالي قرية الغزالة المذعورين.
الكاتب الذي أنهى عالمه قبل أن يبدأه، يبدأ في استرجاع هذا العالم المنتهي سلفًا من خلال عرضه للأحداث التي مرت قبل هذا الدمار من عقول وذكريات الأبطال الذين عاصروا لحظة التدمير. وكأن هذا بمثابة إشارة لما يفعله الكاتب نفسه أثناء الكتابة. فالكاتب هنا لا ينهي قريته فحسب بل ينهي عالمه كله قبل أن يستعيده، ليُحييه ويُعيد خلقه من جديد، وكأن في قمة العجز والفناء يأتي الانبعاث والميلاد.
الكاتب إله نصه
الكاتب هو الإله الوحيد والأوحد في داخل النص. هذا ما سيؤكده لك الكاتب كلما تقدمت في القراءة. ستراه وهو يبدأ كل شيء من أوله. سيبني البيوت ويملس جدرانها بالطمي. سيشق الترع ويبني الجسور والسواقي. سيرزق الفلاحين بالبهائم والأراضي. سيُخطِّط لبلدته مُهتمًا بذكر كل تفصيلة مهما كانت صغيرة أو غير مهمة. المهم أن يتأكد من كمال وإحكام قدرته على الخلق. سيفعل كل هذا، قبل أن يسحب القارئ من يديه ليدخل معه تلك البيوت واحدًا بعد الآخر، سابرًا معه أغوار القصص والحكايات.
لم تقف قدرة الكاتب هنا على عملية الخلق فقط. بل كإلهٍ محنك، ستجده يوزع نفحات من روحه على المخلوقات، لتخرج كلها من تحت يديه تحمل قبسًا منه، مهما اختلفت الشخصيات في النوع أو العمر أو الجنس أو حتى المكانة الاجتماعية، سيجعلك هذا متأكدًا أن الكل واحد. الكل لم يأت إلا من نفس الطينة. حتى وهو يلهو بتلك المخلوقات التي صنعها للتو، ويحوّلها إلى مجموعة من الحيوانات والبهائم.
جبل المجازات
المجاز هو رتبة يصل إليها بعض المتصوفين وفق رحلة لها مبادئ معينة، يتعرّض الكاتب لذكر بعض تفاصيلها. رحلة تنتهي بالحصول على قطعة من القطيفة قبل أن يتقدم واجد القطيفة لنيل الأجنحة التي تسمح له بالارتقاء والطيران.
جبل المجازات هنا ليس الجبل الذي تسكنه هذه المجازات فحسب. هو أيضًا جبل العجز. هو الجبل الذي إذا ما صعدته ووصلت قمته نوديت أن هذا أوله… نوديت أنك لم تصل ولم تصعد، حيث في القمة من المفترض أن تتحول إلى مجاز، تحصل على جناحيك وتكتسب قدرة الطيران والتحليق، كـ «سيد الحجر» أحد أبطال الرواية، والذي وصل بالفعل إلى قمة الجبل، ولم يفصل بينه وبين جناحيه -اللذين تيّقن في امتلاكهما- إلا لحظات بسيطة قبل أن يفقد كل شيء مرة واحدة، ويجد نفسه مجرد حجرٍ ثقيلٍ في سفح الجبل.
كل شخصيات العمل تقريبًا تدور في نفس الدائرة، كلها تصل ولا تصل… ترى ولا تمس… تعلو ثم تفقد كل شيء وتنخسف في لحظة مفاجئة. كلها تَتوق للهرب من حياتها مع اختلاف الأسباب، كسطوة الأب أو الفقر أو قسوة العالم المحيط، قبل أن تكتشف أنها خلقت لنفسها قيودًا وسطوات أشد وأكبر.
فالإنسان كائنٌ مُكبَّلٌ طوال الوقت. الإنسان الذي يُفقده الكاتب كامل إرادته في لحظات مريبة، يتبادل فيها الأدوار مع الدواب والبهائم، في لعنة تصيب ذكور البلد، دونًا عن إناثها، وتُحوِّلهم إلى بهائم تأكل وتتناكح وتنام.
وكما رسم الكاتب جبل المجازات المُفعم بالروحانيات والملائكية، ستجده في المقابل قد رسم القرية المتاخمة لهذا الجبل مليئة بالقذارة والأوساخ. أسهب في وصف كل ما هو قذر أو سيئ، كالروائح النفّاذة للمصارف وبعض الأشخاص، واتساخ الملابس والأبدان والجدران المليئة بالبقع والثقوب، واهتمامه بوجود الحشرات والهوام والقوارض في أغلب الأماكن.
وكأن الكاتب ينفي خلقه لمدينة فاضلة أو مثالية، بل هي مدينة مُوغلة في القبح، كما لو أن القرى والناس الغارقين في القذارة يمثلون الجسد وسعيه نحو غرائزه دون تحكم أو شبع. حتى أنهم يقيمون علاقات مع جمادات أو نخل أو حتى بهائم.
بينما في الجانب الآخر والبعيد من القرية يقع الجبل الذي يعيش فيه المجازات، والذي يمثل نقاء الروح والرغبة في التخفف وتخليص الناس من الهموم والأوجاع. وبالقرب من هذا الجبل ومن بقعة معينة تقع على مسافة من الجبل والقرية، كان يستجلب «فوزي» أو «الضئيل» -كما سماه الكاتب في بداية العمل- غنماته، ومنها طوّع نخله وقضى على كل شيء في عملية الإبادة أو التطهير كما لو كان هو المُخلِّص.
وليس الذكر كالأنثى
للسلطة الذكورية حضور طاغٍ في داخل العمل، لكنه حضور مشوبٌ بعجز خفي، عجز يظهر خفيفًا قبل أن يتعاظم ويأخذ كل شيء في طريقه.
للأسماء دلالتها أيضًا في نسيج العمل، فـ «سيد الحجر» روحه ثقيلة لأنه حجر، وأيضًا لأنه حجر ستجده مُلازمًا لـ «درية بنت جبل»، التي تُردِّد له أن الحجر جزء من الجبل فكيف يتخلى عنه ولا يحميه؟
بينما «القط مراوغ»، بسبعة أرواح أبًّا عن جد، يستميت للاحتفاظ بحياته رغم فقده الأبناء جميعهم في لحظة واحدة.
في رحلة «سيد الحجر» للوصول إلى قطعة القطيفة، يمضي بنا الكاتب في رحلة تتناص مع النصوص الدينية التي يقاوم البطل فيها الأنثى بكل مغرياتها، وحين يتغلّب على فتنتها، يُفتح له كل المغلق من الأبواب. ولكن على عكس تلك النصوص، ورغم تغلب سيد الظاهري على الفتنة، يفشل في امتلاك الأجنحة ويعود مجرد حجر صغير وعاجز ملقى عند سفح الجبل.
لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يُفاجئنا الكاتب بمعارضة صريحة لكل تلك النصوص التي أوهمنا بالتناص معها، واهبًا الجناحين على عكس المتوقع لأنثى، يهبهما لـ «فاطمة» حبيبة سيد الأولى، دون أن يُقدِّم لنا تفسيرًا واضحًا، اللهم إلا إذا كان يقصد أن أكثرهما عجزًا أو أصدقهما انكسارًا وأقلهما تعلقًا بالأمل هو الواصل الحقيقي، رغم انفصال تلك الأجنحة وتكسرها في النهاية.
ملك التفاصيل
الكاتب هنا لا يعمل كراوٍ فقط، بل يعمل ككاميرا سينمائية، تُصوِّر المشهد كاملًا، وتنقله حرفيًا كما هو، كأنك تتابعه، لا يحجب عن قارئه أية تفصيلة صغيرة. كوصفه مثلًا لثقل حذاء «علوان» -أحد شخصيات الرواية- حين امتلأ حذاؤه بالرمال. كان من اليسير على الكاتب أن يلخص الموقف في جملة بسيطة قائلًا: خلع حذاءه ونفضه من الرمل. ولكنه عوضًا عن ذلك يستغرق في نقل تفاصيل تلك العملية البسيطة والمعروفة للجميع قائلًا:
وهكذا يُرهِق الكاتب نفسه ويتحمل عبء تفاصيل كان من الممكن إغفالها دون أن يتأثر العمل، ولكنه أبى إلا أن يكون ناقلًا محترفًا لكل المشاهد، بعينه الراصدة كالكاميرا، فتجده في أغلب المشاهد لا يغفل عن تحديد مصدر الإضاءة، وذكر الأصوات المنبعثة من كل جنبات المشهد، ووصف كل حركة أو حتى إيماءة بسيطة، ونقلها كما لو كانت صورًا حقيقية ومتحركة.
فإذا هي حيةٌ تسعى
ربما لن تقرأ هذا العمل دون أن تُبهِرك لغته، دون أن تعيد قراءة العديد من الجمل والأسطر لأكثر من مرة، راغبًا في تفكيك الجمل والتأمل في طريقة تركيبها. تراوحت جمله ما بين قصيرة ماكرة وطويلة متماسكة، أحيانًا تجد الجملة سهلة رغم البلاغة وثراء التشبيهات، تمضي الفقرات بسلاسة متأنقة ومتحفظة إلى القارئ، وأحيانًا أخرى تباغتك لغةٌ حرون عصية عن الفهم، لا يُفَك لغزها أبدًا من أول قراءة، لكن في جميع الأحوال لا غبار على أن الكاتب قد أحكم سيطرته وطوّع لغته لتكون وسيلته في تقديم هذا العمل الملحميّ، جاعلًا اللغة بقوتها وجمالها أحد أبطال العمل، وإن لم تكن هي أهم أبطاله ودعائمه.
لكن رغم جمال اللغة وثراء قاموس الكاتب وتمكنه من خلط العامية بالفصحى بنجاح يُحسَب له في أغلب المواضع، فإن اللغة كانت ضده في بعض فقرات، تطغى على الحدث وتقوده كأنها هي البطل الوحيد. مما يجعلنا نقف أكثر عند تلك اللغة التي باتت في يد الكاتب أشبه بعصا موسى، التي إمّا أن تكون مُتكأً للكاتب، وإمّا أن تلقف كل ما يصنع.
لذا كان لزامًا على الكاتب أن ينتبه لها جيدًا، ألا يفقد تحكمه فيها، أن يتأكد طوال الوقت من انصياع اللغة التام له، كي لا ينصاع هو خلفها أو يسقط في فخها.
فاللغة إمّا أن تكون جسرًا ومُتكأً يعبر عليه الكاتب حاملًا تجربته إلى القُرّاء، وإمّا أن تقف كحجرٍ ثقيل يطبق تمام الإطباق على التجربة ويخنقها. وإن كنت أراه قد نجح إلى حد كبير في عرض تجربته والوصول بها إلى قارئه دونما حاجز. ربما لأن روحه كانت موازية للغة. فما قد يستعصي على فهم القارئ بالكلام، سيتخلله بروح الكاتب وإحساسه، وربما هذا هو لب الكتابة الحقيقي، أن تُطوِّع لغتك لنقل تجربة مُفعمة بروحك.
تفكيك الكلمات والمعاني
الكاتب مُغرمٌ هنا أيضًا بتفكيك الكلمة لأكثر من معنى، وأحيانًا للمعنى ونقيضه في نفس الوقت. يُفكِّك الكلمات ويعيد شرح المعاني بفلسفته الخاصة، قبل أن يلضم تلك الفلسفة في نسيج العمل دون أي إقحام، كتفسيره مثلًا لكلمة «أنسل» تجده يقول:
اقتباس أخير: