رواية «جبل المجازات»: شخصية انتقامية، وبطل روائي غائم
تحفل الرواية المصرية الجديدة «جبل المجازات» بعدد من الشخصيات المميزة التي يقدمها لنا الروائي أحمد كامل بسرد الراوي العليم، من خلال لغتها الجسدية غير المنطوقة والدالة في ذاتها، بالإضافة إلى أعمق أفكارها ومشاعرها ومخاوفها، ومن وقت لآخر نعود إلى خيط الحكاية البانورامية الموغلة في الأحداث العجائبية، فنفاجأ أن أهون شخصيات الرواية شأنًا وأقلهم مكانة وأكثرهم هوانًا (الضئيل/ فوزي) هو من تنفتح الرواية على الانتقام المدوي على يديه، بتدمير إحدى القريتين كاملة ثم الانتقال لتدمير القرية الأخرى.
هل في هذا صدى للنبوءة القائلة بقدوم ثورة الجياع لتدمر الأخضر واليابس في لحظة ما قادمة؟
تيار الوعي
يستخدم الروائي تيار الوعي في التقاط أدق خلجات النفس للشخصيات وصراعها مع نفسها وتراثها ومعرفتها وإيمانها، ففي حين نرى استسلام واستكانة فوزي بين يدي صابحة وهي تداوي جروح جسده الناتجة عن شبقه بالنخيل، ثم نراه وقد دفع يدها مرة واحدة وعاملها بخشونة وربما أغلظ لها في القول، نرى أفكاره المتقلبة في ذات اللحظة وتراوحها بين الامتنان والعنف الشاعر بوضوح عيبه.
نجد ملمحًا جديدًا لـ«»عقدة أوديب» التي جعلت سيد الحجر يشتهي «ركب النساء»، واشتهاء الحجر الخفي لأمه وما تركه ذلك من اشتهائه لركب النساء دون غيرها من أجسادهن، وعقدة عكسية – لم يذكرها فرويد- جعلت الأب يحقد على ابنه ويغار منه. نتتبع انفعالات سيد الحجر تجاه عزيزة التي تركته، ودورانها في الدائرة التي تمر في نفوسنا جميعًا: من الغضب الشديد والرغبة في قتل الآخر إلى الرغبة في استسماحه ومراضاته وتحقيق ما يرغب وما كان سببًا في الخلاف له.
ولا يقصر الروائي استخدامه لتيار الوعي على الشخصيات الأساسية في الرواية، بل يستخدمه حتى مع الشخصيات المساعدة التي تظهر في بعض المشاهد. ولنقرأ معًا هذا المقطع عن شخصية غاية في الفرعية هي أم عبده:
الذكرى الحية
إحدى التقنيات الجيدة التي استخدمها كامل في تعامله مع الشخصيات، هي الذكرى التي تقوم حية أمام عيني الشخصية التي تجمع الماضي والحاضر معًا وكأنهما في مواجهة أو محاكمة. وكأني داخل رواية «ترنيمة عيد الميلاد» لتشارلز ديكنز، حيث يأخذ شبح الماضي، العجوز سكروج إلى طفولته. أو فيلم «الفراولة البرية» لإنجمار برجمان، حيث الشخصية تدخل في الذكرى الموغلة في القِدم بذاتها الحالية. تعايش اللحظة القديمة بحيويتها وإيقاعها وتفاصيلها وجملها الحوارية ليزيد كامل على التقنية التي استخدمها ديكنز وبرجمان وغيرهما، بأن جعل الذات الحالية تحاول نصحًا أو تعليقًا على ما يحدث بعد أن منحها مرور الزمن والأحداث تبصرًا بالحقائق.
منح استخدام كامل لذاك التكنيك في المشهد الخاص بـ علوان في غرفة طعام الأسرة استمتاعًا خاصًا ومفاجأة جمالية وإدراكية، وكأنها من هداياه الخاصة للقارئ المستمر معه إلى نهاية الرواية. فلو عدنا إلى هذه اللحظة أو تلك من حياتنا ماذا يمكننا أن نقول لذاتنا القديمة والذوات الممعنة في القدم لمن حولنا؟ إنه نوع آخر من التحليق بـ The Butterfly Effect.
من بطل الرواية؟
على الرغم من جودة رسم الشخصيات، وجمال التقنيات التي استخدمها الروائي لتقديم مكنوناتها، ماضيها، تناقضاتها، وعقدها الدفينة، إلا أن أكثر شخصيتين حاول تقديم الأمور من منظورهما وهما علوان وسيد الحجر، لم ينجح في إنضاج أيهما ليصير بطلًا واضحًا للرواية نتشوق لمعرفة مصيره والارتباط به.
يخبرنا المؤلف الأمريكي روبرت مكي في كتابه «القصة»، أن من أهم صفات البطل في القصة هو أولًا أن يكون لديه توق شديد ورغبة في هدف يسعى لتحقيقه، وثانيًا أن يحدث تغير وتحول في خلال سعيه لتحقيق هذا الهدف، أو أن تكون الرغبة نفسها هي سبب الهلاك في النهاية كسخرية قدرية.
تحققت هاتان السمتان بجدارة لبعض الشخصيات أقل في أهميتها من شخصيتي الحجر وعلوان في الرواية، مما يجعلنا أكثر تفاعلًا معها وإشفاقًا على مصيرها واهتمامًا بتفاصيلها. حدث ذلك تحديدًا مع شخصيتي سميرة الفيل وعبده الأخرس.
وكيف أن اعتيادية ما هو غير مرغوب لسميرة تحول مع الزمن إلى الشيء المنطقي والواقعي الوحيد. فبعد أن اعتادت الإجهاض وموت أجنّتها الذين وصلوا إلى 30 جنينًا والذين دفنتهم جميعًا داخل حائط بيتها وكانت تتحدث معهم بأسمائهم، صار الشيء المنطقي الوحيد لها بعد إنجابها ثلاثة أبناء أن يظلوا نائمين داخل غرفتهم كي لا يصيبهم مكروه. ولتتأكد من سلامتهم تمامًا قامت بإغراقهم في الترعة لينضموا إلى إخوتهم الثلاثين الذين لم يشهدوا النور.
سميرة تحولت من راغبة في الإنجاب بشدة إلى أن تأكل بذور خروع كي تمنع الحمل، ومن اللهفة على طفل ومحاولات استرضاء البحر كي لا يأخذ أبناءها والخوف عليهم من كل ارتطام أو صرخة أو رجرجة فخاريات البيت وهي تدور وتراوغ الموت والمرض ومقدماتهما، إلى محاولاتها الجنونية لإعادة أبنائها إلى بطنها مرة أخرى ثم إلى قتل أطفالها. وكأنها قررت أخيرًا «بيدي لا بيدي عمرو»، وكأن إطلاقها لغريزة الحياة القصوى لديها حفزت لديها غريزة الموت دون أن تدري. فنقيض الشيء يمكث هناك عند الطرف الأخير منه. بدت أحيانًا كـ سيزيف في محاولاته لرفع الصخرة ثم تدحرجها مرة ثانية، ليقرر في النهاية أن يدع الصخرة تهوي طاحنة إياه في سقوطها. ربما لهذا كانت أكثر الشخصيات إبهارا لي وأكثرها قربًا وجذبًا لاهتمامي وتعاطفي من خلال التحول والتغير اللذين خاضتهما.
تمثل هذه الشخصية بطريقة ما كذلك المصير المحتوم الذي يظل الإنسان يصبو إليه دون أن يدرك. فسميرة تذهب بقدميها لتحتضن القطار وتموت مقطعة إلى أجزاء تحته، وهو نفسه المصير الذي جنبه إياها أبوها منذ عشرات السنين عندما فضل أخذ أخيها معه إلى المركز على إلحاحها لتذهب هي. ليموت الأب والابن تحت عجلات القطار فيما مضى.
حدث هذا التحول عند عبده كذلك. عبده الذي يتعثر في نطق الحروف، ذو الصوت غير الحسن والذي يشتهي الغناء بصوت جميل كالمجازات، ليتحقق له ما أراد في النهاية لكنه يكون سبب هلاكه. التحول حدث حتى عند صابحة، من كراهيتها لغريمتها النخلة إلى إفراغ شهوتها عندها هي أيضًا.
النساء في الرواية هن من يتغيرن بينما عجز الرجال ثابت وربما ينمو فقط، وأكثر المرشحين ليكون بطلًا للرواية سيد الحجر، وعلى التفاصيل المتعددة لشخصيته وعلى التقاط الكاتب لأدق خلجات نفسه، وعقده النفسية وعجزه، وعلى هدفه الواضح الذي يسعى إليه، «فاطمة القط، ثم الحصول على الأجنحة»، إلا أنه بدا بشكل ما شخصية مسطحة لا تتغير بشكل كبير عبر ما مر بها من تفاصيل، ليتركنا نردد مع عزيزة: «أين جناحاك يا حجر؟»
الميراث الذي لا فكاك منه
المحور الأساسي في الرواية والذي يتحكم في أفكار الشخصيات وتكوينها وأفعالها هو جبرية الدماء التي تنقل نفس الصفات والخصال والحركات والأفعال من الأب لابنه. فـ سيد الحجر، ورث العجز الجنسي من أبيه حتى لو ناقض ظاهره الذي يشي بالقدرة الشديدة ظاهر أبيه المصرح بالعجز. فوزي ورث اشتهاء النخلات من أبيه الذي هجر أمه بعد أن حبلت منه، لكن الفتى عرف أباه بمجرد رؤية التصاقه بالنخلات. علوان ورث تجبر أبيه وسلطته وحكمته المظهرية، وكان يرى حركات أبيه في أحد أبنائه بالفعل.
وعلى الرغم من ابتعاد الرواية ابتعادًا بيّنًا عن السياسة، وعن الزمن الحالي، بل وتقدم من خلال وقائع خيالية، إلا أنها بشكل ما تطرح وجهة نظر عن ما وصلنا إليه في بلادنا – أو لم نصل إليه-. فهل ورثنا نحن أيضًا من آبائنا والأجيال السابقة علينا خصالًا تتحكم في حركتنا، وتمنحنا العجز حتى لو وشت إحدى لحظاتنا بالقدرة؟