منير الذي لم ينتبه إلى تعليقات «الساوند كلاود»
خلال ذهابي إلى عملي كنت أستمع إلى محمد منير، يفصل بين منزلي في الهرم ومحل عملي في الدقي نصف ساعة تقريبًا، أسمع خلال هذه النصف الساعة أغنيات له، تحديدًا بداياته، بدايةً من ألبومه الأول «علموني عنيكي» الذي صدر قبل مولدي بأكثر من عشرين عامًا، ثم «بنتولد»، مرورًا بـ «شبابيك»، حتى ألبومه شيكولاتة، وهو أقل ألبوماته شهرة، وربما بعيدًا عن حالة سامعي منير من جماهيره، سواء كارهيه أو محبيه، فإن منير يمثِّل لي صورة الفنان الحقيقي، الفنان الذي آمن بالفن في لحظة ما وخانه في لحظة ثانية، القدرة على التجديد، لا الانغلاق على فكر من سبقوه، أو اختيار ما هو مضمون، وربما هذا ما فعله منير في بداياته، وما يفعله حتى الآن رغم انحدار ما يقدمه أو عدم رضا محبيه عنه، أفكر أن علاقتي بأغنيات منير معقدة؛ لأنني ما زلت أستمتع بما يقدمه بشكل آخر مختلف عما قدمه في الماضي، الماضي الذي كان منير فيه جزءًا من ذكريات طفولتي، مراهقتي، حتى شبابي، أصبح هو أشد الروابط التي تربطني بمحمد منير، الماضي هو ألبوم «شبابيك».
الهوية الشخصية للفنان والهاوية
لا أظن أن الهوية تُصنع من الفنان في لحظة واحدة، بل تتشكل من خلال عدة عوامل وعلى مدى الزمن، أعتقد أن العوامل المساعدة كانت متاحة لمنير أكثر من أي فنان آخر، البداية كانت من ألبوم “علموني عنيكي”، وتعاون ناجح مع عبد الرحيم منصور في الكلمات، وفي اللحن تعاون مع أحمد منيب وهاني شنودة، أعتقد أنه من هنا بدأ صناعة الهوية، بدأ منير يدرك ما يناسب موهبته وصوته بشكل أسهم في نقطة تحول مؤثرة، ليجني ثمار هذا سريعًا، وفي العام التالي ينتج ألبومه الثاني «بنتولد»، وتعاون مثمر أيضًا مع هاني شنودة وأحمد منيب في الألحان، وفي الكلمات مع عبد الرحيم منصور وسيد حجاب ومجدي نجيب.
بعدها بثلاث سنوات تحديدًا في عام ٨١ يظهر ألبوم «شبابيك»، ويعد هذا أفضل أعمال منير بالنسبة إلى أغلب جمهوره، ويتأثر الجميع بأغنية شبابيك رغم ما صرح به الشاعر مجدي نجيب عنها، وأنه كتبها من أجل تأثر جيل الستينيات بما فعله عبد الناصر معهم، الخذلان، السجن، وتحطيم آمال جيل كامل، ما أدى لإنتاج هذه الأغنية، وربما من هنا نتأكد أن صناعة الهوية مراحل متتالية، من الصدق، والإخلاص، حتى لو بعد ذلك اختار الفنان تغيير جلده، «شبابيك» المكتوبة لجمال عبد الناصر، يتغنَّى بها كل الناس حتى من يكرهون عبد الناصر نفسه، وربما الهاوية هي اختيار أن تصبح مبتذلًا بشكل أو بآخر، لا يمثل لي منير السقوط السريع، لأنه بشكل أو بآخر ظل على عرش الغناء بفن قوي حتى عام ٢٠٠٨ الذي أطلق فيه ألبوم «طعم البيوت»، ثم ما أتى بعده لم يكن إلا سقوطًا متتاليًا، سقوطًا وبُعْدًا تامًّا عن هويته الغنائية.
ليست الهاوية أن تقدم على عكس ما قدَّمت طوال تاريخك، ولا حتى الانغماس فيما هو رائج، بل التمسك والإصرار على اختيار ما لا يناسب الزمن، قدَّم منير ثلاثة ألبومات بعد ألبوم «طعم البيوت»، والرابع في الطريق للصدور، وهناك عدة أغانٍ منها من كتابة الأبنودي ومجدي نجيب، إذًا ليست المشكلة هي الشعر الغنائي، بل البعد الكلي عما سبق وذكرته في بداية المقال وهو خلق ما هو جديد والبحث عنه، وهذا ما مثله منير لي، وأعتقد لأغلب محبيه في فترة ما.
الرجل الذي غنَّى عددًا لا بأس به من أغاني فنانين آخرين، وكان دائمًا لا يفشل أن يمنح هذه الأغاني طابعه الشخصي، في ألبوم «باب الجمال» اختار أن يغني «فينك يا حبيبي» لبحر أبو جريشة بتوزيع شديد السوء ولا يناسب صوته، وربما هنا ما أكَّد لي أن الهاوية بدت أقرب له من أي وقت سابق.
الفن الجيد مُنطلِق من الذاتية
في كتاب الكاتب وكوابيسه لإرنستو ساباتو يقول:
أي فن نجح أو استمر في نجاحه لفترة زمنية طويلة مثلما فعل منير، لا يصنع هذا النجاح صدفة أو من العوامل الجانبية المساعدة فقط، بل باختيار من الفنان نفسه، منير الذي ببساطة كان يستطيع الحفاظ على إنتاجه المعتمد على هويته، والبعيد بُعْدًا كليًّا عن الابتذال، منير الذي لو انتبه إلى تعليقات الجماهير على أغنياته على مواقع مثل الساوند كلاود واليوتيوب، فربما كان ظل منير الذي أعرفه.
بداية من أول ألبوماته إلى ألبوم «شيكولاتة» وهم يعلقون: (منير البدايات سحر)، أي بدايات؟ انتبهت أثناء سماعي لأغاني ألبوم «شيكولاتة» إلى أنه ليس بدايات منير بل كان سابع ألبوماته، لذا لما يختار فنان الاقتراب من حافة الهاوية؟ لا أعتقد أن الهاوية التي اقترب منها منير هي بعده عن هويته فقط، أو حتى مواقفه الملتبسة، بل ابتعاده عما قاله في أغنية شبابيك: (غيرت ياما كتير كتير أحوالي)، وربما هذا ما مثله لي منير في لحظات الاغتراب عن العالم بأسره، هو تغيير الأحوال من الوحدة إلى التآلف، ومن الضجر إلى الونس، منير الذي اقترب من حافة الهاوية، والذي لا أتقبل تصور أنه غرق فيها.
شبابيك كسيرة ذاتية للكثيرين
تحدثت عن أن «شبابيك» الأغنية القريبة للكثيرين من محبي منير، لكن بالنسبة إليَّ هي أكثر أغنية أحبها، الأغنية التي لا أمل من سماعها وتكرار سماعها، يصنع الفن الجيد حالة من الرضا للمتلقي، وبما أني تلقيت هذا الفن الجيد في مرحلة الطفولة، ففي كتابه الكاتب وكوابيسه يقول إرنستو ساباتو: (إن الاستعارة هي السبيل الوحيد ليعبر الإنسان عن ذاته)، ويقول بافيزه:(رغم أن العمل الفني لا يجاري الأحلام، هل هناك من أحد لا يتلقاه بعجب وخضوع أو لا يعثر فيه على أشياء مجهولة؟) وخلال عملية قراءة هذا الكتاب لم يأتِ في بالي إلا علاقتي بـ «شبابيك».
أقول لأصدقائي إنها سيرتي الذاتية، لأنها تحوى مخاوفي، أحلامي، كل شيء، حتى تعبر عن فقد أبي الذي لا أستطيع اختزاله مهما كتبت عنه إلا وأنا أقول: (وإللي كان خايف عليك، انتهى من بين إيديك)، أحيانًا أفكِّر أنني أسمعها من أجل هذا السبب فقط، إنها تختزل حياتي كلها في عدة دقائق، العثور على المجهول كما يقول بافيزه، يسخر مني أصدقائي عندما أكرر مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنه بالفعل الدنيا كلها شبابيك، منها شبابيك موصدة ومنها ما نرى العالم منه بشكل آخر، أن تتفاعل مع الحياة كلها في عدة دقائق هو ما غفر له عندي بأنه لم ينتبه إلى تعليقات الساوند كلاود واليوتيوب.
من عشمنا كتير حلمنا
أرسلت لي صديقة صباح يوم صدور عدد من أغاني ألبوم «باب الجمال» قائلة: (طبعًا أنت هتعدي الفتحة والضمة عشان ده منير مع الكثير من الإيموجي الضاحك حد الدموع).
في كتاب إرنستو ساباتو “الكاتب وكوابيسه” يحكي: (إن لكل مرء وطنًا، والوطن هو العودة إلى الطفولة)، أفكر أن الحياة كلها هي محاولات دائمة في إعادة الطفولة وتشكيلها في مختلف مراحل العمر التالية، وخلال هذه المحاولات لا يستطيع المرء إلا الارتباط بعدد كبير من الأشياء ورؤيتها خالية من أي تشويش، لمنع الذاكرة من أي جنون، وليحدث ذلك بشكل منطقي يجب أن يتناسى المرء لمحبيه العديد من الأخطاء، واكتشفت فيما بعد أن التناسي أمر لا يحدث، وأن هذه الفكرة ساذجة، تحديدًا عندما قرأت جملة لعبد الفتاح كيليطو يقول: «لعل التناسي ذاكرة مضاعفة، ذاكرة زائدة ومفرطة»، وأن الأفضل أن تنسى تمامًا، أختلف مع كل أصدقائي في فكرة أن ننتظر من فنان أو كاتب أو أستاذ أن ينحاز لنا في كل المواقف، وأسخر منهم، لا لأنني أراها السنتمنتالية المبالغ فيها، ولكن لأن ثمة ما لا يعرفه المرء إلا عندما يمر به، اكتشفت أنني انتظرت من منير ألا يقترب من الهاوية، رغم أنني حاولت النسيان ليس التناسي فقط، لكن من الواضح أننا من عشمنا كتير حلمنا.
اختزال إنتاج الفنان في عمله الرائج
في تسجيل إذاعي نادر ليحيى حقى مع طاهر أبو زيد، أخبره صاحب «قنديل أم هاشم» أنه يغضب عندما يذكره الناس بعمل واحد من أعماله وهو «قنديل أم هاشم»، كان هذا الدرس من أهم الدروس التي تعلمتها في تقييم الفنون. أحمل غصة في قلبي تجاه منير لا لموقفه السياسي؛ لأن هذا لا يهم في تقييم الإنتاج الفني بمختلف أنواعه، لكن الغصة تأتي تحديدًا عند مقارنة إنتاجه الأخير بما قدمه لي تحديدًا طيلة عمري، في أسوأ مراحل حياتي وانعدام جدوى الأشياء بالنسبة إليَّ، كان يظهر صوته مانحًا للأشياء معنى وجدوى، ظننت في البداية أن الأمر راجع إلى شغفي بشعر العامية وفؤاد حداد والأبنودي وعبد الرحيم منصور، لكن ابتعدت هذه الفكرة عندما رأيت اختزال الجميع له في أنه نتاج هذا الشعر، وأن علاقتنا به هي نتاج تعاونه مع هذه المجموعة، هل لم يكتبوا شعرًا ضعيفًا في فترة، هل لم يؤمنوا بعكس ما قالوه في فترة، وما زالت الناس ترى فيهم الجانب الإيجابي فقط لا السيئ أو الركيك، يجب أن يحاسب الفنان على عمله وإنتاجه الفني فقط لا على مواقفه، ربما هذا ما ينقذ الفن من الفيتشية المنتشرة مؤخرًا، الغصة التي أحملها له هي أنه غنَّى كلامًا رائجًا، ركيكًا، كأنه يغني لشخص آخر ليس هو، كأنه لم يعد منير الذي يسرق عمره من أحزانه لينتج ما هو مقبول حتى في وسط انتشار هذه الركاكة.
يبدو أن عامل السن له دور، وغياب من يفكرون معه أو له، أمثال أصدقائه المقربين (عبد الرحيم منصور وأحمد منيب وغيرهما)، ظهر أثر هذا الغياب تحديدًا في الحلقة التي أقامتها شركة «وي» له، وربما يكون الغياب هو ما جعله ينسى نفسه ولا ينتبه إلى تعليقات الساوند كلاود.
الصدفة وأثر الغياب
يحكي الملك في حلقة إسعاد يونس بتاريخ 15/3/2021 أن ثمة صدفة أن يبدأ مشواره الفني بمثل هذه الانطلاقة، بدأت الصدفة عندما أعطاه الموسيقار بليغ حمدي ميعادًا ولم يلتقِ به، يبدو الأمر وكأنه ضياع تمامًا؛ لأنه في هذه الفترة لم يكن هناك من ينافس بليغ حمدي في خفة وعذوبة ما يقدم. يعود غاضبًا إلى منزله ويلتقي بفاروق أخيه الأكبر، ليخبره فاروق أنه من الممكن أن يجد ضالته أخيرًا فيما يريد تقديمه من فن جديد عندما يلتقي بأحمد منيب، الذي هو الذراع الأهم بالتساوي مع عبد الرحيم منصور في مشواره الفني، حكى منير مع إسعاد يونس أنه عندما قابل أحمد منيب، شعر بأنه وجد ضالته الفنية، وجد أخيرًا من يستطيع معه قلب المزيكا رأسًا على عقب في مصر.
في سيرتها الذاتية تسرد جوان ديديون الكاتبة الأمريكية عن وفاة زوجها: «إن الحياة التي تعرفها من الممكن أن تتغير في لحظة، كأن تجلس على العشاء وبعد العشاء ربما تتغير حياتك التي تعرفها تمامًا»، تصف ذلك كناية عن وفاة زوجها، وربما هذا ما ينطبق على منير بشكل ما، ربما لو أدرك منير أثر غياب أذرعته من حوله لكان اختلف الحال أو على الأقل حافظ على ما قدمه، أذرعته التي كانت ربما تنقذه من الابتذال لا من تقدم العمر الذي لا يستطيع هو منعه عن نفسه أو حتى نحن نمنعه عنه.