معتز عزايزة: أن تستعرض الحرب بكاميرا تعرف الحب
في ليلة الخامس من مايو/ أيار 1933 سوف يضطر «إرنست سيمون بلوخ» وقد كان حينها شابًا لم يتجاوز العقد الرابع من عمره إلى أن يغلق نافذة غرفته التي بالطابق الثالث بشارع «أونتر دير ليندن» الرئيسي في برلين تجنبًا لأعمدةِ دخانٍ خانق وكثيف كان يتصاعد عبر ألسنة اللهب محملًا برماد الأسفار، الذي كان يتطاير في سماء المدينة مثل طيور سُودٍ، إذ تم دعوة أكثر من 40 ألفًا من الطلاب الألمان (DST) والمتأثرين قديمًا بأكثر من 16 عامًا من الدعاية النازية إلى حفلٍ مهيب كان يستهدف وبحسب «البيرت شبير» مهندس «الرايخ الثالث» «تنقية الروح الألمانية من مَهازِلها الأيديولوجية» حيث أُلقي على عجلٍ وتحت أنظار رب برلين أكثر من 50 ألف كتابٍ ومجلد وأرشيف وثائقي لأخاديد النار المشبعة بالزئبق المُصَعّد، تزامن ذلك مع أحداث مشابهة في «ليز، ميونيخ، بافاريا، شتوتغارت، وبادن».
بادن شهدت مهرجانات شعبية نظمتها وعن جدارة قوات«s.s» حيث -وفي حَميّةٍ خاصة- تم إتلاف الكتب والمؤلفات الأدبية التي كتبها يهود وشيوعيين وكلاسيكيين وليبراليين وسلاميين ومثليين عبر أزمنة عريقة غارقة في القدم، كانت تسمي فيها برلين بعاصمة الأنبياء الأربع، ولكنهم اعتبروا وفق اللحظة الزمنية مشؤومة الذكر، تلك برسل الدعارة وفُسَّاد الأخلاق، وبينما كان «جوزيف جوبلز» يصرخ مخاطُبًا الجموع الغاضبة:
كان بلوخ يتساءل من شُرفته عن درجة الحرارة اللازمة لإحراق كل هذا الكَم من الذاكرة التاريخية ليجيبه بعد عشرين عامًا «راي برادبري» بأنها 451 فهرنهايت.
ما تم التطرق إليه أعلى المقال سيُعرف لاحقًا ومنذ تلك اللحظة بـ”هولوكست الكتب” وهي الجريمة التي لا تقبل التعامي التاريخي في سبيل الحتمية الأخلاقية، حتيمة التفرد اليهودي بالهولوكست البشري وباعتباره الذنب الأوروبي، الذي لا جُرمَ بعده، فبينما كان يهود “برلين” و”فيينا” ينعمون بانعزالهم اللذيذ في كنف التساهل العذب الذي أشاعتُه الفوضى العامة، كانت جرافات وحدة الوقاية النازية تَكنس من الشوارع أطنان الرماد المُتحللة عن 120 ألف كتابٍ، التي كان على رأسهم المخطوط الأوَليّ للرواية السلامية (All quiet on the Western Front) والتي اعتبرها النازيون”أونترمينش” أدبي وضيع، لا يتناسب مع روح “بارباروسا” وطموح الرايخ الثالث، لذا سيُضطر كاتبها “إريك ماريا ريمارك” وهو الذي أصيب في خاصرته برصاصة فرنسية، عندما كان جنديًا بالفوج البافاري إبان الحرب العالمية الأولى، ورافق “أدولف هتلر” في محنته الأولى عندما أصيب بعمى كاذب إثر هجومٍ إنجليزي بغاز الخردل إلى أن يغادر “برلين” ليذكر أخاه في السلاح من مقاهي “زيورخ” الهاجعة بأن الحرب ما هي إلا شرف سخيف لا يستحق المعاناة لأجله.
لا جديد في الحرب
في عام “2022” قدم المخرج الألماني “إدوارد بيرغر” فيلمه الأكثر جرأةً “All quiet on the Western Front” والمقتبس عن الرواية الأصلية “لماريا ريمارك” وعلى الرغم من أن الفيلم يُعد التجربة الثالثة، التي تُقدم فيها الرواية على شاشة السينما إذ سبقه كل من الأمريكي “لويس مايلستون” سنة (1930) والإنجليزي “ديلبرت مان” سنة (1979) إلا أن النسخة الألمانية تُعد أقل كلاسيكية، وبالتالي أكثر واقعية وتلقائية وهذا ربما لأنه المرةُ الأولى التي تُستعرض فيها القصة بلغة غير الإنجليزية، وهي لغة المنتصرين في الحرب (بريطانيا – أمريكا) مما سيتيح طرديًا للمهزومين أن يَروا الجانب الآخر من النكبة متجاهلين كل الشطحات التاريخية والبطولات الميلودرامية التي نسجتها قرائح الغالبين.
تبدأ سردية “بيرغر” التي خالف فيها النمط المعهود لسينما الحروب، إذ يقول إنه يَقدم مذبحة عقلية لا عرضًا ترفيهيًا بمشهد لضباعٍ صغيرةٍ نائمة بجانب والدتهم، يبدو الطقس باردًا والسماء ملبدة بالغيوم، ثمة دخان بارود كثيف يعبق في أجواء المكان المفروش بالجثث المُسجاةٍ على الأرض بلا هوادة، يموت أحد الضباع، فما كان من البقية إلا أن نهشوا لحمه وتناوبوا للقتات عليه يُرسل “بيرغر” إشارة أخرى تتمثل في غربان تحوم في السماء، منتظرة اِلتهام جثث الموتى مُشوهةُ المعالم بفعل الملح البارودي والأمطار الموحلة، التي خلفت وراءها بِركٌ مُستنقعيّة، أصبحت ملاذًا لآلاف الفئران والمئات من طيور الرخمة، ووسط هذا الجو شديد الكآبة، سوف يتم اقتياد الشاب البرليني الحالم “بول بومر” الذي لم يبلغ بعد العشرين من عمره، لذا سيضطر وتحت ضغط الحماسة الوطنية مفتونًا بالخطب الرنانة، والتي كان يُنشدها عليه معلمه العجوز، ذو الدماء المختلطة بالمدرسة الثانوية “كانتورك” إلى تزوير سَنداتِه الرسمية، ليبدو أكبر مما هو عليه، كي يتمكن من الالتحاق بصفوف الجيش الألماني، للقتال في أشد مناطق النزاع شراسة وأسوأها سمعةً بحسب ما وصفه جنرالات الحرب المذعورين: “الجبهة الغربية” لا يُجيد “بومر” أي شيءٍ من فنون الحرب، ولا يعرف متى بالضبط عليه أن يُطلق الرصاص، فقد ذهب إلى هناك مدفوعًا بكثير من حب المغامرة مع القليل من الحماسة الوطنية، واللذان سمحتا له أن يرى الحرب مجرد نزهة باريسية، لن يتكلف نفقاتها هذة المرة لأنها رحلة جماعية رفقة مليون ونصف برليني آخر.
لذا سيستوجب عليه أن يعاني كثيرًا ثمنًا لرؤيته الرومانسية تلك لنزاع أُممي، كان لا بد من أخذه على محمل الجد، فمنذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها أقدامه خطوط القتال تَكَشّفَ لـ”بومر” كم تبدو شكليات الموت مضحكة في الحرب، التي كانت من وجهة نظره مُصطلحٌ بلاغي للدلالة على وضع غامض ولكنه مثير تجسدت في واقعٍ مأساويٍ لقتلى مُشوهة المَعالم، يتنازع عليها البعوض والطيور، وأحياء منزوعو الأطراف، يبكون خوفًا وحنينًا قلقين من أن يموتوا دون شُهودٍ دون أن يُحسن إليهم ولو أحدٌ في فوضى الهلع وتلك النزعة في الخلاص الفردي من أغماض أعينهم، ووسط قذائف المدافع ودَويُّ القنابل، وصرخات الجرحي في الخنادق، لم يدرِ “بومر” من أين ذلك السائل المُتقد، الذي أحرق فخديه وخدر لسانه وأحاطه بوقارٍ كاذب ليقول “رباه … ليس هذا ما تصورته!”
سردية من لا سرد لهم
يقول “بيرغر” إنه يُقدم الحكاية هذه المرة من وجهة فردية، فإذ أمكن لنا تحريف طريقته المُنتقاه، في الكلام وقَوَلَبَتِهَا بحيث تُصبح وجهة نظر شخصية، فسوف يتبين لنا لماذا تعمد أن يتطرق عرضه بشكل كامل لحياة الجنود في ميدان القتال مع لفتة طفيفة ومظلمة لحياة القادة، وكأنه يقول لهم “إنكم لا تستحقون شرف الحياة، طالما بعيدون عن واقع الموت” فمن خلال “بومر” يتبين لنا ما عساها أن تفعل الحرب بعقول وقلوب الرجال، فذلك الشاب الذي كان من المفترض أن يصبح عازفًا أرعن بعد تخرجه في المدرسة ويتزوج من صديقته الخلاسية النظيفة، التي تعيش في “بافاريا” حولته الحرب عمليًا إلى “لا شيء” أفسدت روحه وسممت قلبه وبثت فيه بهجةَ الخوف ومتعة القتل وقَوَلَبَتَهُ ظاهريًا وباطنيًا إلى الرجل الذي تمنته في الخنادق ولكنة عاجلًا أم آجلًا سيموت مثل كل رجال الحرب، ولأنه لم يعد طفلًا يخاف من الظلام، بل بات وحش معسكرات فقد تعلم أخيرًا كيف ومتى يطلق الرصاص.
يدخلنا “بيرغر” في مشهد أقل ما يوصف أنه مُثير للشفقة على الأرواح الطاهرة، التي يمكن للكوارث الإنسانية أن تُشوهها من خلال عراك بالأيدي، وقع بين “بول بومر” وجندي فرنسي في أحد الخنادق التي حفرت بلا جدوى كي لا يموت أحد، يستطيع فيها “بومر” أن يتغلب على خصمه ويطعنه في سُويداء القلب، ثم يسقط بجانبه وهو يلتقط أنفاسه ناظرًا إليه والدم يخرج من فمه وعينيه تتمسكان بالحياة باحثًا في جيوب بِذته العسكرية عن قطعة خبز حتى يعثر على صورة له مع عائلته.
الآن أرى زوجتك ووجهك، سامحني أيها الرفيق نحن جميعًا نرى بعد فوات الأوان، لماذا لم يخبرونا أنكم فقراء مثلنا وأن أمهاتكم قلقات تمامًا مثل أمهاتنا، وأن لديكم نفس الخوف مثلنا ونفس الألم والخوف من الموت
هذا كل ما استطاع “بومر” قوله لضحيته بعدما لم يستطع تحمل طعم براز الحرب في فمه، تلك الحرب التي تسير في حلقة مفرغة حيث تجده دائمًا في المكان نفسه ولكنه دائمًا أكثر تلفًا من أي وقت مضي، أكثر هرمًا وخمود همه أكثر جهلًا بمتى وكيف ولماذا، ودائمًا ما أحد خارج الخندق أو في فترة راحة القتال بالثكنة يطلب منه أن يعيره قطعة خبز، لأن مؤنته نفدت منه قبل الموعد المفترض لها، أو أن أحدهم بحاجة إلى قنبلة من نوعية بعيدة المدى وشديدةُ الانفجار “Stielhandgranate” لأن هناك حشدًا من جنود فرنسيين على مسافة 40 مترًا، تعب من شكوكه وبكى طفولته وأمه وأباه وحماسته المُتأجِجِة، التي أودت به إلى أرض من يموتون دون شهود تلك، وبعينين تذرفان الدموع ولكنهما مفتوحتان من الغضب، أحس بالازدراء العميق لنفسه لوهلة لكنه أخطأ في اعتباره إحساسًا بالشفقة، وعاد ليكمل القتال حتى لا يموت أبدًا.
ينطبق ذلك الحال على ملايين الجنود الذين كانوا برفقة “بومر” على خطوط القتال وعانوا الشيء نفسه واضطروا إلى أن يكونوا آلة قتل دون أن يعرف كثير منهم لماذا يقاتلون، يُزَخِر “بيرغر” فيلمه بالمفارقات العبثية، التي تتحكم في حياة الجنود بالحروب ابتداء من موت أحد الجنود برصاص طفل وهو يحاول سرقة إوزة من مزرعة فرنسية قبل ست ساعات من سريان الهدنة، انتهاء بالمشهد الأشد قتامة وهو سقوط “بومر” قتيلًا قبل رُبع ساعة من الهدنة التي لاءمت شروطها كبرياء الجنرال “فوش”.
قليل من الخيال لا يقتل
يقول ” بيرغر” إنه يقدم وجهة نظره الشخصية أولًا، ثم حدث حدث تاريخي ثانيًا، وإنه لا مانع من أن تمتزج المخيلة الشعرية مع بعض الثوابت التاريخية في محاولة لما سماه هو “إضفاء القليل من الصباغ الملون على وجه الحقيقة القبيح”.
قال بثقة ملغزة عندما اتهم بتحريف رواية ذائعة الصيت مستخدمًا اسمها لأجل شهرة سريعة لعرضه “إنه ليس فيلمًا تاريخيًا، وحتى إن كان كذلك هل كل ما تناولته الرواية يبدو صحيحًا ؟! أوليس “ريمارك” أديبًا؟ أم كان مؤرخًا حربيًا!”
رغم ما تنطوي عليه تصريحات “بيرغر” من تناقض من حيث الاستدلال، إذ إن الجميع يعرف أن الرواية كتبها “ريمارك” من واقع مُعاش كأحد الجنود الذين شاركوا في الحرب وليس من خيالية شعرية لأديب، وبالتالي يمكن اعتبارها وثيقةَ مرورٍ لتوثيق لحظةٍ تاريخيةٍ، إلا أنها تبدو متوافقة من حيث السرد ما رؤية المؤرخ الألماني “فريدريش فون شيلر” الذي يقول إن تحليل الأحداث التاريخية وتفكيكها عمليًا بما يتوافق مع اللحظة المُعاشة لا يُخل على الإطلاق بقدسية الحدث ولا يفض عنه مهابته وانطلاقًا من رؤية “شيلر” والمنصفة بعض الشيء للمخرج يعج “بيرغر” فيلمه بكم مهول من الأخطاء التاريخية ابتداء من ظهور الجنرال”شليفن” في أحد المشاهد وهو يشرف على خطة العبور إلى فرنسا من بلجيكا أو ما تعرف تاريخيًا “خطة شليفن” على الرغم من موت الأخير قبل الحرب العالمية بأربع سنوات، وتولى الجنرال “هليموت مولتكا” الصغير “قيادة الأركان الألمانية” في تلك الفترة.
مرورًا بشخصية السياسي “ماتياس ازريبرغر” التي لا وجود لها في السرد الأدبي للرواية ولا السند الدلالي للتاريخ الألماني، الذي يظهر في بعض مشاهد الفيلم كونه الرجل الذي وقع معاهدة الاستسلام بعد تنازل الإمبراطور “فيلهام الثاني” عن العرش عام 1918.
كاميرا تعرف الحب
قبل شهر من كتابة ذلك المقال مدفوعًا بكثير من الفضول للبحث عن ماهية ذلك الرجل، الذي أُشيع عنه في الفترة الأخيرة أن الصراع الدائر الآن في غزة يخرج من بين أصابعه حتى أنه يمكن لمس أطره المحددة وما آل إليه من خلال ما يوثقه هو على حساباته الشخصية، أخدت بالانجرار في حساب شخصي على “فيسبوك” يحمل بالإنجليزية اسم “معتز عزايزة” كل ما توصلت إليه من خلال البيانات المتاحة والمدعومة رقميًا بإذن المستخدم: أنه فلسطينيًا خالص ويعمل مصورًا فوتوغرافيًا، ولأجل الظرف التاريخي المُعاش اضْطُر للعمل مصورًا ميدانيًا في زمن الحرب.
للأمانة، وبمجرد دخولك إلى صفحته الشخصية، ستدرك من كَمّ الصور التي التقطها بكاميراته، أن الحرب لها جانب آخر أشد فتكًا وأكثر دموية مما نتصوره نحن، أطفال موتى ونساء يَنتحِبن على هؤلاء الأطفال الموتى، رجال يبكون من ألم الفقد، وعجائز يطلبن الغوث، أبنيةٌ مهدمة، وأشلاء تحت الأنقاض، وكل شيء يجعل الإنسان يتحسس قلبه بحثًا عن الموضع الذي تعفنت فيه العواطف إذ لم يبكِ هؤلاء، عانيتُ من نوبة تطفل للبحث عن حياة ذلك الرجل الذي ما زال حيًا برغم ما يوثقه قبل السابع من أكتوبر وهو اليوم الذي ألقى فيه العالم على كاهله كل ثِقل واقعهُ المشؤوم، بأن يكون نافذةً يطل منها الجمهور على حرب.
فوجدتُ على خلاف صورهِ الدامية والمأساوية، صورًا لأشجار زيتون تظهر بدقة قطرات المطر المتبلورة على ثمارها، وأشجار لوزٍ مُعفرة ومكسَّرة، مع التدقيق المتعمد لإظهار أعشاش “أبي الحناء” فوقها وصيادون في بحر غزة يستعدون للرحيل في قواربهم الخشبية في الخامسة صباحًا، وفوق كل صورة يكتب جملته التعريفية بعمله “my pictures” كان مفعم بالبهجة والشباب الغض، وتعلو ضحكته العربية وجهَهُ، الذي له بريق معدني، هذا قبل أن تنال الحرب منها ويشتغل في رأسه خيط أبيض من الشيب، عزاه متابعوه إلى هولِ ما رأه من عذاب الحرب.
قارنته بأقدم ذكرى لدي منه في اليوم الذي كتب فيه تدوينةٍ يُعلن فيها انتهاء الحماس المتأجج لديه لأن كل ما يهمه الآن هو النجاة بروحه، بعد فشل المحاولات لكسر حلقة الحرب المفرغة التي يدور فيها والتي وسمته بحديدتها، فتحول إلى عرابها في أعين متابعيه الذين نصبوه بطلًا أبديًا لن يموت أبدًا، مفرغين عنه بساطتة كـ”بول بومر” في سينما “بيرغر” الذي كان يحلم أن يصبح عازف أرغن يعزف لعشاق الخامسة فجرًا في حدائق “برلين” المتوحدة قبل أن تمزقه الحرب وتحيله إلى خِرقة قديمة في مطبخ الحياة.
في مدح المأساة
في حكاية “بول بومر” يضطر الإنسان إلى العيش وفق اللحظة الزمنية التي فرضت عليه فيتحول ذلك الشاب الذي ذهب إلى الحرب كونها تجربة جديدة لكسر روتينه الأُسري شديد الصلابة، فيتحول إلى حيوان خنادق وقد، دُنست روحه بعد أن ذاق تجربة القتل الأولى، وفسد دمه بعد أن تلطخت ثيابه بدماء شباب مثله، كل مصيبتهم في الحياة أنهم لم يولدوا كألمان، لم تستطع روح “بومر” شديدة النقاء أن تصمد أمام دويّ المدافع وطلقات الرصاص وصرخات الجرحى ممن هم رفاقه في السلاح لذا سيتحول عمليًا إلى قاتل بصفة رسمية كونه محاربًا.
في حكاية “معتز عزايزة” يحاول البطل أن ينجو بروحه خوفًا من أن تسمم بدخان بارود الحرب، برغم ما يتعرض له البطل من مشاهد بصرية وحسية بل ويوثقها بكاميراته لآثار الدمار وصرخات الجرحى وبكاء ذوي المفقودين، فإنه حتى الآن ما زال محتفظًا بصورته النمطية المثبطة لسنوات ما قبل الحرب، بل على العكس تمامًا هو يتمنى انتهاء تلك الحرب، كي يتمكن من الرجوع لالتقاط صوره اليومية شديدة العادية لعصافير وحَمَائِم تُحلق فوق بحر غزة ونساء يبتعن ثمرات الزيتون من سوق غزة لاستخدامه منزليًا.
يقول هو في تدوينة نشرها على موقع “X” (تويتر سابقًا) إنه لا يحلم إلا بانتهاء ذلك الكابوس المتمثل في الحرب والرجوع إلى واقعه اليومي شديد العادية حيث لا يحلم إلا أن يعيش في سلام كما قبل السابع من أكتوبر.
يبدو التشابه القدري والتاريخي بين المحنتين متجليًا بعض الشيء، ولكن بفوارق سردية فالرؤية الأولى برغم أنها مستمدة من حدث مأساوي الآن فإنها مُتخيَلة، أما الثانية فهي واقعية حد لمسها بالأيدي، وفي النهاية لا جديد في الحرب.