منذ عدة سنوات كانت سلمى «اسم مستعار» تحاول الإنجاب دون جدوى، ففكرت في كفالة طفل من إحدى دور الرعاية، وفي النهاية فشل الأمر لأن القانون كان يشترط وقتها وجود تقارير طبية تثبت عدم القدرة على الإنجاب، وهو ما لم يتوفر في حالتها.

سلمى تبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، رزقها الله فيما بعد ثلاثة أطفال، إلا أن ذلك لم يقتلع فكرة الكفالة من رأسها، ظلت مؤمنة بأن «الأطفال مكانهم البيوت وليس دور الرعاية»؛ لذا حاولت الاحتضان مجدداً بعد ولادة طفلتها الأولى، لكن الشروط حينها لم تنطبق عليها للمرة الثانية لأن ابنتها كانت أصغر من 14 سنة، ومع التعديلات المتتالية في قانون الكفالة استطاعت سلمى كفالة فتاة في النهاية عقب ولادة طفلتها الثالثة مباشرة، لتقوم بإرضاع الصغيرتين معاً، ويصبح لديها أربعة أطفال.

تقول لـ«إضاءات»: «بعد ولادة ابني الثاني فكرت أنا وزوجي في كفالة طفلة وإرضاعها لتكون أختاً لأطفالنا شرعاً، أردنا أن تحصل على عامين من الرضاعة مساواة بإخوتها وللعدل بينهم، فذهبنا إلى الطبيب ليخبرنا أنه من المستحيل أن تجعلني الأدوية قادرة على الإرضاع طوال هذه المدة، في النهاية اتخذنا قراراً بالحمل الثالث وكفالة طفلة في نفس الوقت لأقوم بإرضاع الطفلين معاً».

أتم الله للزوجين حلمهما، وعقب ولادة طفلتهما الثالثة ساعدتهما مؤسسة «الاحتضان في مصر» على العثور على طفلة في إحدى دور الرعاية، وقدمت التأهيل النفسي لهم، في البداية تخوفا من ردود فعل الأهل والأصدقاء، ففكرا في ادعاء أن والدي الطفلة ماتا في حادث، وأنهما سيقومان بتربيتها، لكن في النهاية قررا قول الحقيقة، وكانت النتيجة أن «فوجئنا بترحيب من حولنا، رغم أن الفكرة كانت غريبة بالنسبة للبعض».

تُعلِّق سلمى: «بعد الاحتضان شعرت بأن الله منحني الدنيا وما فيها، واختارني لأحصل على هذه الأمانة».

وفقاً لبيان صادر عن وزارة التضامن الاجتماعي في مصر يوم 4 يوليو الجاري، فإن عدد الطلبات المقدمة للوزارة من الأسر الكافلة تخطت 2500 طلب منذ شهر يونيو 2020، وهو على حد وصفها أكبر عدد طلبات كفالة تم تقديمه في عام واحد في تاريخ الوزارة، مما يعني تزايد الإقبال على الفكرة.

وحددت الوزارة عبر موقعها الإلكتروني عدة شروط يجب أن تتوفر في «الأسرة البديلة» لتتم الموافقة على طلب الكفالة، أبرزها أن تكون ديانة الأسرة نفس ديانة الطفل، وأن تتوفر في الأسرة الصلاحية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والصحية والمادية للرعاية.

اللقاء الأول: جذبة الحِجاب حسمت الاختيار

لا زالت أماني، 34 سنة، تذكر لحظة اللقاء الأولى التي جمعتها بطفلتها المكفولة، فبعد متابعة دور الأيتام لفترة طويلة وعدم الاستقرار على طفل، رأت أخيراً ابنتها للمرة الأولى وتعلقت الطفلة ذات الشهر الواحد في حجاب رأس أماني بشدة، فشعرت بأنها يجب أن تحملها الآن إلى منزلها، وألَّا تتركها أبداً.

تعمل أماني طبيبة أسنان ولديها طفل عمره ست سنوات. حين أخبرت زوجها برغبتها في الاحتضان لم يمانع، وبدأت في اتخاذ الإجراءات الرسمية، في الوقت نفسه لم تستطع إخبار أي شخص حتى عائلتها خوفاً من رد فعلهم، لكن لاحقاً أصبح الجميع متعلقاً بابنتها التي أصبحت جزءاً من عائلتها وهي في عمر الثلاثة الأشهر.

تضيف: «ابنتي تعرفني جيداً وتميز صوتي وعيناها متعلقة بي منذ حملتها لأول مرة، وما يجعلني سعيدة أنني أرضعتها لتصبح أختاً لابني».

حقوق منسية للطفل المكفول

في البداية حاولت مروة، 39 سنة، مساعدة الأطفال في دور الرعاية بأشكال مختلفة، لكنها أيقنت أن هؤلاء الأطفال سيظلون في النهاية يعانون مع وحدتهم وظروفهم لما تبقى من عمرهم.

لدى مروة ثلاثة أطفال، وقررت أن تكفل الطفل الرابع، رغبةً في تغيير حياة طفل ومنحه عائلة، في البداية أخبرتها بعض دور الأيتام بمعلومة خاطئة بأن الكفالة تشترط أن يكون الطفل رضيعاً، لكنها عرفت لاحقاً أنه يمكن كفالة أي عمر، وحين تحدثت مع زوجها كان يشعر بصعوبة الفكرة، وبعد عامين كاملين من مناقشة الفكرة شعرا بأنهما مستعدان لخوض التجربة.

تقول لـ«إضاءات»: «كنت أرغب في احتضان طفلة، لكن حين رأيت ابني أمسك بيدي بقوة طار قلبي، كان عمره حينها تسعة أشهر، وشعرت أنه قطعة مني لكن بعيدة عني، ظللت أبكي لأنني لا أستطيع رؤيته كل يوم، وحاولت استكمال الإجراءات بأقصى سرعة، في البداية رفضت اللجنة لأن لديَّ ثلاثة أطفال ولأن وقتي مزدحم بسبب عملي دكتورة جامعية. تقدمت بتظلم، وفي النهاية تمت الموافقة على طلب الكفالة، وهو يبلغ من العمر عاماً وعشرة أشهر». وعلى الفور بدأت مروة في خطوات الإرضاع ولازمت المنزل وتفرغت تماماً حتى يحصل الطفل على خمس رضعات قبل أن يتم العامين من عمره.

تضيف: «كنت قلقة من أن يشعر أطفالي بالتغير في جودة حياتهم، وكنت أسألهم هل تشعرون بالقلق لأن أخاكم الجديد يشارككم حياتكم أو أنكم ستضطرون للعيش في مستوى مادي أقل؟ فكانوا يدعمونني، وقال لي ابني: «خدي من مصروفي عشانه»، والآن هم من يعتنون به معي».

لم يخبر الزوجان عائلتيهما بالقرار إلا بعد استلام الطفل، لكنهما رغم غرابة الفكرة بالنسبة لهما رحبا به. تضيف: «لا أغضب من أسئلة الناس المتعجبة والمستنكرة، ألتمس لهم العذر؛ لأنه أمر غير شائع، وأجيب بتلقائية: هذا ابني وهو مكفول».

ترى مروة أن الطفل المكفول يجب أن يتمتع بالحقوق نفسها التي يحصل عليها الطفل العادي، إذ تواجه الأمهات اللاتي كفلن صغاراً عدم القدرة على الحصول على إجازة رعاية، لأن القانون لا يعترف بالطفل المكفول، كما تطالب بإعادة النظر في منح الأم المحتضنة ولاية تعليمية كاملة على طفلها بدون الحاجة إلى مراجعة الشؤون وتقييم الموظفين في كل مرة.

 حلم المكرونة والبانيه

بعكس الحكايات السابقة، كان زوج إسراء هو من طلب منها كفالة طفل، بعد أن رأى في إحدى زياراته لدور الأيتام طفلاً متعلقاً بزائرة ويرغب في مرافقتها لأنه يحلم بأن يتذوق «المكرونة والبانيه».

لدى الزوجين البالغين من العمر ثلاثين عاماً ابنة في الرابعة، كانا قد اتخذا قراراً مسبقاً بعدم الإنجاب مجدداً، لكن حين لاحت لهما فكرة الكفالة شعرا بالقدرة على تغيير حياة طفل بمنحه عائلة وتخفيف معاناته.

لا زال الزوجان يستكملان الأوراق الرسمية، لكن إسراء قررت عدم إخبار عائلتها لأنها تعلم أن أفرادها سيحاولون إثناءها عن القرار؛ لذا أجلت المواجهة حتى لحظة اصطحاب الطفل.

تقول: «كان أصدقائي يشعرون بالمفاجأة ويقولون لي: لماذا؟ هكذا ستفعل عائلتي أيضاً وستقول لي: «أنتِ تستطيعين الإنجاب فما المبرر؟» لكنني أعرف أن الهدف من الكفالة ليس إشباعنا لعاطفة الأمومة، بل منح المنزل لطفل لا يملكه؛ لذا قررت أن أفرض عليهم الأمر الواقع، لكنني قلقة من تفريقهم في المشاعر والمعاملة بينه وبين أطفال العائلة البيولوجيين».

في البداية كانت إسراء تعتقد أنه من الأفضل عدم إخبار الطفل بالحقيقة، لكن بمساعدة بعض التدريبات عرفت أنه من الأفضل إخباره في عمر الخمس السنوات حتى لا يتعرض لصدمة عاطفية حين يكبر.

يستعد الزوجان للكفالة بعدة ترتيبات، يعقدان الترتيبات المالية ويخططان للانتقال لبيت أكبر لمنح الطفل الجديد غرفته الخاصة، وينتظران شعور طفلتهما الصغيرة بالاستعداد النفسي الكامل لاستقبال أخ أو أخت.

حكايات الأسر البديلة

بجانب الحملات الرسمية للتعريف بالكفالة، ساهمت مؤسسات المجتمع المدني في نشر الوعي بإجراءات كفالة الأطفال، وساعدت على نشر قصص الأسر البديلة عبر منصات السوشيال ميديا للتشجيع على الاحتضان، كما كانت حلقة وصل بين الراغبين في الاحتضان وبين دور الرعاية للعثور على الطفل المناسب لكل أسرة.

وتقول يمنى دحروج، مؤسِّسة مبادرة «الاحتضان في مصر»، إن المؤسسة ساعدت ما يزيد عن 2600 أسرة في كفالة الأطفال، عن طريق الدعم النفسي لهم، ومساعدة الأمهات على تقديم الرضاعة الطبيعية، وتخصيص مجموعات عبر السوشيال ميديا لتقديم الاستشارات للأمهات الحاضنات، إضافة إلى المساهمة بالإعلام لنشر مفهوم الكفالة من خلال أعمال تلفزيونية.

وأضافت يمنى أن المؤسسة تهتم أيضاً بمساعدة الأسر على إخبار الأطفال بالحقيقة، كما أنتجت مجموعة قصصية للأطفال ليعرفوا الأمر بشكل علمي.

وتقول مروة إبراهيم، مسؤولة بحملة «يلا كفالة»، إن المؤسسة تكون حلقة وصل بين الأسر وبين وزارة التضامن، كما توفر أجهزة المساعدة على الرضاعة للراغبين في تقديم الرضاعة الطبيعية للأطفال المكفولين إضافة إلى وجود استشارية متخصصة، كما تقدم دورات تدريبية لإخبار الأطفال بقصة كفالتهم وتنمية مهاراتهم.

وتضيف: «هناك أسر تكون مستعدة تماماً، وبعضها تكون مترددة ولديها مخاوف من التجربة لذا أنشأنا مجموعة عبر الفيس بوك لتقديم الدعم، وعموماً ننصح الأسر المقبلة على الكفالة بأن يكون لديها استعداد نفسي، ولا تهتم بكلام الناس وأن تكون واثقة من قدرتها على خوض التجربة، وبأن يكون لديها الوعي الاجتماعي والديني الكافي حول الكفالة لمواجهة أي انتقادات، وأن يشعروا بالثبات ولا يهتزوا أمام نقد الآخرين».

وقال مدير الإدارة العامة للأسرة والطفولة بوزارة التضامن الاجتماعي، محمود شعبان، إنهم يبحثون الآن نحو 2500 طلب لكفالة الأطفال، مشيراً إلى أن عدد الأطفال المكفولين في مصر الآن حوالي 11700 طفل.

وتابع في تصريحات لـ«إضاءات» بأن الأعداد تزايدت خلال الفترة الأخيرة بسبب زيادة الوعي المجتمعي بالكفالة وتعرف الناس عليها، وأيضاً بفضل التسهيلات التي أدخلتها الوزارة على شروط الاحتضان، منها إمكانية تسمية الطفل المكفول بالاسم الذاتي للأب (أي يصبح اسمه الثاني اسم الأب الكافل)، أو يحصل على لقب العائلة، كما يمكن أن يحصل على اسم الأم الكافلة أيضاً. وأضاف: «نجهز الآن لكارنيه الخدمات الخاص بالأطفال المكفولين، والذي بمجرد إبرازه في أي مؤسسة يتم مساعدة الطفل بدون الحاجة إلى شرح قصة كفالته منعاً لإحراجه».